الرئيسية الأخبار عربي ودولي

  • منذ 18 سنة - Tuesday 06 September 2005

الوحدة: هى قضية محاضرة هيكل الجديدة.
رؤية متكاملة، ومدققة، وموثقة لقضية الفكرة العربية والوحدوية نشوءاً وصعوداً: منذ الأربعينيات الماضية.
ومن التأصيل، إلى الاستشراف.
مزج الأستاذ بين إرهاصات وجذور نشأة الجامعة العربية فى منتصف الأربعينيات.
وبين أصول وجذور فكرة القومية والوحدة العربية فى مصر والوطن العربي.
ولذلك ترددت كثيراً فى محاضرته القيمة أسماء كثيرة على الجانبين
على الجانب الفكرى والنظرى المبشر:
ساطع الحصرى قسطنطين زريق مكرم عبيد أحمد أمين طلعت حرب... وغيرهم.
وعلى الجانب العملى والسياسى المباشر:
شكرى القوتلى نورى السعيد الملك فاروق مصطفى النحاس عبد الرحمن عزام... وغيرهم.
يقول الأستاذ:
فى عام: 1944 1945 كنت على المستوى الشخصى أقوم بانتقال فى حياتى من جريدة ايجيبشيان جازيت إلى الصحافة المصرية، إلى مجلة آخر ساعة مع الأستاذ محمد التابعي.
ذهبت إلى الأستاذ التابعى والتقيت به... لأول مرة أرى هذا الصحفى العملاق وأنا اعتبره بأمانة وبجد أفضل وأحلى من كتب صحفياً باللغة العربية.
فى هذا اللقاء الأول بالأستاذ التابعى سألنى عما أهتم به المجالات التى عملت بها وإن كان تعرف على بعض ذلك من هارولد إيريل رئيس تحريرى السابق. ورحت أركز فى حديثى على ما كان يشغلنى طبيعياً فى ال جازيت، وقد كان موضوعين: الأول هو مشروعات ما بعد الحرب التى يدعو إليها الوزير عبد الحميد عبد الحق، والثانى تمثل فيما رأيته فى اتحاد الصناعات المصرية واطلعت عليه بشأن عملية النهب المستمرة لمصر وبانتظام.
استمع الأستاذ التابعى لما أقول.. وعقب قائلاً وقد كان رقيقاً معي:
إن ما قمت به فى ال جازيت هو تدريب وإعداد ممتاز لصحفي، لكنه يؤهلك للعمل فى الصحافة الأجنبية لسبب أساسى هو أن اهتمامات القارئ المصرى مختلفة... كذلك فإن مجلة آخر ساعة فى ذلك الوقت مجلة أسبوعية لها جمهور، وكل ما تعلمته وأعددت نفسك له يمكن بالطبع أن يلائم ظروفاً أخري
وأضاف ما أعتبرته أغرب اقتراح بالنسبة لى وقتها:
أنا أريدك أن تجرب المسرح...
قلت لنفسي.. بعد الحرب والوباء واستجواب الكتاب الأسود وصبحى وحيدة وعلى الشمسي.... المسرح.. كيف؟. ومع ذلك فأنا إعجاباً وتقديراً للرجل ذهبت إلى المسرح.
وقمت بتجربة فى المسرح لم تستغرق أكثر من أسبوعين.
أول شخصية فكرت أن التقى بها: نجيب الريحاني... وقد التقيت به ورأيت من كواليس مسرحه وكنا فى ربيع 1944 مسرحية 30 يوم فى السجن.. ومع أنى لم أكن أحب السهر حتى فى شبابي.
ودعانى بعد أن انتهت المسرحية إلى قهوة فى شارع عماد الدين كانت تسمى البوديجا... وكلمته وتبادلنا الحديث وإذا بنجيب الريحانى يقول لي: أنا استمعت إليك يا بنى الآن.. ويبدو لى أن اهتماماتك وما يشغلك فى مجالات أخري...
والحق أن الأستاذ التابعى شعر بذلك أيضاً.. وفاجأنى باقتراح رائع، قال لي: أنت مهتم بمشروعات ما بعد الحرب... هناك أحد مشروعات ما بعد الحرب لكن أمره مختلف.. يوجد كلام جارى اليوم حول مشروع جامعة الدول العربية، وهذا مجال فيه أخبار بلا حدود لأهميته... والنحاس باشا والوفد مهتمان به.
وقد تبين لى بعدها أن النحاس باشا والملك فاروق يتسابق كل منهما ليضع توقيعه على ذلك المشروع.. على شيء قادم.. ما هو؟.. إن العالم العربى بدأت تتنازعه عوامل كثيرة.. الحرب العالمية الثانية توشك على النهاية.. وفى الخارج بدأ العالم يتحدث عما بعد الحرب، وبدأت تطرح فكرة الأمم المتحدة، وصدر بيان الأطلسى الأول عندما التقى تشرشل بروزفلت أعلنوا بياناً لشعوب العالم التى اتحدت للقتال ضد النازية، وقالوا أنهم سوف يضعون لهذه الأمم المتحدة نظاماً وميثاقاً يرتب أمور عالم ما بعد الحرب، بطريقة أخرى مختلفة عن تنظيم عصبة الأمم.
والعالم العربى بدأ يتنبه بشكل ما، إلى أنه أمام عالم آخر ينظم نفسه.. وصارت هناك دعوات لإنشاء جامعة للدول العربية، وبدأت اتصالات فى هذا الشأن...
هكذا اقترح على الأستاذ التابعى هذا الموضوع، من خلال اهتمامى بمشروعات ما بعد الحرب، وفى رأيه أن ما ينادى به الأستاذ عبد الحميد عبد الحق أمامه وقت طويل وفيه كلام عن أمور كالتأمين الصحي.. وغيره، عملياً لن يتم بيسر وصحفياً ربما ممل لا يصلح لقاريء آخر ساعة ولن يأتى بأخبار... لكن عملية إنشاء الجامعة العربية قد تعطينى مجالاً يتفق مع تصوراتى لما بعد الحرب، وهو أيضاً يمكن أن يكون مهماً ل آخر ساعة.
والحق أن الأستاذ التابعى كان كريماً معى للغاية عندما دعاني.. مع إن ما مر من عملى معه كان حوالى شهر إلى الذهاب معه مساء اليوم لمقابلة وفد عربى سيتناول العشاء فى منزله... وهو يعتقد أنها مجموعة سوف تكون من أهم مصادري.
فأنا يومها فى ربيع 1944 وجدت نفسى فى منزله ب الزمالك، وأظن أن هذه بالنسبة لى كانت ليلة مهمة بحق... لأنه فى هذه الليلة رأيت أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكى لأول ولآخر مرة.. ورأيت معه حفنى محمود باشا أحد أقطاب الأحرار الدستوريين، عسران عبد الكريم وكيل وزارة الحربية، والأستاذ سليمان نجيب، والسيدة ليلى مراد، والأستاذين على ومصطفى أمين والأستاذ كامل الشناوي، وعلى ناحية الضيوف العرب: رياض الصلح بك رئيس وزراء لبنان ومن لبنان كذلك وزير الخارجية ورئيس البرلمان ومجموعة من الصحفيين بينهم الأستاذ سعيد فريحة...
فى هذه الليلة: رأيت صورة أخرى من مجتمع القاهرة، لم تكن موجودة فى رؤاى السابقة، ولكن فى هذا المساء وفى ذلك المجال المصرى أُتيحت لى تلك الصورة.
وفى الصباح كنت ملازماً لرياض الصلح فى جولته بالقاهرة، وبدا هناك أفق جديد يتفتح أمامي.. لكن أمامى أيضاً إلى جانب ذلك مشروع جديد يبدأ، بل كان هناك مشروعان جديدان متلازمان: مشروع الجامعة العربية، الذى بدا لى عندما أخذت أبحث وأدرس أن له جذورا.. والمشروع الآخر هو الأمم المتحدة، لكنه كان بعيداً.
***
كان فى تصور الملوك العرب أنه بعد سقوط الخلافة العثمانية سوف يكون هناك إطار جامع لهذه المنطقة.. لكن ملوك العرب يتصارعون علي: من الذى يتصدي؟ ومن يسبق إلى الخلافة؟.
ثم عندما يأست الأسر المالكة من موضوع الخلافة الشاملة بدأت تظهر مشروعات عن الوحدة بشكل جزئي... بدأنا نسمع عما يسمى مشروع الهلال الخصيب الذى يشجعه نورى السعيد باشا، والهلال الخصيب يضم العراق وسوريا ولبنان والأردن... وقد كان الملك عبد العزيز يعارض ذلك فى حقيقة الأمر.
كما كان هناك مشروع سوريا الكبرى أمام الهلال الخصيب وكان يشجعه الملك عبد الله فى الأردن.
وكان الملك عبد العزيز متشككاً فى كل الهاشميين، وما كان فى ذهنه هو إمكانية.. لتوحيد شبه الجزيرة العربية كلها، لكن الإنجليز وشركات البترول يتصديان له فى ذلك.
أما مصر فكان لديها توجه عربي، وفى تلك الفترة فإنه قد أخذ هذا التوجه فى التبلور بشكل قوي.
منذ أيام قليلة قرأت مقالاً لأحد المؤرخين المعاصرين المهمين وهو د. يونان لبيب رزق، ويكتب فيه عن تجربة زيارة وفد عراقى من الشباب إلى القاهرة سنة 1935 ويحكى كيف تحدثوا فى قضايا عمل عربى يشغلهم وأنهم التقوا بأسماء معروفة مثل: عبد الرحمن عزام، وعلى ماهر، وطلعت حرب... وقد كان طلعت حرب صاحب رؤية عربية إلى جانب أنه صاحب رؤية اقتصادية مصرية، وكان رجلاً متفهماً لطبيعة هذه المنطقة ويرى أنها عندما تتحدث سياسياً وثقافياً فإنه يجب أن تتحدث بنوع من الوحدة، كما أنها مطالبة بنوع من العمل الإقتصادى المشترك.
من الأخطاء الكبيرة والتى ظهرت فيما بعد أن كلمة وحدة ارتبطت بفكرة الاندماج.. وذلك فى رأيى كان الذهاب إليه مبكراً جداً، كان لابد لهذه الدول حديثة العهد بالاستقلال أن ترتبط بجامع مشترك يربط مصالحها وقواها وأمنها دون أن يعنى ذلك زوال استقلالها.. فلسان حالها: أنا على استعداد لأن أكون داخل عائلة ولكن بشخصيتى المحلية والمستقلة.
لدينا من الجوامع المشتركة اللغة، والثقافة، وغيرها كماً مذهلاً... وعندما بويع شوقى أميراً للشعراء أو عندما كانت الجامعة المصرية هى منارة العلم فى المنطقة القوة الناعمة لمصر لم يكن ذلك مصادفة.
كانت مصر فى ذلك تعد عقبة على نحو ما... وقد كان قلب مصر عربياً وعقلها عربياً، لكن عندها خيالات أخرى من نوع مختلف.
فبعد الحملة الفرنسية.. ابتعدت مصر عن هذا الكل العربى الذى كان لا يزال عثمانياً وقد شارك العالم العربى معها فى بناء قوى ناعمة مصرية، لكن مصر كان لديها إحساس بشكل أو آخر أنها مختلفة.
جدّت ثلاثة أمور فى اعتقادي:
** الأمر الأول: البعثات التى أرسلها محمد على والتى كان بها رفاعة الطهطاوي... عاد الطهطاوى وألّف كتابه البديع تخليص الإبريز فى تلخيص باريس ونقل كل فكر الثورة الفرنسية وكل أفكار فلسفة التنوير والتحرير.. ليصنع بذلك فى مصر حالة متميزة ثقافياً وتعليمياً، وقد كان الدور التعليمى الإسلامى موجوداً فى الأزهر، تقليدياً.. لكن بدأ رفاعة هذا المعلم الأول يؤسس تياراً جديداً، أيقظ نوازع وطنية.
** الأمر الثاني: هو أن الشباب القادم من تلك البعثات وجدوا لأول مرة ونحن قد لا نلتفت إلى ذلك أنه لا توجد خريطة لمصر تنشر على نطاق يتعلمه الطلاب فى المدارس، ولقد كانت هذه أول مرة يطلع فيها شباب مصرى متعلم على خريطة مصر.
ومن ينظر إلى خريطة مصر يقع فى ذهنه على الفور وهم: أنه أمام كيان منعزل... وأعتقد أن خريطة مصر فى حد ذاتها، موحية بأشياء تستوجب العزلة مع الأسف الشديد.
حدود عند البحر المتوسط.. وحدود عند البحرالأحمر، حدود جنوباً مع السودان... الوادى فى الداخل يكاد يكون محدداً بالضبط فى شكل الرقم 7.. ينزل منها خط إلى الجنوب، ومن حولها صحار وبحار تكاد تعزلها عن الباقى كله.
لقد حدث عندنا ما يمكن أن أسميه اليوم ب وهم الخريطة.
** الأمر الثالث المهم أيضاً: كان الاكتشافات الفرعونية، وقد صنعت الاكتشافات الفرعونية فى مصر فى ذلك الوقت جدلاً، وهو لا يزال مستمراً حتى اليوم.
وأزعم أن العصر الحضارى المصرى القديم: هو عصر أعطى ما عنده من خير لورثة له قد أعطى قيمة غنية جداً لكنه بحياته وأرائه وأفكاره.. ذهب.
ونعجب من البعض الذين لا يدركون أن هذه حضارة أعطت ما عندها ولم يعد فى مقدورها أن تعيش، ولم تعد صالحة لأزمنة أخري.
قال لى فى مرة أندريه مالرو الأديب الفرنسى الشهير أثناء تناولنا للغداء فى باريس وضمن مناقشة طويلة: إن مصر.. اخترعت الأبدية.
تحدث المصريون القدماء عن القبر وعن الأبدية أكثر مما تحدثوا عن الحياة.
لكن عندما تم اكتشاف توت عنخ آمون والأثار الفرعونية بُهر الشعب المصرى وبدأ ينظر إلى الماضى بأكثر مما يجب... وقد دارت مناقشة شعرية بين أحمد شوقى وخليل مطران.
خليل مطران، وهو شاعر سوري، وجد أن مصر مأخوذة جداً بهذه الحضارة الفرعونية.. قال: فعظّمَت فوق تاج الذل قاهرها / وقبّلت دمها فى المرمر القاني... فهو يعتبر أن ملايين البشر الذين اشتركوا فى بناء الهرم لم يأخذوا شيئاً.. وقد سالت دماؤهم على المرمر الجرانيت.
رد أحمد شوقي، وهو بدوره كان من أصل تركي.. لكنه كان يحس بشعور المصريين، قال: هو من بناء الظلم إلا أنه / يبيض وجه الظلم منه ويُشرق.
هذان البيتان فى واقع الأمر يعبران عن حيرة حضارية فى انتماء مصر.
لا أريد أن أخوض كثيراً فى ذلك على أى حال... أو فى الوهم سواء الوهم الفرعوني، أو الوهم الأوروبى وقت الخديو إسماعيل وكأن القارات من الممكن أن تنتقل من هنا إلى هنا عبر البحر.. وهذا بالطبع لا يصلح... وقد نفترض أن مصر قطعة من أوروبا ثقافياً... لكن أمنياً وجغرافياً واقتصادياً وحياتياً هى هنا.. جزء منها موجود فى أفريقيا، متصل بجزء آخر فى آسيا وهذا هو الجانب الفاعل من حياتها.
***
من خلال عملى فى آخر ساعة وتغطيتى للمناقشات حول مشروع الجامعة العربية والشخصيات القائمة على ذلك.. وجدت نفسى أهتم بالعمل العربي، واتحرك بشكل جاد ومن اليوم التالى لدعوة التابعى لاستقصاء جوانب هذه القصة المهمة.
** الملك فاروق وهذه شهادة له كان متحمساً للغاية، بصرف النظر عن أراء من يقولون أن الملك فاروق كان يريد تحقيق مشروع الجامعة العربية لكى يحقق أحلام جده إبراهيم باشا.
وفى الواقع أنه كان هناك خلاف حقيقى بين محمد على وإبراهيم باشا... فقد كان محمد على يتحدث فى مشروع لتجديد الخلافة العثمانية، ولكن إبراهيم باشا بتأثير وجوده فى الشام بدأ يتحدث عن فكرة مختلفة للغاية، وهى مشروع عربى إمبراطوري... وقد كان متأثراً فى ذلك برأى مستشاره العسكرى سليمان باشا الفرنساوى الذى كان يرى وكان هذا صحيحاً أن أمن مصر يرتكز على شمال حلب.
بدأ إبراهيم باشا يراسل والده من الشام.. وقد كانت المراسلات بين إبراهيم باشا ومحمد على فى ذلك الوقت كاشفة جداً وفيها بذور الجامعة العربية ولكن بطريقة أخري، فقد كان إبراهيم باشا يتحدث عن دولة عربية كبري... وكان من حول إبراهيم باشا مثقفو ومفكرو الشام الذين وجدوا فى هذا الفاتح والقائد المصرى المتميز سمات مختلفة عن العثمانيين من شأنها أن تحل لهم مشكلة ازدواجية الولاء.
فهناك من يقول أن الملك فاروق كان متأثراً بإبراهيم.. وليكن..
كل الناس تتنوع مصادرهم المعرفية والثقافية... تختلط فى وعاء داخلى فى ضميرنا، وتعبر عن نفسها كلما وضعتنا الظروف أمام اختيار.
كان الملك فاروق بالتأكيد متحمساً للمشروع.
ولابد هنا من التمييز بين ما هو إسلامى وما هو عربي... هناك إطار حضارى يجمع بين ما هو إسلامى وما هو عربي، فما يمكننا تسميته الحضارة العربية المزدهرة ساهم فيها ما بقى من مصر الفرعونية أو مصر الإغريقية والبيزنطية، ساهمت فيها الشام التى كانت بيزنطية ثم أصبحت عربية أموية، ساهمت فيها فارس التى كانت موجودة فى العراق: ليؤسسوا جميعاً واقعاً حضارياً عربياً.. لكنهم قاموا بذلك كقوى ودول إسلامية، ليصبح المحتوى العصرى للحضارة العربية فى جوهره إسلامي.
عندما قام ساطع الحصرى وقسطنطين زريق وهما عملاقان مهمان للغاية فى العالم العربى بالتنظير لفكرة الوحدة العربية، جاء أيضاً مكرم عبيد بكل ما يمثله فى الحياة السياسية المصرية.. وإلى جانب أنه قبطي، ليقول: أنا قبطى ديناً.. ولكنى مسلمٌ وطناً.. وهذه كلمة رائعة.
كان النحاس باشا فى بداية الأمر متأثراً بمعنى الوطنية المصرية الطبيعي... لكنه دخل إلى موضوع الوحدة بعد ذلك متردداً، ثم مقتنعاً، هناك عوامل تدفعه.. وأخرى تشده... لكنه مع العام 1943 بدأ يجرى اتصالاته.
كان المتحرك بوضوح فى هذا الموضوع فى تلك الفترة هو نورى السعيد باشا.
* هنا لعلى أذكر ملاحظة: فى مرات نحن نترك مواقفنا السياسية تطغى على حقائقنا الإستراتيجية... على سبيل المثال فإن نورى السعيد أدى دوراً فى مسألة الوحدة لا يصح إنكاره عليه.. رغم أنى واحد من الذين هاجموه سياسياً بشدة فى مرحلة حلف بغداد... نستطيع أن نختلف كما نريد مع الأباء المؤسسين، يستطيع جيل جديد أن يقول لي: أنت أديت دورك.. فتنحي.
لكن ما لا يصح على الإطلاق أن يأتى جيل لينكر دور الأباء المؤسسين فى مرحلة التأسيس. فى مرحلة البناء الأول.
فإن نورى السعيد هو أحد المؤسسين: لفكرة نظام عربي.
المهم هنا أن نورى باشا: اكتشف هشاشة الدولة القطرية، وإن الدولة القطرية العربية فى هذه الحدود أوالتقسيمات ليس لها مستقبل، وأن هذه الدولة لا تستطيع أن تحافظ على أمنها ولا يمكنها أن تقيم اقتصاداً... وأنه لابد من تجمعات عربية بعد الحرب.
كان فى ذهنه مشروع الهلال الخصيب، وقد بدأ محادثاته مع النحاس باشا عام 1943 وقد قرأت محاضر المحادثات بينهما وفى ذهن نورى أيضاً أنه ربما توقف القوة المعنوية لمصر مشروع الهلال الخصيب خاصةً فى ظل الصراعات بين الأسر، والأفكار... وهو يريد أن يحيد دور مصر على أقل تقدير.
ما غاب عن نورى السعيد هو أن النحاس قد خطا بالفعل خطوات أبعد، فى إتجاه قبوله أكثر فأكثر لمشروع عربي... وقد كان النحاس واضحاً معه فى هذا وقال له: أفهم ما تقول.. ولكن دعوا لى هذا الأمر.. ودعنى أولاً أجرى اتصالات مع المسئولين فى العالم العربى بحيث نحاول أن نستطلع أراء الجميع قبل أن نقدم على خطوة محددة.
أول من اتصل به النحاس باشا كان الملك عبد العزيز.
فى حقيقة الأمر فإن العلاقات المصرية.. السعودية علاقات ملتبسة جداً.
السعوديون لديهم عقدة من أسرة محمد على أو من محمد على بالتحديد وأصبحت لديهم عقدة فيما بعد من جمال عبد الناصر.. لكن هذا موضوع أخر سنعود إليه فى حديث أخر.
لم أر الملك عبد العزيز آل سعود لكنى رأيت الملك سعود ابنه وجلست معه جلسات طويلة وكلها مسجلة لإنى كنت أفكر فى إصدار مجموعة مقالات عن تجربته عندما جاءنا لاجئاً فى القاهرة سنة 1966، ورأيت الملك فيصل كثيراً أيضاً أميراً ووزيراً للخارجية، ولياً للعهد وملكاً، وكذلك الملك فهد والملك عبد الله.. ورأيت وناقشت كثيرين منهم... لكن لم أجلس مع سعودى إلا وشكا لى بعد خمس دقائق من محمد علي.. لماذا؟... لأن: هذا رجل أغار علينا فى نجد بأمر من السلطان العثمانى ودمر الدرعية عاصمة الوهابيين ونحن تركنا أجزاءً فى الدرعية أطلالاً كما كانت لكى تبقى شاهداً على الظلم.. فى مرات يغلطوا ويقولوا الظلم المصري.. أو يقولوا محمد علي، وفى الغالب يقولون محمد علي...
وقد كان الملك عبد العزيز يدرك تماماً أن مصر هى الميزان ما بين الهاشميين الذين يكرههم جداً وبين الرأى العام الواسع.. فى عاصمة القوة الناعمة فى مصر. وقد كان الملك عبد العزيز هذا الرجل البدوى رجلاً ذكياً يستطيع أن يحسب حسابات القوة، ورجلاً لديه قدر من الدهاء السياسى مثير للإعجاب.. قد نختلف معه لكن هذا موضوع آخر.
والملك عبد العزيز كان واضحاً فى صداقته مع الإنجليز وله خطاب أرسله إليهم وقد اطلعت عليه يقول لهم فيه: أننى أعتمد بعد الله.. عليكم وهو لم يكن يخفى ذلك قال لى الأستاذ التابعى فى مرة: خذ بالك.. الملك عبد العزيز يقول أن: ربنا فوق.. والإنجليز تحت.. ونحن الآن لا نحكم على مواقف أحد وإنما نتفهمها، علينا نفهم قبل أن نحكم.
وفى اعتقادى أن الخطابين المتبادلين بين النحاس باشا والملك عبد العزيز مهمان. أرسل النحاس باشا خطابه فى سبتمبر 1943 يقول فيه: لقد جاءنى نورى السعيد باشا وحدثنى عن أن الدول العربية لن تستطيع أن تواجه ما بعد الحرب إلا بنوع ما من التعاون فيما بينها، لكنى لم أكون رأياً حتى هذه اللحظة، ولا أعرف ما الشكل الذى يمكن أن نستقر عليه فى النهاية، ونورى باشا لم يكن واضحاً معى فى هذا، أريد أن أستأنس برأيكم.
رد عليه الملك عبد العزيز: أفهم دواعيك وما تقول، لكنى أريد أن الفت نظرك إلى أن البعض يريدون توسيع رقعة نفوذهم.. طبعاً يقصد الهاشميين، ونورى باشا.. وهناك من يتطلعون إلى مغانم يريدونها، وهناك من لا أثق فيهم ولا أعرف كيف نتعاون معهم.
ثم أرسل الملك عبد العزيز رسالة إلى وزير خارجية إنجلترا يقول له فيها: يحدثوننا فى موضوع تعاون عربي، وأنا متشكك فيهم، وهم يحدثوننا عن الاستقلال، لكنى أخشى بذلك أن نستبدل صداقة إنجليزية معكم بهيمنة فرعونية مصرية أو هاشمية نحن لا نريدها، لكننا سوف نجاريهم ونرجو أن نتلقى منكم النصح فيما يمكن أن نفعله، ولن نفعل أمراً إلا إذا أشرتم علينا به.
***
هنا فإن بعض الناس يقعون فى خطأ، هو ظنهم بأن الجامعة العربية أنشأها الإنجليز... هذا مع الأسف الشديد على طريقتنا حين نتسرع فى الأحكام.
فى واقع الأمر فإن الإنجليز لم ينشئوا جامعة الدول العربية.
الجامعة العربية أو الرابط العربى الذى كان آخذاً فى التشكل والتكون، هذا رابط داخلي، وأحسن طلائع الأمة فكرت فيه. وكذلك مثقف ومفكر فى هذه الأمة، إلا بالطبع مجموعة من الانعزاليين.
وأذكر أنى اصطحبت يوماً المفكر ساطع الحصرى إلى رئيس جمال عبد الناصر سنة 1964، وقال للرئيس عبد الناصر فى حضوري: الوحدة العربية لا يقف ضدها إلا المتمسكون بالفرعونية فى مصر.. والمتعصبون من الموارنة فى لبنان.. وصهاينة إسرائيل.
وربما كان فى ذلك التوصيف قدر من التعميم، لكن به أيضاً كثير من الحقيقة.
وفى واقع الأمر فإنه حين أعلن وقتها انتونى ايدن أن إنجلترا لا تعارض توجه العرب إلى شكل كالجامعة العربية، فإن الإنجليز كانوا يرون إلى أين يتجه تحرك العرب، وكان لديهم خياران فى هذه اللحظة: أن يعرقلوا مشروعاً يروا أن الحركة متجهةً إليه تلقائياً وطبيعياً وحتمياً تقريباً، أو أنهم على طريقة السياسة البريطانية أنه إذا لم تستطع أن تعرقله، فعلى الأقل حاول أن توجهه.
أتم النحاس باشا مشاوراته مع الجميع، تكونت لجنة لتضع ميثاقاً لجامعة الدول العربية، وكانت المناقشات والمحاضر فيها ممتازة وثرية وتستحق القراءة وقد تحدث الكل وفى ذهنهم المستقبل، وكذلك فى وجدانهم الماضي، لكن تعبيراتهم عن الماضى كانت مغلفة، إلا أنه فى النهاية وصلنا إلى مشروع ميثاق للدول العربية.
فى كل الأحوال فإن الرواد الأوائل والمفكرين مثل ساطع الحصرى وأحمد أمين وهو اسم مهم أيضاً فى القضية والفكرة العربية وقسطنطين زريق... وغيرهم تجمعوا ومثلوا الأساس الفكرى لهذا العمل، أما الأساس السياسى فجاء به السياسيون من أمثال نورى السعيد ومصطفى النحاس وغيرهم، والملك فاروق يشجع... وفى قصر انتونياديس بالإسكندرية تم توقيع ميثاق الجامعة العربية.
الأمر الغريب أن توقيع الميثاق تم فى يوم 5 أكتوبر 1944 وفى يوم 8 أكتوبر طلب حسن يوسف باشا وكيل الديوان الملكى مقابلة النحاس باشا وسلمه إقالته من الوزارة، واعتبر الملك فاروق أنه لو كان قد قام هو وحده بإنشاء الجامعة لكان الوفد قد عارضه، لكن الآن فإن النحاس باشا قد وقّع الميثاق وانتهت الدور، وليقوم فاروق بإدارة الأمور من الآن فصاعداً فى موضوع مصر والعرب، أو فى نوع من التجمع العربي.
 
إعداد: محمد بدر الدين - أمير مصطفى المنفلوطي -ال عربي المصري