تحقيق استقصائي يكشف عن اقتراب موعد نضوب المياه الجوفية في العاصمة اليمنية صنعاء

صـنـعاء .. عاصمة بلا ماء

  • صنعاء - عادل عبدالمغني
  • منذ 10 سنوات - Sunday 07 April 2013
صـنـعاء .. عاصمة بلا ماء

الوحدوي نت

فيما اليمنيون منشغلون بما هم منشغلون به، يتسرب الجفاف ويزحف العطش نحو العاصمة صنعاء، التي باتت مرشحة لتعلن كأول عاصمة في العالم دون مياه.. حينها لن تظل صنعاء عاصمة لليمن كما هي عليه منذ قرون.. لن تكون مجرد مدينة عادية أو حتى قرية صغيرة.. صنعاء التاريخ والعراقة والعاصمة، ستكون صحراء خاوية على عروشها بعد أن يهجرها ساكنيها بحثاً عن الماء والمرعى.

ومؤخراً قرعت أجراس الخطر المحذرة من نضوب وشيك للمياه في حوض صنعاء المائي، وبينت دراسات حديثة أجراها خبراء دوليون متخصصون أن منسوب المياه الجوفية في حوض صنعاء يتناقص بشكل يبعث على الهلع، وأن ما تم تخزينه في الحوض المائي منذ آلاف السنين تم استهلاكه في العقود القليلة الماضية.

وكمشكلة عويصة يصف الخبراء وضع الأمن المائي للعاصمة بالمخيف بعد أن تحولت صنعاء إلى مدينة تأكل نفسها كلما اتسعت. وبات التزايد السكاني وانتشار العمران، وزيادة استنزاف المياه عوامل كارثية تعجل من خطورة الموت عطشاً لواحدة من أعرق وأقدم المدن التاريخية في المنطقة العربية.

ومنذ عقود خلت لم تجد صنعاء ما تروي به ظمأها سوى استنزاف المياه الجوفية المخزنة منذ آلاف السنين، بعد أن اختفت العيون من المدينة وضواحيها ووديانها في مدة زمنية قصيرة، ووصل عمق الحفر للآبار إلى أكثر من ألف متر في المناطق القريبة منها.

أخطر الكوارث

ويعد متوسط حصة الفرد في اليمن من المياه من أقل النسب في العالم. حيث يبلغ حوالي 125 متراً مكعباً في السنة فقط، وهي لا تمثل سوى 10% مما يحصل عليه الفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والبالغ 1250 متراً مكعباً، و2% من المتوسط العالمي لحصة الفرد من المياه والبالغ 7500 متر مكعب.  الوحدوي نت

ورغم ضآلة حصة الفرد اليمني من المياه في الوقت الراهن، فإن هذه الحصة مرشحة للتناقص خلال الأعوام القادمة جراء الزيادة المتوقعة لعدد السكان وارتفاع الطلب على المخزون المائي الذي يتناقص بمستويات مخيفة.

وانطلاقاً من المعدل المتوقع للنمو السكاني في صنعاء وفق جهاز الإحصاء، والمتغيرات الفعلية بين عامي 2005 و2010، توقع المنتدى العربي للبيئة والتنمية “أفد” أن يصل متوسط نصيب الفرد في صنعاء عام 2020 إلى 75 م³ بينما يتناقص هذا المعدل إلى 50 م³ مع حلول العام 2025 وهي معدلات غير مجدية ولا تفي على الإطلاق باحتياجات السكان من المياه في حدودها الدنيا.

وزير المياه: علينا أن نستعد للرحيل

ويعترف المسؤولون اليمنيون بحقيقة الوضع المائي لصنعاء، لكنهم لا يعطون الأمر الأهمية التي يستحقها من الدراسة والتقييم والتعامل معه ككارثة حقيقية تهدد مستقبل عاصمة البلد. ويقول وزير المياه والبيئة عبدالسلام رزاز أنه لم تجرى حتى اليوم دراسة يمنية واحدة حول كارثة نضوب المياه بصنعاء، وأن الدراسات جميعها التي أجريت حول هذا الأمر أجنبية. ولأول مرة يتحدث فيها مسؤول حكومي رفيع عن احتمالات نقل العاصمة صنعاء كإحدى البدائل في حال غابت الحلول. لكنه يستدرك أن ذك قرار تتخذه الدولة ككل وليس وزارة المياه التي يقتصر دورها على التنبيه بالخطر المحدق بالعاصمة صنعاء. وبلغة تبعث على القلق قال الوزير رزاز :" إذا لم تتخذ المعالجات العاجلة والسريعة لحماية حوض صنعاء المائي فعلينا أن نستعد للرحيل من صنعاء التي لن تستطيع أن تستمر كعاصمة.    الوحدوي نت

استنزاف

ويوجد في حوض صنعاء المائي الذي يقدر مساحته بـ 32 كم2 أكثر من عشرة آلاف بئر ما أدى إلى استنزاف المياه الجوفية التي تم تخزينها طيلة آلاف السنين، وبات معدل السحب أكثر من معدل التغطية الأمر الذي أحدث فجوة مائية كبيرة. وبحسب دراسات أجريت بهذا المجال، فإن معدل سحب المياه الجوفية يصل إلى 250 مليون متر مكعب سنوياً، وهو بذلك يفوق معدل تغذية الحوض من مياه الأمطار ومصادر أخرى بـ150% سنوياً، حيث يتراوح معدل التغذية بين الـ(80/120 مليون) متر مكعب فقط.

زيادة في السكان .. نقص في المياه

الفجوة المائية الكبيرة بين العرض والطلب مرشحة للزيادة في ظل الارتفاع المضطرد لسكان العاصمة. فصنعاء التي كانت قبل 60عاماً مدينة مسورة من مختلف الاتجاهات ويسكنها نحو 50 ألف نسمة، باتت اليوم واحدة من أكثر المدن نمواً في العالم، بعد وصل معدل النمو السكاني حد الانفجار بنسبة 8% سنوياً، طبقاً لبيانات البنك الدولي، منها 5% نتيجة الهجرة من الريف.  الوحدوي نت

وتوقعت مؤشرات التنمية العالمية أنه في عام 2025م سيزداد عدد سكان مدينة صنعاء البالغ حالياً نحو 2.5 مليون نسمة إلى 5.5 مليون نسمة، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الطلب على المياه وسط تراجع مخيف لمعدل نصيب الفرد.

الأطفال يتركون مقاعد الدراسة لجلب المياه

ويعتبر الحصول على المياه من أبرز المشاكل التي يعاني منها سكان العاصمة صنعاء، جراء غياب شبكة المياه الوطنية عن أكثر من نصف أحياء العاصمة، فضلاً عن ارتفاع أسعار صهاريج المياه التي لا يستطيع الجميع شراءها.

ومن المشاهد المألوفة هناك رؤية النساء وهن يحملن الماء على رؤوسهن في أواني بلاستيكية بعد أن جلبنه من أماكن عدة. كما تشاهد الأطفال عادة أمام المساجد والمدارس أو أماكن تعبئة صهاريج المياه حاملين معهم أوعية فارغة بهدف الحصول على مياه مجاناً، في مهمة بديلة حرمتهم من الدراسة والتحصيل العلمي. وتظهر الإحصاءات أن أقل من 50% فقط من سكان صنعاء لديهم مياه جارية في منازلهم، عبر شبكة حكومية صارت تعاني من قصور كبير خلال الآونة الأخيرة.  الوحدوي نت

تقول أم وليد – وهي ربة بيت تسكن في حي الزبيري الشهير وسط صنعاء: ” كانت المياه تصلنا بشكل مستمر، أما الآن فإننا لا نراها سوى ثلاثة أيام فقط في الشهر، ونلجأ لشراء المياه عبر “الوايتات” – صهاريج المياه المتنقلة. وشكت أم وليد من ارتفاع أسعار مياه الصهاريج التي تضاف إلى فاتورة المياه الغائبة: “المشكلة أن فواتير المياه تصلنا من قبل المؤسسة شهريا بينما المياه مقطوعة، فصرنا ندفع قيمة الفاتورة وقيمة مياه الصهاريج التي نشتريها بأسعار عالية، ليتجاوز استهلاكنا للماء نحو 10 الاف ريال شهريا.(الدولار يساوي 215 ريال يمني).

لدى أم وليد ستة أبناء إلى جانب زوجها ووالده ووالدته، لذا فإن توفير المياه لهذه الأسرة الكبيرة بات هماً يؤرق مسؤليها، كما بات أيضا أحد أسباب نشوب الخلافات العائلية داخل الأسرة. تقول ربة المنزل التي تسير في عقدها الرابع: “نشتري صهريج الماء الصغير بـ 2500 ريال وبالكاد يكفينا أسبوع وكل يوم ونحن في مشاكل مع الأولاد بسبب المياه، ودائماً ما يتهمني زوجي بالإسراف، رغم أني لا أدع قطرة ماء تذهب دون الاستفادة منها”. وتحت وطأة الظروف الاقتصادية القاهرة التي زادت حدتها مع الاضطرابات السياسية التي شهدها اليمن مؤخراً اضطرت الأسرة لإخراج ابنتيها من المدرسة، وتفريغهما لجلب المياه من إحدى المضخات التي تقع على بعد نحو 300 متر عن المنزل. وهو القرار الصعب الذي قاومته الطفلتان بشدة قبل أن تستسلمان للأمر وتودعان مكرهتين مقعديهما الدراسيين في الصفين الخامس والرابع الأساسي.

سباق نحو الأعمق

ونتيجة لافتقار غالبية أحياء صنعاء لشبكة مياه حكومية وقصور واضح في بقية الأحياء المرتبطة بالشبكة، تزدهر تجارة المياه عبر استثمار مئات الآبار الارتوازية الخاصة التي تسحب المياه الجوفية المتضائلة بسرعة، ويتم نقل هذه المياه وبيعها عبر صهاريج ومستوعبات من مختلف القياسات.  الوحدوي نت

يقول محمد المؤيد (26 عاما) وهو من أهالي مديرية بني حشيش الواقعة في الحوض المائي لصنعاء: قام والدي بحفر إحدى الآبار في العام 2008 بعمق 900م، وبتكلفة بلغت 50 مليون ريال، جراء ارتفاع كلفة الحفر الذي وصل إلى 17 ألف ريال للمتر الواحد فضلاً عن ارتفاع سعر المضخات القادرة على رفع الماء من ذلك العمق.

ويقر المؤيد أن مضخة مياه البئر تعمل 20 ساعة في اليوم وأنه يخصص 10 ساعات كاملة لري مزارع القات سواء التابعة له أو لآخرين يشترون منه مياه الري بنظام الساعة، فيما يبيع الساعات العشر الأخرى لصهاريج المياه بمبلغ يصل في الصهريج المتوسط إلى 3000 ريال، وبالطبع فهو يكسب من وراء ذلك عشرات الآلاف يومياً.

 غير المؤيد هناك العشرات من أهالي المديرات الواقعة في نطاق حوض صنعاء المائي من يزالون نفس النشاط، حيث السباق نحو الأعمق على أشده. وعلى الرغم من صدور قانون في العام 2002م، يحظر الحفر العشوائي لآبار المياه، إلا أن تطبيق هذا القانون ظل مغيباً، حيث تقوم الحفارات العملاقة المنتشرة في الأودية المحيطة بالعاصمة بحفر آلاف الآبار واستخراج المياه الجوفية ومن ثم استنزافها بلا هوادة.

وينتقد مدير عام التوعية لاجتماعية بالهيئة العامة للمياه سعد الحوصلي قانون المياه ويقول “أن الحفر العشوائي للمياه لم يرتق بعد إلى مستوى الجرم في القانون اليمني الذي يعتبر مثل هذا العمل مخالفة يعاقب عليها بدفع غرامة مالية لا تتجاوز 50 ألف ريال، وهو مبلغ زهيد ويمكن لأي شخص دفعه”.

مياه كبريتية وهبوط لطبقات الأرض

وكنتيجة للاستنزاف الجائر والمستمر للمياه الجوفية، نضبت عدد من الآبار في نطاق حوض صنعاء المائي بينما لم تعد مياه عدد من الآبار الأخرى صالحة للاستخدام. ويؤكد الخبير المائي عدنان العريقي أن بعض الآبار التي تجاوز عمق الحفر فيها 1200 متر أظهرت مياه كبيرتيه غير صالحة للاستخدام، فيما هبطت طبقات في باطن الأرض في إحدى المديريات الواقعة في حوض صنعاء جراء استنزاف المياه الجوفية ما شكل فراغات أدت إلى هبوط الأرض. وكشف العريقي عن هجرات جماعية قام بها سكان عدد من المناطق الواقعة في إطار حوض صنعاء جراء نضوب المياه تماما من الآبار، وتصحر أراضيهم الزراعية.

القات.. المستهلك الأبرز

مثلما تعد شجرة القات – التي يمضغها غالبية اليمنيين بمتوسط أربع ساعات يومياً – سبباً في استهلاك أوقات المواطنين وأموالهم، هي أيضاً السبب الرئيسي الأول في استنزاف مياههم . وبحسب إحصائيات رسمية يستهلك القات ما نسبته (61%) من استخدامات مياه صنعاء للزراعة والبالغة (91%)، بينما تقدر الاستخدامات المنزلية بـ (7%) فقط و(2%) للاستخدامات الصناعية.  الوحدوي نت

وما يزيد من هول الكارثة أن زراعة القات تنمو بنسبة تزيد عن 10% سنوياً وهي زيادة على حساب شجرة العنب وبقية الفواكه والمحاصيل الاخرى، نظراً لارتفاع المردود المالي الذي يجنيه المزارعون من وراء القات، والتي تزيد ثلاثة أضعاف إيرادات الفاكهة.

حلول صعبة وبدائل معدومة

وسط تحذيرات محلية ودولية من اقتراب موعد نضوب مياه صنعاء تتردد أحاديث عن حلول وبدائل عاجلة للكارثة في ظل خيارات تكاد تكون معدومة.

ومن بين تلك الحلول تحلية مياه البحر وجلبها إلى صنعاء كبديل لمياه المدينة الجوفية، وهو ما استبعده خبراء ومختصون قالوا إن تزويد صنعاء بالماء عبر التحلية مكلف للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، نظراً لارتفاع مدينة صنعاء عن سطح البحر بـ2300 كم، وبعدها عن أقرب مسطح مائي 380 كم، ما يجعل إيصال الماء إلى صنعاء، عبر مياه البحر المحلاة، كمن يحاول ضخ المياه إلى السماء.  الوحدوي نت

هناك خيار آخر بدأ الحديث عنه في اليمن يرتفع مؤخراً، ويتمثل بنقل العاصمة اليمنية من صنعاء إلى عدن .. لأسباب لم تعد سياسية وحسب بل اقتصادية أيضا .. خيار يقول عنه البعض إنه بات ضرورة حتمية، كما هي حاجة الحياة للماء، فيما يقول عنه البعض الآخر إنه غير مقبول سياسياً ومن المستبعد حدوثه. لتظل صنعاء موعودة بالعطش بعد عمر يبدو أنه لم يعد طويلاً. والمؤكد أن قرارات سياسية واقتصادية صعبة تنتظر سلطات صنعاء المجبرة على اتخاذها وهي تحضر نفسها لمرحلة ما بعد النفط والماء.

* هذا التحقيق فاز بجائزة المركز الدولي للصحفيين في الصحافة الاستقصائية للعام 2012م