مدينة الجنود التي لم تعرف الثورة·· بعد!

  • استطلاع : أشرف الريفي
  • منذ 18 سنة - Friday 02 December 2005
مدينة الجنود التي لم تعرف الثورة·· بعد!

خلف ستار العزلة ودوائر الإهمال والنسيان، تجثم مديرية الجنود التي لم تصلها الثورة بعد·
صورة قاتمة ترسخها الأوضاع المأساوية لمديرية آنس في ذاكرة زائرها· ومشاهد مؤلمة تلتقطها عيناك في رحلة تجول في حياة تعود بك أكثر من أربعين عاماً الى الوراء·
الأسبوع قبل الماضي، ثرت على روتين برنامجي الرمضاني الممل، واستجبت لدعوة الزميل أمين الصفاء لزيارة مديرية آنس، مع عدد من الصحافيين، لملامسة أوضاع المديرية البائسة·
ورغم مشقة الزيارة في يوم رمضاني، إلا أن هول المعاناة التي تعيشها المديرية، كان كفيلاً بتخفيف متاعب طريق يخيل للسائر فيها أنها تقوده الى مرتفعات تورا بورا·
لا علينا· فالزيارة التي كان هدفها الأساسي لدى المعدين لها، كشف الستار عن إهمال ومماطلة لإنجاز مشروع طريق حيوي يربط ثلاث محافظات وخمس مديريات، إلا أن ما وجدناه أوصلنا الى حقيقة أن إشكالية الطريق الوعرة غير المعبدة، تعد بمثابة سور يخفي وراءه مآسي آلاف المواطنين المحرومين من الخدمات الأساسية ومتطلبات العصر المغيبين عن إنجازاته·
منذ خروجنا من مدينة معبر، عبر طريق إسفلتي، صوب آنس، وطابع الإعجاب بالمناظر الخلابة المحاصرة للطريق، كان يخيل إلينا أننا نتجه صوب اللواء الأخضر، وليس آنس التي كنت -شخصياً- راسماً لها صورة يابسة في مخيلتي·
السيارة تقودنا في طريق سمح -الجمعة -مدينة الشرق، عبر بدايته الإسفلتية التي بدأها المقاول، ومن ثم توقف عن إكمال المشروع لأسباب يجهلها العديدون·
وقضية هذه الطريق المتعثرة تكشف لنا إحدى صور الفساد السائد في البلاد، والذي ترتطم على أسواره توجيهات القائد الأول في البلد، ووعوده المعتادة للجماهير التي تذوب في بوتقة الفوضى الحاصلة·
وسبق أن افتتح مشروع سفلتة الطريق رئيس الجمهورية، عام 2001م· وتم توثيق الحدث عن طريق الإعلام الرسمي المرئي والمسموع والمكتوب، لتنتهي الضجة الإعلامية، ويبقى حجر الأساس رمزاً لمسلسل كذب واستغفال لم ينتهِ بعد·
نائب رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، مر من هنا كذلك، وافتتح المشروع للمرة الثانية، تزامناً مع الانتخابات البرلمانية عام 2003م، لتبدأ مرحلة السفلتة لمسافة قصيرة، توقفت مع ضمان نجاح الحزب الحاكم في دوائر المديرية الخمس، الغائبة عنها المعارضة، رغم تهيؤ الأوضاع لنجاحها·
ما يقارب 67 كليومتراً طول المشروع، بتكلفة تبلغ حوالي مليار ومليوني ريال، حسب صحيفة الثورة الرسمية، لم ينجز منه سوى بضعة كيلومترات·
مقاول مسنود
يشاع في المنطقة أن المقاول معصار سلاب نقل معداته التي بدأ بها العمل، الى محافظات أخرى (ريمة، حيدان -صعدة)، دون أن يسأل عن ذلك من قبل جهة الإشراف على المشروع·· إن كانت موجودة أصلاً·
ومنذ عام 2003م حتى اليوم، والمشروع متعثر، والجهات المسؤولة نائمة·· ووحده المواطن يتحمل أعباء طريق تسببت بوفاة عديد مواطنين، وفرضت العزلة على المنطقة·
يقال إن المقاول مسنود بوزير الأشغال، حسب قول أحد المواطنين، فلذلك يتلاعب في تنفيذه· كما يلاحظ أن الأمر خرج من يد المحافظ الذي لجأ، في مذكرة الى وزير الأشغال، الى القول بأن المشروع متوقف نتيجة هطول الأمطار، وما تم إنجازه من أعمال السفلتة لايتعدى 2كم، على وشك التهدم·· مطالباً باستئناف العمل في المشروع نظراً لأهميته·
مذكرة وجهها وكيل وزارة الأشغال لقطاع الطرق، الى مدير عام المشاريع بالمؤسسة العامة للطرق والجسور، وجهت بضرورة إلزام المقاول بسرعة العمل في المشروع، إلا أن ذلك لم يتم حتى الآن·
خمس مديريات يربطها المشروع، هي: جبل الشرق، ضوران، حمام علي، جهران، وبني خالد، كما يربط ثلاث محافظات، هي: ذمار، الحديدة، وريمة·

الحمير·· بديلاً
توقفت السيارة في منطقة نجد الملاحي· وفيها تحدث إلينا المواطن هادي محمد فارع السفياني، قائلاً: الطريق من عهد الحمدي· ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، لم تعبد، رغم أننا بذلنا أراضينا أثناء عملية المسح، التي دفنت عين ماء كنا نستفيد منها·
ما لفت الانتباه هو كثرة تواجد الحمير على جانبي الطريق، إذ يستخدمها أبناء المنطقة لقهر وعورة المنطقة، ونقل احتياجاتهم·
بمجرد ابتعادنا عن منطقة الفرشة الجبلية، فارقنا الخط الإسفلتي المتقطع والمهترئ في بعض أجزائه، وبدأنا رحلة شاقة مع طريق ترابية وعرة تخترق الجبال والهضاب· وحتماً، إن الطريق تُدخل الراكب محطة متعبة·
كانت السيارة تفور فوق النتوءات الصخرية والحفر الموجودة في الطريق الطويلة بتعبها وعدم جاهزيتها· وكانت أجسادنا تستسلم لعملية الرج المرهقة، في ظل بطون خاوية تترقب موعد أذان المغرب، الذي قرب دون أن ننهي سفرنا للوصول الى مدينة الشرق·
تجاوزنا جبل ستران ومنحنياته المدوخة، وتخطينا سلسلة جبال بني سويد الشاهقة·
يخيل لك وأنت تزور هذه المديرية، أنك تعيش في الخمسينيات والستينيات، فلا وجه للنهضة هنا، ولا معالم للتطور العمراني الحديث، ومازالت المنازل بثوبها القديم، والمدارس برقم خجول لايناسب المديرية الواسعة· كما لازالت الفوانيس تؤنس وحشة معظم أبناء المنطقة في ظلام الليل، في ظل غياب الكهرباء العمومية، رغم أن أعمدتها تنتصب في أراضيها·
ملامح بؤس تقابلك بها وجوه أبناء المديرية، ربما لايشعر به عدد بسيط فقط من أبنائها الذين غادروا المنطقة الى كراسي الحكم ومناصب الدولة الفاسدة، غير مبالين بمآسي الأرض التي احتضنتهم، ودفعتهم الى أحضان السلطة الدافئة·
عديد مسؤولين تبوأوا مناصب عالية في الدولة حتى في رئاسة الجمهورية، كانوا يوماً ما يعاصرون جحيم المعاناة، إلا أنهم تنكروا لمنطقتهم، واهتموا بمصالحهم الزائفة، ولم يتبقَّ من آنس سوى لقب يلحق بأسماء بعضهم·

عهد الحمدي
للشهيد إبراهيم الحمدي، رحمه الله، ذكرى طيبة في ذاكرة ووجدان أبناء المنطقة· وبمجرد أن تسأل شخصاً عن أي مشروع ربما تجاوزه الزمن في المديرية، تواجهك إجابة موحدة مفادها: هذا من عهد الحمدي· كما يحدثك البعض بعفوية صادقة توضح مكان الشهيد القائد، وهو يسرد حديثه عن إبراهيم القائد الذي كان أمل الشعب في السير نحو التطور، إلا أن أيادي الغدر اغتالت مشروع التحديث، وكوت الشعب بمشروعها المدمر·
يقول البعض: هذا من عهد إبراهيم· وأول زيارة للمنطقة من مسؤولي البلد، كانت من إبراهيم··· مازالوا يتغنون بالعصر الذهبي للثورة اليمنية التي أجهضت· ومازال القائد الذي عمل من أجلهم، يسكنهم حتى اليوم·· وليخسأ المزيفون·
المعروف عن أبناء المنطقة أن ما يقارب 99% من رجالها يلتحقون بالسلك العسكري، وأن أعداداً هائلة من الحروب التي تشهدها البلاد، يقدم فيها أبناء آنس قوافل عديدة من القتلى، آخرها حرب صعدة، حسب عديد أهالٍ·
والمشكلة أن مديرية الجنود هذه، التي تساقط أعداد كبيرة من أبنائها في حروب السلطة المتتالية، ومعارك الدفاع عن الثورة اليمنية، يبحثون عن إنجازات الثورة التي لم تصل خيراتها إليهم بعد، ولم يلمسوا أهدافها حتى الآن··!
المديرية لو زرتها قبل عشرين عاماً، لوجدتها هي نفسها الحزينة الواقفة أمامك اليوم· هكذا تحدث المحامي أحمد الحماطي للصحافيين، نيابة عن أبناء المديرية·

تخلف
المنطقة تعاني من تخلف في جميع المجالات: الزراعي، التنموي، المدني والاقتصادي· وكانت مؤهلة لأن تنهض نهضة غير عادية في حالة مرور الطريق من معبر الى باجل، إلا أن مرورها في منطقة أخرى حال دون ذلك، رغم أن الكثافة السكانية كانت تؤهل المنطقة في المقامة، حسب قول الأخ أحمد الحماطي·
ويضيف الحماطي: تخلف الطريق جعل المنطقة راكدة· رغم أن المنطقة زراعية، تنتج البن والحبوب، وتتوفر فيها مزارع الدواجن، إلا أن رداءة الطريق ترفع سعر كلفة التسويق·
وتحدث المحامي عن التخلف التربوي في المنطقة؛ لامتناع الآباء عن إرسال أبنائهم الى عواصم المدن للتعليم، نظراً لارتفاع كلفة النقل والمواصلات، خصوصاً والأهالي يعدون من الشريحة المسحوقة اقتصادياً· ويشير الى أن ما يقارب 80% من خريجي المرحلة الإعدادية، محرومون من الالتحاق بالمرحلة الثانوية، بسبب بُعد المدرسة الثانوية الموجودة في منطقة الجمعة·
نسبة الوفيات في المنطقة مرتفعة، خصوصاً بين النساء والأطفال، لعدم وجود مراكز صحية قريبة، ووعورة الطريق، حسب قول الحماطي، الذي كشف وجود ما أسماها بالحانات التي تبيع الأدوية، في ظل غياب المستشفيات المثالية·
وأوضح وجود مآسٍ صحية عديدة، تتبدى في الإسعافات العشوائية، والمتاجرة بالخدمات الصحية وأرواح الناس·
كما أشار الى عدم وجود وسائل تشخيص المرض، ولا فحوصات أو كشافات·· وما على المريض إلا الذهاب الى ذمار أو صنعاء·

خسائر
وأرجع المحامي الحماطي سبب التخلف المعماري في المنطقة، الى وعورة الطريق التي تحول دون ذلك·
أراضٍ زراعية كبيرة دمرت بسبب هجرة أعداد هائلة من أبناء المنطقة الى المدينة· والحكومة تتحمل المسؤولية الكاملة في ذلك هذا·· ما قاله المواطن عبدالله فاضل، الذي طالب أعضاء مجلس النواب الخمسة الذين يمثلون المديرية، بتحمل مسؤولياتهم، والمطالبة باحتياجات المديرية من مشاريع·
الأسعار في آنس ترتفع بشكل جنوني، خصوصاً اذا علمنا أن سعر الكيلو الطماطم يصل الى 300 ريال، وسعر الاسطوانة الغاز  أكثر من600، والكيس القمح فوق الـ 3000 ريال·

تنكر
ما يطلبه أهالي آنس هو مكأفاة أبناء المديرية الذين وهبوا أرواحهم في سبيل الحروب التي خاضتها السلطة خلال العقود الماضية، بدلاً من تعويض أشخاص قامت على ظلمهم وجورهم ثورة صرنا بأمس الحاجة إليها اليوم·
شهداء عديدون قدمتهم المديرية منذ اندلاع الثورة حتى اليوم، يجب أن يكرموا بوصول إنجازات الثورة الى منطقتهم، حتى يشعر أبناء المديرية أن تلك الدماء لم تذهب هدراً·
هذه مآسي مديرية مثقلة بأحزان أليمة وويلات سلطة جائرة، يجب ألا تستمر·

قفشة:
بعد تولي الرئيس إبراهيم الحمدي دفة الحكم، بشهور قليلة، زار المنطقة، وقام بافتتاح عديد مشاريع، مازالت قائمة حتى اليوم· إلا أني أخشى أن يكون الزميل وليد البكس محقاً في تعليقه بأن زيارة الحمدي تلك، كانت سبباً رئيسياً للإهمال الذي تعانيه المنطقة اليوم·
هذه هي آنس المنسية من التزامات دستورية، يجب على السلطة تحقيقها دون منة أو تهليل، كما عودتنا·
ندرك أن هذه الأوضاع ما هي إلا صورة مبسطة لمعاناة أليمة يعيشها معظم مناطق البلاد النائية، لتظل الفوانيس والحمير شواهد على إنجازات 28 عاماً منذ الرحيل الأليم·