من الأمور التي لا يختلف عليها عاقلان بأن ناصر السعيد قد يعتبر أول شخصية معارضة حقيقية على أساس علمي و منهجي سياسي. و لكن ، دعونا ننظر إلى حيثيات معارضة هذا الرجل .
لقد قام ناصر السعيد بمحاولات كثيرة للتحرر من "عبودية الحكم السعودي" حسب تعبيراته و محاربة الفساد الذي بدأ في زمنه و الذي قد يكون أقل بقليل عما هو الآن . و يذكر له ، مواجهته للملك سعود بن عبدالعزيز بعريضة مهمة طالبه فيها بإجراء إصلاحات شاملة على نظام الحكم و تنظيم صرف موارد الدولة و تقنين صلاحيات الوزراء و الأمراء من الأسرة المالكة و غيرها من المطالب الوطنية الملحة ذلك الوقت . و قد كان هذا أثناء حفل ترحيبي بجلالة الملك سعود في مدينة حائل . و من الطبيعي ان يكون مصيره الإبعاد عن الوطن بعد أن إستطاع أن يفلت من سيف الجلاد .
و كان ناصر السعيد دائما يطالب بنظام عادل أول من شرعه و أتى به هو الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه و على آل بيته الطيبين الطاهرين. حيث أنه صلى الله عليه و على آله أول مؤسس لحكم عادل على وجه الأرض و هذه حقيقة لا يختلف عليها عاقلان.
بالطبع ، كانت محاولات ناصر السعيد و جهاده السياسي و معارضته تدور في وقت كان أبناء شبه الجزيرة العربية الأحرار يغطون في سبات عميق و يعم أغلبهم الجهل و الأمية ببواطن أمور المعرفة السياسية إلا من رحمربي.
ولهذا لم يجد صوتا شعبيا حقيقيا يدعم فكره و يعينه حتى تتبلور أفكاره و تصبح منبرا للمطالبة بالحريات كما يحاول الكثير أن يفعل حاليا . و من المؤكد أيضا أن الحكومة في ذلك الوقت كانت تعي أفكاره جيدا و تضغط من جهتها حتى لا تصل أفكاره إلى الشارع العام (الشعب).
و إحقاقا للحق ، فإن هذا الرجل قد تنازل عن كثير من حقوقه الوطنيه و حتى الإنسانية حتى يصل بأفكاره إلى الملأ و لكن ماذا كانت المعضلة الحقيقية وراء ذلك ؟
لقد كان ناصر السعيد مشدوها بنظام العدالة الاجتماعية وأراد أن يوضح لشعب شبه الجزيرة العربية نظرته و حلمه في تأسيس دولة و لم يخفي نزعته والتي تسارع بسببها علماء النظام السعودي بتكفيره " .
فإن كنا الآن نعتقد بأننا نطبق جانبا من الرأسماليه و مع ذلك ها نحن نرزح تحت طائلة من الديون الخارجية و الفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة بلا إستثناء.
بإختصار ، كان ناصر السعيد ينظّر لدولة عربية على أساس غطاء "الإشتراكيه الإسلاميه" و قد أجزم بأنه لم يكن ليستطع عمل ذلك دون دعم إما من الكتلة الشرقية ذاتها أو من الزعيم جمال عبدالناصر الذي كان أيضا معجبا بنظام العدالة الاجتماعية
و في هذه الأثناء (عهد حركة تحرير شبه الجزيرة العربية) التي يتزعمها ناصر السعيد ، قامت حركة جديده أطلقت على نفسها "حركة الأمراء الأحرار" بقيادة الأمير طلال بن عبدالعزيز حينما لجأ مع أخويه إلى الزعيم جمال عبدالناصر . و كانت هذه الحركة تنادي بتدوال السلطه و كانت أيضا تدّعي تأييدها للفكر الناصري علنا و الذي كان متمثلا في الوحدة و القومية و الإشتراكيه. .
و شهادة الحق تقال ، أن حركة الأمراء الأحرار قد أتت أكُلها و حدّت من طبيعة و جُماح ناصر السعيد و حركته التحرّريّه . و نجحت في تهميشها الذي كان متمثلا في إنسحاب كثير من مؤيدي ناصر السعيد إلى كتلة الأمراء الأحرار من مبدأ (التغيير من داخل الأسرة أكثر أمنا و أكثر نصيبا في الإنتصار) .
و أقول هنا " أتت أكُلها" ، لأن الشواهد لاحقا أثبتت أن "حركة الأمراء الأحرار" كانت حركة زائفة قامت في الأصل بتشكيل مباشر من الأسرة المالكة نفسها و إختيار أمراء معينين حتى يسحبوا البساط من تحت قدميّ ناصر السعيد الذي كان كابوسا فظيعا يقضّ مضاجع الدولة في وقته و أظنه مازال ( الكابوس ).
و يشاء السميع العليم بجعل الأمير طلال بن عبدالعزيز يدعم ما أعتقد به دون إنتباه منه و بطريقة غير مباشره حينما سأله أحمد منصور (معد و مقدم برنامج شاهد على العصر – قناة الجزيرة الفضائية ) عن ماهية و برامج حركة الأمراء الأحرار في ذلك الوقت ؟ فأجابه الأمير بلا تفكير : لقد كانت "لعب عيال" حسب تعبيره !!!
فلماذا إذاً إغترب الأمير عن أهله و وطنه و خسر ودّهم إن كان هذا مجرّد "لعب عيال" ؟؟؟
و من هنا يأتي تساؤل آخر !
كيف و هم كانوا معارضين لحكم إخوانهم و أسرتهم و ينادون بالتغيير ، إلا أنّ الأموال تودع لهم في حساباتهم من الداخل ؟؟؟ !!!
و قد يكون جليا لأبناء شعبنا أن الأمير طلال و الأمير تركي الذي لازال يقطن القاهرة من أغنى أغنياء الأسرة المالكة و بالتالي أولادهم . و لا أعتقد بأنهم قد عملوا عملا يدر عليهم كل هذا الأموال الطائلة مع الأخذ بعين الإعتبار المصاريف التي تكبدوها من جراء إنشاء إذاعة لهم و صحافة و منشورات و غيره . و لا يمكن للحكومة المصرية أن تدعمهم دعما ماليا كبيرا حيث أنها نفسها في ذلك الوقت كانت تستجدي الروس و الأمريكان في وقت واحد للمساعدة في إنماء و تعمير بلدهم.
ثم توفي الزعيم جمال عبدالناصر ، فسحب البساط بديهيا من تحت أقدام الحركتين "حركة تحرير شبه الجزيره" (ناصر السعيد ) و" حركة الأمراء الأحرار" (طلال بن عبدالعزيز) . و كأن شيئا لم يكن . و كان هذا في نهاية الستينيات. و إن كان ناصر السعيد إستمر في معارضته الشخصية حتى عام 1988 ميلاديه.
و في أوائل الثمانينيات و بالتحديد في غرة شهر محرم الحرام من عام 1400 للهجرة النبوية المباركه ، قام شخص يدعى ( جهيمان ) و معه مجموعه من الإسلاميين المتطرفين و إستباحوا بيت الله الحرام و أعلنوا على الملأ إنهم بصدد تغيير الظلم الواقع من الدولة و الفساد المستشري و إستبداله بنظام إسلامي حسب مفهومهم . و أقول مفهومهم لأنهم كانوا من أوائل الحركات الوهابية المتطرفة او ما يسمى حاليا بالطالبانيه .
بالطبع فإن ما ذكرته يتناقض مع ما أعلنته الدولة على وسائل الإعلام و أوهمت الشعب به بأن قائد هذه المجموعه قد إدعى أنه هو المهدي المنتظر و البقية تعلمونها .
و هنا تدخلت العناية الإلهية مرة أخرى و ليس فقط لحماية بيت الله الحرام بل لمنع قيام نظام متطرف طالباني . و تمكنت الدولة من دحرهم و الإيقاع بهم.
ثم ماتت الحركات التحرريه أو ما يسمى بالمعارضه حتى هلّت علينا أزمة الخليج المفتعلة و معركتها التي سميت بعاصفة الصحراء أو تحرير الكويت من براثن العدوان العراقي حسب ما جاء على لسان المصادر الرسمية ذلك الوقت .
و ظهر لنا على الساحة حديثا محمد المسعري متزعما حركة جديده تسمى بالإصلاح الإسلامية !!!
و محمد المسعري هو إبن رئيس ديوان المظالم سابقا ، و قد ذهب إلى بريطانيا و لجأ بها و عكف على إنشاء و تأسيس حركة الإصلاح الإسلامية . و كانت هذه من أقوى الضربات على الحكومة السعوديه و ذلك لقوة الإعلام في ذلك الوقت و إنفتاحه و بداية نهاية التعتيم الصحفي و الإعلامي التي كانت الحكومه تمارسه على شعبنا الحر الأبيّ .
ثم بدأ محمد المسعري بمحاولة إظهار أنواع الفساد بالوثائق و لكن لم يكن لديه برنامج حقيقي للمعارضة أو إستراتيجيات التغيير . ثم إتخذ له حليفا جديدا في عالم المعارضة هو الدكتور سعد الفقيه ( الزعيم الحالي ل "حركة الإصلاح الإسلامية" ) مقرها لندن، المملكة المتحدة .
و لكن، إختلف الإثنان في نوعية المعارضة و كيفيتها و السياسة التي يجب إتباعها و من ثم توصلوا إلى حل ، و كان هذا الحل أن يترك محمد المسعري إدارة و ملكية حركة الإصلاح الإسلامية للدكتور سعد الفقيه و أن يخرج المسعري منها مثخنا بجراح السنين التي أمضاها يبني و لكنه أيقن بأنه كان يبني بناءا هشا واهيا و أوهن من بيت العنكبوت .