الرئيسية الأخبار عربي ودولي

سامي شرف يُضيئ على شخصية جمال عبدالناصر ومواقفه ومحطات نضاله في مناسبة ذكرى رحيله الـ 47

  • الوحدوي نت - المجد
  • منذ 6 سنوات - Thursday 28 September 2017
سامي شرف يُضيئ على شخصية جمال عبدالناصر ومواقفه ومحطات نضاله في مناسبة ذكرى رحيله الـ 47

رغم انقضاء 47 عاماً على رحيل الزعيم القومي الفذ جمال عبدالناصر، الا انه ما زال حاضراً بقوة في قلوب وعقول ملايين المصريين والعرب، رجالا ونساء وشبابا وشيبا واطفالا وكهولا بشكل طاغ لم يسبقه إليه زعيم آخر، على الأقل فى التاريخ الحديث, حيث شكل ذلك انحيازا من الشعب لهذا الزعيم فى أى اختيار حر واجهه سواء فى حياته او بعد رحيله عن عالمنا، برغم حملات التشويه وتصفية الحسابات مع عصره وأفكاره من جانب جماعات ودول وأجهزة مخابرات، ليظل ناصر «حبيب الملايين» . الوحدوي نت

إن خلق الصورة الإيجابية لرجل السياسة تتعدى التفاصيل الشكلية من تعبيرات الوجه او الملابس التى يرتديها السياسى او الرئيس وحركات يديه فى أثناء الحديث إلى ما هو أعمق، أى ان المهم ليس فقط شخصية الزعيم كما يذهب البعض ، وإنما أيضا محتوى تلك الشخصية .

رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو وصف الرئيس عبد الناصر بقوله : ” إن ما أحبه فى ناصر انه يتعلم دائما. . أنه يتميز بصدق مطلق ونهمه متصل للمعرفة ، وشجاعته حاضرة ، وهذا ما جعله رجل الفكر والعقل والفعل المؤهل لقيادة امة فى حقبة حاسمة . . “

ويقول الكاتب الهندى ” ديوان برندرانات ” فى كتاب ” ناصر الرجل والمعجزة” ، “إن التاريخ المعاصر للعالم العربى وخاصة مصر وتاريخ حياة ناصر لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر”، ويقول الكاتب البريطانى ” توم ليتل” : إن قوة منطق ناصر مستمدة من قوة منطق التاريخ . .”

الارتباط بتراب الوطن

إن ارتباط عبد الناصر بتراب هذا الوطن وتاريخه هو الذى صاغ صورته الجماهيرية أما التزامه بقضايا الوطن ومسارعته بالدفاع عنها فقد كان وسيلته فى توصيل هذه الصورة إلى شعب الأمة العربية فى كل مكان” .

الدكتور ” انيس صايغ ” يقول فى كتابه : فى مفهوم الزعامة السياسية من فيصل الأول إلى جمال عبد الناصر: ” استطاع عبد الناصر ان يمثل أغلبية الشعب تمثيلا صادقا، وأن يدافع عن الأمانى القومية دفاعا حقيقيا ، واستطاع بواسطة ذلك ان يتحول إلى رمز للحركة الوطنية المعاصرة. إن زعامة عبدالناصر تختلف من حيث المادة التى تتركب منها ، إنها تنبثق عن الشعب ، عن مجموع طبقاته وفئاته وأفكاره . وهى تنبثق عن أمانى الشعب، عن مطالبه التى نادى بها منذ قرن على الأقل ، وعن شعاراته التى رفعها منذ أن عرف العمل السياسى الحديث ، وعن أحلامه التى أخذت تتراءى له منذ أن أقلقت باله كوابيس التخلف والاستعمار والتفرقة والفاقه، وعن تراثه وكيانه القومى ومصالحه العامة ، إنها باختصار ، تمثل أغلبية العرب . “

اما الكاتب الفرنسى ” جان لاكوتير ” والذى كان على صلة ومعرفة كاملة بشخص الرئيس عبد الناصر منذ أن كان مراسلا لجريدة الموند الفرنسية، فيشير فى كتابه ” ناصر ” وهو يصف احداث تشييع جنازة جمال عبد الناصر إلى :” إن هذه الجموع الغفيرة فى تدافعها الهائل نحو الجثمان إلى مثواه الأخير لم تكن تشارك فى تشييع الجثمان، لكنها كانت فى الحقيقة تسعى فى تدفقها المتلاطم للاتصال بجمال عبد الناصر الذى كانت صورته هى التجسيد المطلق لكينونتها ذاتها “.

لقد قفلت الآن الدائرة ولكن ماذا تحوى فى داخلها ؟

ثورة 23 يوليو- باندونج- السويس- السد العالى- دمشق- الجزائر – قوانين 1961 .. كل ذلك أصبح الآن تاريخا، مضت فترة الانتقال من عهد الملك الدمية إلى الجمهورية والعروبة والاشتراكية، لكن ما هو باق هو صورة عبد الناصر وما أصبحت ترمز إليه من الإحساس بالكرامة وروح التحديث والشعور بالأهمية الدولية” .. صورة نفذت إلى قلوب الجماهير العربية ووجدانها فى أقطار لم يكن لعبد الناصر سلطان عليها ، بل كانت بعض حكوماتها تسعى للقضاء عليه وعلى صورته فى وجدان الناس.

إن الصورة الطبيعية والجماهيرية للرجل لم تكن نتيجة جهود خبراء ولا حصيلة دراسات، إنما كانت نابعة من ارتباطه بتراب هذا الوطن الذى جسده فى شخصه حتى أصبح هو ذاته مادة مثالية لدراسة حالة نادرة من تحليق صورة الزعيم السياسى فى آفاق لم يسبق أن وصل إليها أحد.

إن ارتباط جمال عبد الناصر بالأرض وتراب الوطن هو احد اسباب صياغة صورته الجماهيرية . ففى يوم 26اكتوبر1954، وفى ميدان المنشية بالاسكندرية ، انطلقت ثمانى رصاصات فى سماء الميدان نحو صدر جمال عبد الناصر ، ظل واقفا صامدا متحديا الاغتيال ومتحديا القاتل ، ووسط دوى الطلقات صاح جمال عبد الناصر قائلا للجماهير المحتشدة فى الميدان : “فليبق كل فى مكانه . . إننى حى لم أمت ، ولو مت فإن كل واحد منكم هو جمال عبد الناصر . . ولن تسقط الراية”. كان هذا الموقف التلقائى الذى بادر به إنما يعبر عن صورة جماهيرية ناجحة بكل المقاييس تعبر عن موقف الرجل والجماهير فى نفس الوقت ، وهى تستند على أساس من القناعة الراسخة بعظمة الجماهير التى يسعى لقيادتها وأمله فى إمكانية تحقيق مستقبل مبشر ومشرق لهذا الشعب، فالذى يؤمن بقاعدته الجماهيرية تؤمن به. وبدون هذا الإيمان لا يستطيع أى عدد من الخبراء ، مهما عظمت قدراته أن يخلق صورة إيجابية لرجل السياسة لدى الجماهير.

ويرتبط بهذا شرط آخر، وهو أن يكون لدى الزعيم تصور لدوره فى قيادة الشعب إلى المستقبل الواعد والمشرق، بحيث يتضح للجماهير أن هذا الرجل بعينه هو من يستطيع أن يوصلها إلى الغد المشرق الواعد. هذان الشرطان المسبقان لخلق صورة جماهيرية ناجحة هما فى حقيقة الأمر معيار رئيسى لاختبار ما إذا كان رجل السياسة يملك فى الأصل مقومات الزعامة أم لا.

وفى هذا يقول الدكتور أنيس صايغ : ” إن أعمال الزعيم هى رأس المال الذى يستعمله فى مضاربات السياسة، لكن حساب الزعامة ليس مجرد قائمة بالواردات والصادرات والأرباح والخسائر، والجماهير صاحبة القرار الأخير فى مصير الزعامة ليست دماغا إلكترونيا يحكم على الأعمال حكما تلقائيا لا عاطفة فيه ولا يخضع لمؤثرات شخصية. لا تقوم الزعامة على الأعمال فحسب. مطلوب من الزعيم أن تتوافر فيه صفات خاصة تؤثر عادة فى الجماهير، إلى جانب الخدمات التى يرى الشعب فى قيام الزعيم بها تحقيقا لذاته ومصالحه “.

وإذا نظرنا الآن إلى جمال عبد الناصر فى ضوء هذه القاعدة التى تنطلق منها أى صورة جماهيرية ناجحة لزعيم سياسى فسنجد أن إيمانه بعظمة هذا الشعب وقدراته الكامنة ، وأمله المؤكد الراسخ فى إمكانية تحقيق مستقبل واعد ومشرق لهذا الشعب تمثل خطا ممتدا خلال كل اقواله وأفعاله، على امتداد ظهوره على مسرح الأحداث وحتى رحيله عن عالمنا . كتب جمال عبدالناصر فى كتابه “فلسفة الثورة” : ” وانا أعتقد دون أن أكون فى ذلك متملقا لعواطف الناس ، أن شعبنا صنع معجزة، ولقد كان يمكن أن يضيع أى مجتمع تعرض لهذه الظروف التى تعرض لها مجتمعنا، وكان يمكن أن تجرفه هذه التيارات التى تدفقت علينا ولكننا صمدنا للزلزال العنيف”. ” أنظر إلى هذا وأحس فى أعماقى بفهم للحيرة التى نقاسيها وللتخبط الذى يفترسنا ثم اقول لنفسى ، سوف يتبلور هذا المجتمع ، وسوف يتماسك ، وسوف يكون وحدة قوية متجانسة ، إنما ينبغى أن نشد أعصابنا ونتحمل فترة الانتقال “.

وهذا يؤكد أن إيمان عبد الناصر بعظمة الشعب المصرى، إيمان يدرك مواطن القوة كما يعى مواطن الضعف التى ينبغى التغلب عليها، ومن ثم فإن أمله فى المستقبل الواعد قناعة راسخة قائمة على فهم عميق للحقيقة والواقع.

فى سنة 1963 ألقى خطابا جاء فيه : ” ده كان المجتمع القديم اللى احنا اتوجدنا فيه . . قامت ثورات كثيرة . . قامت ثورة فى زمن الخديو توفيق ، لما قام عرابى وقال : لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا ونحن لم نورث ولن نورث أبدا لأى فرد ولو كان الخديو توفيق . . خدوه الانجليز ، وجم نفوه ، ولكن هل قدروا بعد أن نفوا عرابى وزملاءه إنهم يقضوا على الحرية فى هذا البلد ؟ ! أبدا . . بدليل إن إحنا النهاردة أحرار والبلد بتاعتنا”.

إن الأمل فى تحقيق المستقبل الأفضل للشعب يرتبط بإيمان الزعيم نفسه بعظمة الشعب وهو العنصر الذى يجعله يحرص على التمسك بالزعيم، وعبدالناصر أعطى هذا الشعب ما لم يكن يملكه من قبل وهو الأمل . إن شعوره بدوره فى تحقيق مستقبل أفضل للشعب المصرى، تجلى منذ شبابه المبكر من خلال قراءته لسير الأبطال والزعماء، والتى رسمت له صورة البطل إنه هو المحارب الفاتح الذى يحرر وطنه . لقد قرأ جمال فى شبابه كتب ” حماة الإسلام ” لمصطفى كامل، و” طبائع الاستبداد ” لعبد الرحمن الكواكبى، و” ووطنيتى ” للشيخ على الغاياتى، كما قرأ كتب أحمد أمين عن الدراسات فى حركات التجديد فى الاسلام عن جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده ونجيب محفوظ ، وقرأ سيرة غاندى وفولتير وجان جاك روسو والبؤساء لفيكتور هوجو وقصة مدينتين لتشارلز ديكينز ويوليوس قيصر لشيكسبير وقد قام بتمثيل دوره فى الحفل السنوى لمدرسة الأقباط يوم19يناير1935 .

وكان لقصة توفيق الحكيم ” عودة الروح ” أثر عميق فى شخصيته وجعلته يحس بأهمية دور الزعيم، ولفت نظره الحوارات التى دارت بين عالم الآثار الفرنسى ومهندس الرى الانجليزى حول الشعب المصرى وافتقاره إلى قائد مصرى مخلص يخرجه من الظلمات إلى النور . وهذا دفع جمال عبد الناصر يكتب لصديقه حسن النشار رسالة جاء فيها : ” . . لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة ، واستقبلنا غبار الموت . . فأين من يقلب كل ذلك رأسا على عقب ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم كانت مالكة للعالم ؟ أين من يخلق مصر خلقا جديدا حتى يصبح المصرى الخافض الصوت الضعيف الأمل الذى يطرق برأسه ساكنا صابرا على حقه المهضوم ، يقظا عالى الصوت ، عظيم الرجاء، مرفوع الرأس ، يجاهد بشجاعة وجرأة فى طلب الحرية والاستقلال”.

من المسلم به أنه يجب أن تكون الصورة الجماهيرية الناجحة للزعيم أن تكون الصفات التى تمثلها تلك الصورة موجودة فعلا لدى صاحبها وليست مقحمة على شخصيته، لأن رجل الشارع لديه الفراسة الفطرية دائما والتى تفرز الحقيقى عن المزيف . وهنا نجد أن الجماهير المصرية والعربية كانت على قدر كبير من الوعى ليس فقط للحكم على صحة صورة جماهيرية تمتع بها جمال عبد الناصر أثناء حياته، وإنما مكنها أيضا من التصدى لمحاولات العبث بهذه الصورة بعد مماته، على نحو الزعم بوجود حسابات باسمه فى بنوك سويسرية، ثم وصلت إلى ذروتها حين وجه له اتهام محدد باختلاس 15 مليون جنيه ووضعها فى حسابه الخاص وذلك فى كتاب جلال الدين الحمامصى ” حوار وراء الأسوار “.. وكنت عند صدور هذا الكتاب وراء أسوار السجون وتم استدعائى للتحقيق معى بواسطة المدعى العام الاشتراكى. قمت بتفنيد والرد على كل هذه الافتراءات ودحضتها واصررت ان يكون التحقيق مكتوبا لأوقع على أقوالى.

وعندما أصدر عثمان أحمد عثمان كتابه ” تجربتى ” الذى ادعى فيه أن منازل السيدتين هدى ومنى جمال عبد الناصر لم تدفع تكلفتهما الكاملة لأنهما بنيا لابنتى رئيس الجمهورية السابق، سارع الرئيس السادات بالتنصل مما جاء فى كتاب صهره ورفيق مجلسه الدائم اتقاء لرد الفعل الشعبى. وتلك دلالة على صعوبة العبث بالصورة الجماهيرية للزعيم القائمة على أساس من الصدق حتى بعد مرور سنوات على رحيله.

المثل الأعلى

نصل بعد ذلك إلى مرحلة لا تقل أهمية عما سبق، وهى حدوتة المثل الأعلى الذى تجسده الصفات الشخصية الجذابة، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر الاستقامة وطهارة اليد وعفة اللسان والخلق الحميد الطيب وقوة الشخصية وسعة الصدر والحزم والعفو. . ويمكن إضافة خصائص اخرى، مثل الطلاقة فى الحديث والخطابة والمظهر الصحى وخفة الدم والتحدث بلغة يفهمها الشارع وتستهوى الجماهير. ونجد الكاتب الأمريكى روبرت سان جون فى كتابه ” الريس “ٍTHE BOSS ” وهو يصف صورة عبد الناصر كتجسيد لهاتين النقطتين ــ الطلاقة فى الحديث والصحة الجيدة ــ حيث يقول: ” . . وأفضل خطب ناصر التى يلقيها ارتجالا . . حيث يتكدس مئات الآلاف من الرجال والنساء فى ميدان شعبى ويقفون ساعات ثلاثا تحت الشمس الحارقة يستمعون إليه.. الناس ينظرون أكثر مما يستمعون وهو المرآه التى يرون فيها انعكاس أنفسهم فى الوضع الذى يتمنونه لأنفسهم.. فهو رمز مصر الحديثة التى لم تعد تثنى ركبتيها أمام أى فرد بعد الآن “..

لنتناول بعض الصفات التى أضفت على صورة جمال عبدالناصر صفة المثل الأعلى للشعب .

الاستقامة

يقول يوجين جوستين رجل المخابرات المركزية الأمريكية : “مشكلتنا مع ناصر أنه بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح ، فلا نساء ولا خمر ، ولا مخدرات ، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه ، نحن نكرهه ككل ، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا ، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد .

طهارة اليد

اقتضت الظروف ان ينتقل الرئيس جمال عبد الناصر للإقامة فى قصر الطاهرة ــ أحد القصور الملكية ــ ولكنه لم يلبث بعد يومين ان عاد إلى منشية البكرى وقال لنا : ” انا ما اقدرش أقعد فى مكان كله تحف وأشياء ثمينة . . حأعمل إيه لو حد من الأولاد كسر فازة او اتلف سجادة او شىء من هذا القبيل ؟ ” . وعندما اصيب بآلام فى رجليه طلب الأطباء ضرورة انشاء حمام سباحة وعندما علم بأن مقايسة انشاء الحمام ستتكلف خمسة آلاف جنيه رفض إنشاءه رفضا باتا !.. وإذا استرسلت فى هذه الحكايات سوف احتاج لصفحات وصفحات كثيرة .

رفضه المحاباة

فى عام 1956 أنشئت الوحدة المجمعة فى قرية بنى مر محافظة أسيوط فى صعيد مصر و مسقط رأس جمال عبد الناصر، واقترح المسئولون عن الحكم المحلى إنشاء قرية نموذجية عند مدخل القرية تضم مائة وثمانى ” فيلات ” وتتوسطها فيلا على أحدث طراز كاستراحة لرئيس الجمهورية وابن القرية . و رفض عبدالناصر هذا الاقتراح، قائلا :” لو لم أكن رئيسا للجمهورية ما كان هذا ليحدث”. أما الكاتب روبرت سان جون فقد كتب فى وصفه لجمال عبد الناصر :” وهو يعارض بشدة محاباة كبار الموظفين لأقربائهم وقد كان ذلك يعتبر عرفا وليس جريمة فى وقت ما قبل الثورة، وهو يصر على إنزال العقوبة الصارمة بأى شخص يفعل ذلك “.

ويسرد سان جون بعد ذلك قصة معروفة حدثت فى بداية سنوات الثورة حين اتصل جمال عبد الناصر شخصيا بصاحب جريدة أخبار اليوم قائلا له :” شفت الصفحة الأخيرة ؟ فأجابه . . نعم ، هل تقصد سيادتك صورة والدك ؟ إيه الغلط فيها ؟ فأجابه الرئيس فى لهجة صارمة. . أنا ما باحبش أن تنشر أخبار أبى وصور عائلتى بين الناس . . انا عاوز أن يعيش أبى وأخوتى مثل الناس العاديين ولا أقبل أن يفسدهم منصبى. . ” . وكانت هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى نشرت فيها صورة والد عبدالناصر الذى لم يسمع عنه القراء بعد ذلك إلا حين توفى ونشر نعيه بالصحف .

القوة

إلى جانب محاولة الاغتيال بميدان المنشية فى اكتوبر 1954 كانت هناك صيحته الشهيرة من فوق منبر الأزهر الشريف، حين واجهت مصر العدوان الثلاثى 1956: ” سنقاتل . . سنقاتل . . سنقاتل” . ولا ننسى أن دعوة عبدالناصر الولايات المتحدة الأمريكية لكى ” تشرب من البحر الأبيض وان لم يعجبها فلتشرب من الأحمر”، كانت تجسيدا لروح التحدى المتأصلة فى هذا الشعب والتى كان يمثلها أكثر من أى زعيم آخر عرفه العرب منذ صلاح الدين، ” ولم تكن كما حاول البعض ان يفسرها على انها تعبير عن عدم الكياسة اوعدم مراعاة البروتوكول والعرف السياسى، فتلك نظرة ضيقة للأمور ساقها بعض المتحذلقين الذين كانوا يهدفون إلى هدم الصورة الجماهيرية لعبد الناصر بأى وسيلة، والذين لم نسمع وصفهم لما قاله خروشوف فى قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نيويورك، حينما خلع حذاءه واخذ يضرب به على المنصة التى أمامه احتجاجا على الكلمة التى كانت تلقى فى ذلك الوقت. أما استخدام ناصر المثل الدارج ” اشرب من البحر ” ضد واحدة من أكبر وأقوى دولتين فى العالم فهو لفتة عبقرية أخرى فى قدرة عبد الناصر فى الوصول إلى قلوب الجماهير، ببساطة التعبير”.

إن جمال عبد الناصر الذى لم يستعن أبدا فى أى وقت من الأوقات بخبراء علاقات عامة او دعاية لا من الداخل ولا من الخارج نجد أن صورته لا تعكس فقط نقيض ما حدث مع الرئيس السادات ــ الذى استعان بخبرة امريكية فى هذا المجال أتت بنتائج عكسية تماماــ وإنما هى التى تمثل نموذجا فريدا للجمع بين التقاليد المتوارثة والثورة على القديم فى نفس الوقت، وهكذا كان الثائر الذى جاء لتغيير ما بشعبه من تخلف وربطه بالثورة الصناعية والتقنية العالمية ويتمسك فى نفس الوقت بأسلوب ونمط حياة محافظة تحترم تعاليم الأديان و التقاليد والأعراف والتربية وإن كانت بعيدة عن التزمت .

موقفه من المرأة

لعلى لا أكون مبالغا عندما أقرر أن موقف جمال عبد الناصر من المرأة التى اعتبرها هو عن قناعة تامة الأم التى اوصى بها الدين والرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثا والتى كانت احد الأسباب الرئيسية التى حسمت قراره بتعديل قانون الأزهر الشريف ليسمح بانضمام العنصر النسائى لهذه الجامعة الإسلامية العريقة، وباختصار لكى يتحقق فتح المجال الصحيح لأم مسلمة تشارك فى خلق المجتمع المصرى الجديد . . باعتبار المرأة تمثل جانبا من المجتمع مهضوم الحقوق، فكان أن نص فى ميثاق العمل الوطنى على:” أن المرأة لابد أن تتساوى بالرجل ، وأن تسقط بتاتا الأغلال التى تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية فى صنع الحياة”. كان قرار جمال عبد الناصر منح المرأة حقوقها السياسية كاملة فحصلت على حق التصويت مثلا قبل أن تحصل عليه المرأة فى سويسرا ، كما طبق مبدأ تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل فى كل المناصب، وبهذه المناسبة فإن ما تتقاضاه المرأة المصرية من رواتب تتساوى مع ما يتقاضاه الرجل فى نفس الوظيفة، فى حين أن المرأة الأمريكية المديرالعام تتقاضى راتبا أقل من نظيرها الرجل، وهذا سائد حتى اليوم .

هذا فى الوقت الذى ظلت فيه عقيلة الرئيس عبد الناصر تحتل مكانها التقليدى والبروتوكولى فى المجتمع المصرى، فهى دائما إلى جانبه فى المناسبات الرسمية، ولم يكن يشار إليها إلا بإسم حرم الرئيس .

وبهذه المناسبة فقد حدث اثناء أول زيارة زيارة للرئيس جمال عبد الناصر لليونان وصحبته فيها السيدة قرينته، وفى حفل الاستقبال كانت المراسم تقتضى فى مثل هذه الرسميات أن يدخل رئيس الدولة المضيفة إلى قاعة الاحتفال متأبطا ذراع حرم الرئيس الضيف احتفاء بها بينما يدخل الرئيس الضيف وقد تأبط ذراع زوجة الرئيس المضيف . كان الطاقم المصرى كله على يقين ان الرئيس جمال عبد الناصر سوف يرفض هذا التقليد او البروتوكول الذى يتنافى تماما مع تقاليد البلد وطبعه الصعيدى. وفعلا رفض الرئيس جمال عبد الناصر ــ حين عرضت عليه ترتيبات الاستقبال وما سيتم فيه ــ رفضا قاطعا وقال إننى أرفض ذلك لنفسى كما أننى لا أستطيع أن اجرح مشاعر الشعب المصرى حين يرى بكرة صورة حرم رئيس جمهوريته وقد تأبطت ذراع رجل آخر . وكان ان قام عند الاقتراب من باب القاعة ان تقدم من الملك اليونانى ووضع يده فى يده وتقدما عبر الباب إلى القاعة فما كان من الملكة إلا أن تأبطت ذراع حرم الرئيس ودخلتا سويا للقاعة وانتهت الأزمة الصامتة والتى مرت بهدوء وبكرامة .

عبد الناصر والدين

يقول جورج فوشية فى كتابه ” عبد الناصر وصحبه ” ، إن قوة الإيمان عند ناصر ترجع للفترة التى عاشها وهو طفل مع عمه فى القاهرة حيث التحق بمدرسة النحاسين الابتدائية والتى تقع أمام مقابر سلاطين المماليك المجاورة لحى الحسين وخان الخليلى وملاصقة للأزهر الشريف ، ويقول فوشيه ” إن الجو فى هذا الحى الدينى من مساجد ومشايخ وروائح البخور قد أثر فى شخصية الرئيس وتوج إيمانه بالدين وقيمه الروحية والأخلاقية ومبادئه النضالية “، كان جمال عبد الناصر فى ذلك يتسق تماما مع طبيعة المجتمع المصرى والعربى فى تدينه القوى، دون تزمت أومظهرية.

إن نجاح الصورة الجماهيرية للزعيم السياسى يجب أن تكون فى مجموع صفاتها معبرة عن السواد الأعظم من الشعب، حتى يستطيع أن يرتبط بها أكبر عدد من الناس. فالزعيم الذى تشعر الجماهير أنه بعيد عنها ، أو ينتمى لطبقة مميزة لا تمثل السواد الأعظم منه قد تعجب به وقد تحترمه إذا كان به من الصفات ما يحعله أهلا لذلك، ولكنها يصعب أن تجد فيه نفسها . وقد شارك جمال عبد الناصر غالبية الشعب المصرى ولا أبالغ إن قلت الشعب العربى وجدانه، فقد كان أول مصرى يحكم البلاد منذ آلاف السنين ، ولأنه جاء من بين عامة هذا الشعب فقد ظل ولاؤه لهم طوال حياته ولم يحاول أن يستخدم منصبه وجاهه أو سلطته فى محاولة التشبه بطبقة أخرى غير التى جاء منها . وربما كانت هذه هى أكثر جوانب صورة عبد الناصر الجماهيرية التى أدخلته فى قلوب الملايين من مشرق الوطن العربى إلى مغربه، ولم تستطع المحاولات المستميتة أن تقتلعها، كان الابن البار للغالبية العظمى من هذا الشعب ، ومن ذا الذى يستطيع أن يتخلى عن أبنائه بسهولة ؟ !.

وها هو ابن هذا الشعب يقول فى 16 أكتوبر 1961 :” . . لقد قضيت الأيام الأخيرة كلها افكر ، وكنت بمشاعرى مع شعبنا العظيم فى كل مكان… كانت أصابعى على نبض هذه الأمة صانعة الحضارة ، صانعة التاريخ ، صانعة المستقبل ، وكانت أذناى على دقات قلبها الذى ينبض دائما بالحق والخير والسلام”. وفى سنة 1968 قال: ” كل ما أتمناه دائما من الله أن أرى طريق الواجب واحفظ الصلة بأحاسيس جماهير هذا الشعب وبوجدانه بدون أى عوائق يضعها الحكم أو السلطة، ذلك أنه بدون الصلة المستمرة بإحساس هذا الشعب ووجدانه يصبح الحكم تحكما وتصبح السلطة تسلطا .”

الانحياز للفقراء

لقد نشأ جمال عبد الناصر فى شعب 90% من مجموعه فقراء، وشاءت الظروف أن يكون هو من بين هذه النسبة الغالبة..كان يقول: “أنا جمال عبد الناصر أفخر بأن عائلتى لا تزال فى بنى مر مثلكم تعمل وتزرع وتقلع من اجل عزة هذا الوطن وحريته. . وأنا أقول هذا لأسجل أن جمال عبد الناصر نشأ من عائلة فقيرة، وأعاهدكم بأن جمال عبد الناصر سيستمر حتى يموت فقيرا فى هذا الوطن” .

وعندما وضع جمال عبد الناصر ثابت الاشتراكية كان يعنى به بالدرجة الأولى الكفاية فى الانتاج والعدالة فى التوزيع بمعنى وباختصار شديد ان تنتج مصر ما تحتاجه من أجل كفاية حاجة الغالبية العظمى الفقيرة من الشعب من غذاء وكساء وتعليم وصحة وحياة مستقرة كريمة.

المظهر والحياة المتواضعة

إن أول انطباع لصورة عبد الناصر هو المظهر البسيط . . ملبس عادى من بدلة كلاسيكية وكرافتة ذات تخطيط مائل من اليسار لليمين والحذاء الأسود ، هذا إذا كان فى مناسبة رسمية، أما إذا كان فى المنزل أو فى أوقات غير رسمية فإن القميص والبنطلون والحذاء الخفيف هو اللبس الغالب .. ولم ير أحد أثناء حياة عبد الناصر صورة لرئيس الجمهورية فى الحمام او وهو نائم وحتى الصور غير الرسمية فهى قليلة جدا، وربما كان أشهرها وهو يلعب الشطرنج وهى وإن كانت صورة غير رسمية إلا أنها تدفعنا للتفكير فى صفات معينة ابرزها الذكاء وحسن التدبير والصبر والشجاعة والحكمة .

والتزام جمال عبد الناصر بالبساطة يتمثل فى أسلوب معيشته الواضح ، فمثلا أكلته المفضلة كانت قطعة من الجبن الأبيض والخيار والطماطم وفى بعض الأحيان بيضة مسلوقة، أما غداؤه فلم يتعد الأرز والخضار وقطعة اللحم أو قطعة السمك مما كان يشكل بعض العبء على من حوله . كان يتعمد تناول طعامه مع قرينته والأسرة حوالى الثالثة من بعد الظهر يوميا، لمعرفة أحوال الأبناء فى الدراسة ومشاكلهم وطلباتهم.

وفى المساء وبعد انتهاء المقابلات الرسمية يتوجه الرئيس والسيدة قرينته ومن أنهى واجباته من الأبناء إلى إحدى قاعات المنزل، حيث تدور عجلة آلة السينما بواسطة عم إسماعيل ويشاهد الحضور فيلما أو اثنين، ولم يخل هذا أيضا من ازعاجات يقوم بها سامى شرف، ليدخل القاعة على ضوء بطارية ليعرض أمرا عاجلا على الرئيس. كانت هذه هى المتعة الوحيدة التى يمارسها جمال عبد الناصر مع ماتش تنس لو سمح الوقت بملعب داخل منشية البكرى . يقول جان لا كوتير فى كتابه ” ناصر ” :” ان منزل الرئيس ناصر فى منشية البكرى ظل إلى النهاية يعتبر منزلا عاديا لا تميزه أى مظاهر للفخامة التى كانت تتسم بها الكثير من المنازل الأخرى بمصر الجديدة والتى كان يعيش بها بعض المواطنين . ” ويقول روبرت سان جون فى وصفه لمنزل الرئيس: “يعيش الرئيس ناصر هو وأسرته فى منزل بمنشية البكرى لا تحيط به أية مظاهر خاصة تقريبا . . ولا تزال الشطرنج هى لعبته الداخلية المفضلة ، وقد علمه لابنتيه الكبيرتين وابنه الأكبر خالد ، لكنه وجد أن مشاهدة الأفلام تريح أعصابه أكثر من أى شىء آخر.. وفى يوم الجمعة لا يذهب أولاد ناصر إلى المدرسة لذا يمكنهم السهر ساعتين ليلة الخميس ليشاهدوا أحد الأفلام مع والدهم .

لم يكن ناصر يملك دولابا ممتلئا بالملابس، يقول : ” لقد جرت سياستى دائما على أن أشترى بذلة جديدة يفصلها لى ترزى بالقاهرة كل عام ولكننى أغفلت عام 1955 فلم أشتر فيه شيئا “

ونقطة الضعف عنده هى حبه لاقتناء أربطة العنق . . ورباط العنق المثالى بالنسبة له يجب أن يكون به خطوط واسعة ذات ألوان مختلفة ويجب أن يكون اتجاه الخطوط فى المرآة من الشمال إلى اليمين . . وقد جاءته هدايا تتراوح ما بين طائرات يبلغ ثمنها نصف مليون جنيه وكتب موقعة بأسماء مؤلفيها وقد وزعها كلها أو سلمها للدولة لكنه يحتفظ بالهدية إذا كانت رباط عنق مخططا فى إتجاه اليمين . وهو لا يملك ملابس للسهرة لأنه يشعر أن مثل هذه الملابس لا تتناسب مع مصر الحديثة .”

كان من الافلام التى كثيرا مايشاهدها الرئيس جمال عبد الناصر هى تلك التى تتعاطف مع الغلابة وتلك التى تمس العواطف ولطالما شاهد فيلم ” “فيفا زالاتا ” ويحكى عن الاقطاع ومحاربته فى إحدى بلدان امريكا اللاتينية ، وفيلم ” IT IS A WONDERFUL LIFE ” لجيمس ستيوارت عن الترابط العائلى وكيف تعالج مشاكل الأسرة .

عزوفه عن العنف

مقومات شخصية الشعب المصرى، منذ أيام الفراعنة عزوفه الفطرى عن استخدام العنف، وجعلت هذه الصفة من ثورة عبد الناصر ” ثورة بيضاء ” بعكس جميع الثورات الأخرى من الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية هى احدى أهم سمات الصورة الجماهيرية لجمال عبد الناصر ، وفى ذلك كان السواد الأعظم من الشعب المصرى يجد نفسه فيه .

وهنا أيضا نجد أن جمال عبد الناصر كان يمثل نموذجا فريدا لزعيم يأتى بثورة تطيح بالنظام القديم وتعادى الاستعمار والتبعية فى الخارج والاستغلال والرأسمالية فى الداخل دون أن يلجأ لاستخدام العنف كوسيلة لإحداث التغييرات الجذرية التى كان يسعى لتحقيقها .

لقد كانت تلك الصفة فى شخصيته مثار اهتمام عدد كبير من الكتاب الغربيين والشرقيين على حد سواء الذين اقترنت الثورة فى تاريخهم الوطنى بالعنف وغزارة الدماء ، ومن بين هؤلاء البريطانى ديزموند ستيوارت الذى نشر فى كتابه ” مصر الفتية ” ‘ YOUNG EGYPT ” حديثا مع الرئيس عبدالناصر سأله فيه عن الشخص الذى حاز إعجابه من بين قادة الثورة الفرنسية : دانتون مثلا أم روبسبير ؟ ، فقال له عبد الناصر على الفور : لا أحد فى الحقيقة ، لقد أعجبت بفولتير لأنه كان رجلا هادئا ولم يكن قاسيا ، أما الباقون فقد كانوا دمويين للغاية ، فقد قتل كل منهم الآخر ، وماتوا جميعا عن طريق العنف “

وشرح الرئيس جمال عبد الناصر للكاتب البريطانى كيف أنه تعلم من رائعة تشارلز ديكينز ” قصة مدينتين ” عن الثورة الفرنسية : أنه إذا بدأت الثورة بإراقة الدماء فلن تتوقف عن ذلك وسيقلدها الآخرون . .” ويضيف ستيوارت: ” أنه لم يعجب قط بمؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك فقط لأنه كان عنيفا وقاسى القلب . وقد كان هذا هو سبب رفض عبد الناصر الموافقة على إعدام الملك المخلوع فاروق” .

وترجع كراهية عبد الناصر للعنف السياسى إلى أحاسيس متأصلة فيه كما هى فى الشعب المصرى ذاته ، وإن كان هو لم يعرف ذلك فى بداية حياته كما يتضح من محاولته الوحيدة مع الاغتيال السياسى وأسجل هنا ما جاء على لسانه حول هذا الأمر : ” كنا قد أعددنا العدة للتخلص من واحد قلنا يجب أن يزول من الطريق . . وكانت الخطة أن نطلق عليه الرصاص وهو عائد إلى بيته ليلا . . وجاءت الليلة الموعودة وخرجت بنفسى مع جماعة التنفيذ وسار كل شىء طبقا لما تصورناه . . فانطلق الرصاص نحوه .

وفجأة دوى فى سمعى صراخ وعويل وولولة إمرأة وبكاء طفل مرعوب ، ثم استغاثة متصلة محمومة، وكنت غارقا فى مجموعة من الانفعالات الثائرة التى تندفع إلى بسرعة ، ثم أدركت شيئا عجيبا . . كانت الأصوات ما زالت تمزق سمعى رغم ابتعادى عن مسرح العملية باكثر مما يمكن أن يسرى الصوت ، ومع ذلك فقد بدأت الصورة تلاحقنى وتطاردنى . ولم أنم طول الليل ، كنت أسائل نفسى : هل كنت على حق ؟ أكانت تلك هى الوسيلة الوحيدة التى لا مفر منها ؟ أيمكن حقا أن يتغير مستقبل بلدنا إذا تخلصنا من هذا الواحد أو من غيره ، أم أن المسألة أعمق من هذا ؟

وخلصت من هذا التفكير إلى نتيجة حاسمة : أننا نحلم بمجد امة ويجب أن نبنى هذا المجد، وإذن يجب أن نغير طريقنا ، ليس هذا هو الحل الإيجابى الذى يجب أن نتجه إليه . وفجأة وجدت نفسى أقول : ليته لا يموت ! وكان عجيبا أن يطلع الفجر وأنا اتمنى الحياة للواحد الذى تمنيت له الموت فى المساء ! وهرعت فى لهفة إلى إحدى صحف الصباح وأسعدنى أن الرجل الذى دبرت اغتياله قد كتبت له النجاة”.

روح الفكاهة

كنا فى اشد الأيام زحمة فى العمل أو فى الأزمات نصل فى آخر اليوم إلى درجة من الارهاق والأعصاب المشدودة فنفاجأ بالتليفون يجلجل والرئيس على الخط يقول هل سمعت آخر نكتة ؟ ويحكى لنا نكتة اليوم . ومن المعروف أن الشعب المصرى يعبر عن المواقف التى يقابلها سواء كانت عصيبة او غاضبة أو مفرحة بالنكتة.

إن صنع الصورة الجماهيرية الناجحة للزعماء هى إذن عملية خلق وليست اختلاقا . إن انشغال الزعيم السياسى بصورته الجماهيرية ليس من قبيل الترف وإنما هى فى حقيقة الأمر الأداة الرئيسية لتحقيق سياسته ، بل إن البعض يذهب إلى أن الصورة الجماهيرية فى التحليل الأخير تساوى الزعيم نفسه لأنها كل ما تبقى منه للتاريخ ، وليس صحيحا أن ما يبقى من الزعيم هو أعماله الملموسة والمحسوسة ، وإنما ما يبقى من الزعيم هو صورته غير الملموسة وغير المحسوسة، فالأعمال العظيمة التى يقوم بها الزعيم يمكن أن يهدمها النظام الذى يليه أو يحاول تشويهها، لكن صورته الجماهيرية هى ما لا تستطيع أى يد أن تطولها ، فهى محفوظة فى أفئدة الناس، وذلك يحصنها ضد محاولات العبث بها .