الرئيسية المقالات تقارير إصدار موسوعة الفتوحات المكية للشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي
إصدار موسوعة الفتوحات المكية للشيخ الاكبر محيي الدين بن العربي
الوحدوي نت
الوحدوي نت
خرجت موسوعة "الفتوحات المكية" للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي إلى النور بتحقيق الأخ عبد العزيز سلطان المنصوب، وتقديم الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح.
 وصدرت الموسوعة عن وزارة الثقافة بالجمهورية اليمنية بمناسبة الاحتفاء بمدينة تريم عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2010م.
واعتمدت النسخة المحققة على نسخة قونية المخطوطة بقلم الشيخ الأكبر نفسه، مع الاستعانة بنسخة مكتبة السليمانية، والنسخة المطبوعة في القاهرة عام 1329هـ
.
ونزلت الموسوعة في 12 مجلدا متضمنة 37 سفرا هي مجموع الكتاب ،كما أضيف إلى كل سفر فهارسه لما يلي: (الآيات القرآنية، الأحاديث النبوية وتخريجها، شعر الشيخ الأكبر، الشعر المستشهد به، المصطلحات الصوفية، أسماء الأعلام، أسماء الأماكن، الكتب المذكورة في السفر، الفرق والجماعات)
الشيء الأهم الذي تم الحرص عليه في تحقيق هذه النسخة هو العمل –بأقصى حرص ممكن- على تجنب الأخطاء التي ألصقت في كتب الشيخ الأكبر بقصد أو بغير قصد، وتم –بحمد الله وتوفيقه- تصحيح الكتاب بنسبة قياسية غير مسبوقة، وكشف حالات التزوير التي دسّت على الشيخ الأكبر.

الوحدوي نت تنشر مقدمة الموسوعة والترجمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الفتوحات المكّية
سلسلة الصفا
الفتوحات المكّيّة للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي
تحقيق عبد العزيز سلطان المنصوب
 الطبعة الأولى
1431 هـ – 2010م
 حقوق الطبع محفوظة

لوحة الشرف

تحقّق هذا العمل المبارك بمشاركة هامّة من عدد من الإخوة المهتمّين والمحبّين، وهذه اللوحة تضمّ أسماء ذوي الجهود المفصليّة والمتميّزة في الإنجاز، وهم: توفير المخطوطات
أ.د/ محمد أبو بكر المفلحي   الشيخ الدكتور/ محمد عبد الرب النظاري
المراجعة والمقابلة والفهرسة
أ/ أحمد سعيد ناصر   م/ محمود سلطان طاهر المنصوب
الدعم الفني والتقني
م. د/ سامي عبد العزيز المنصوب   م/ عمر عبد العزيز المنصوب

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة
ثمانية قرون هجرية مرّت منذ بدأ الشيخ الأكبر إعادة صياغة كتابه "الفتوحات المكيّة" وواظب عليه بهمّة الحكماء، الداعين إلى الحق على بصيرة، ولم يسمح لشيخوخته أن تعتذر عن كتابة آلاف الصفحات بخطّ يده في وقت كان تحت أمره المئات من الفقهاء والقضاة والأدباء والكتّاب الذين سيعتبرون طَلَبَهُ منهم بالنقل بدلا عنه شرفا لهم وأيّ شرف..
وإنه لأمر طيّب أن تبرز النسخة المطبوعة الأولى من هذا الكتاب الموسوعة والتي انتشرت في أجزاء المعمورة في عام 1329ه بعد سبعة قرون بالتمام من انتهاء الشيخ الأكبر من تأليفه في مسودّته الأولى عام 629ه!!. ثم تظهر بعد ذلك هذه النسخة المحقّقة والمتكاملة التي بين أيدينا الآن بعد ثمانية قرون بالتمام من الشروع في تنقيح هذه الموسوعة التي بدأها الشيخ عام 632ه، ومستنِدةً بالكامل على هذه النسخة الثانية المنقّحة.. ويتمّ هذا في يوم ذكرى المولد النبويّ الشريف؛ فهذا الأمر يدلّ على تقدير إلهيّ عظيم.
فهي إذن خير هديّة نقدّمها بين يدي شيخنا الجليل –قدّس الله سرّه- للبشريّة التي أحبّها وكتب لها، ولمحبّيه في الشرق والغرب أولئك الذين حافظوا على خصوصيّة شيخهم الأكبر حتى في لقبه؛ فلم يمنحوه لغيره طيلة هذه القرون.. ولم يحاول أيّ منهم انتزاعه منه أو مشاركته فيه.. وأنّى لمن يفعل ذلك.. فلن يجد أمامه أذنا تصغي إليه، أو لسانا تدعوه به..
٭    ٭    ٭
وننتقل إلى فاس.. هذه المدينة الوادعة ذات العدوتين -عدوة الأندلسيّين، وعدوة القرويّين- التي عرفت النور عام 192ه في ولاية إدريس بن إدريس.. تعرّفتْ في شبابها -بعد أربعة قرون بالتمام من ولادتها- على شيخنا الأكبر.. وحدثتْ بينهما ألفة ومودّة.. حتى أنه لم يكن يغادرها في تلك الفترة إلّا ليعود إليها.. وفيها نَهَلَ علوم الحديث والتصوّف.. وأخذ الخرقة من يد إمامها محمد بن قاسم التميمي في المسجد الأزهر، وفي هذا المسجد جاءته الفيوضات والكشوفات الربّانيّة: إذا دخل محرابه إماما يصلّي بالناس رجع بذاته كلّها عينا واحدا، فيرى مِن جميع جهاته، كما يرى قِبلتَه، وفيه منحه الله سِرًّا من أسراره، وهناك نال مقام ختم الولاية المحمّديّة... وعند انتقاله إلى المشرق لم يعهد بشقيقتيه وابن عمه إلّا إلى فاس تتولّاهم وترعاهم حتى يقضي الله أمره.. وبادلها شيخنا هذا الوداد فخلّد ذكرها في كتبه، وفي هذا الكتاب وحده ذكرها 42 مرة..
وبعد أن غادر شيخنا هذه الحياة الدنيا بقيت فاس ترعى عهود المحبّة، وكيف لها أن لا تفعل ذلك، ولا ترعى حقّ مَن منحه الله هذا المقام السامي الذي تشرئبّ له الأعناق، على ترابها وفي حضنها.. فكان مما عملته أنها أنشأتْ يوما طريقة صوفيّة سمّتها باسمها "الطريقة الفاسيّة الشاذليّة" وعهدتْ إليها، ضمن مهامها، بمراقبة تراث ابنها البار.. حتى لا تعبث به الأيادي، وليبقى منارا للبشريّة، ومفخرة لفاس نفسها التي منحها اللهُ شرفَ أمومة الختم..
وكان الاختبار الأوّل حين قام أخيار في مصر الطاهرة بطباعة أوّل نسخة من الفتوحات المكيّة عام 1274ه، و أحدثوا فيها أخطاء وتشويهات من غير قصد منهم.. بسبب عدم اعتمادهم على النسخة التي نقحها صاحبها، فلم يَرُقْ لفاس ذلك التصرّف، وعهدتْ إلى أحد روّاد طريقتها، ربّ السيف والقلم، الأمير المجاهد عبدالقادر الجزائري، أن يتّجه إلى المشرق، ويتدارك الأمر ويصلح الخطأ.. وكان لها ما أرادتْ؛ فظهرت الطبعة المصحّحة في مصر وفق إمكانيات عصرها عام 1329ه..
ويبدو أنّ فاس قد احتاطتْ للعبث الذي يمكن أن يقوم به بعض أهلِ المشرق لاحقا، ورأت ضرورة الاستعداد المسبق هذه المرّة، فنصبتْ منذ أكثر من قرن خيمتها في أحد جبال اليمن، البلد الأُم لشيخنا الأكبر، ورفعتْ بجانب الخيمة رايتها على قمّة جبل الصراهم برعاية الوليّ الكبير الذي انتقل إليه أمرُ الطريقة الفاسيّة الشاذليّة حسّان بن سنان، قدّس الله سره، في مديرية جبل حبشي -ولعلها ذات المنطقة التي جاء منها أكثر أصحاب الشيخ قربا منه، وصفيّه وخليله، وهو عبد الله بدر الحبشيّ اليمنيّ-..
وجاء الاختبار الثاني منذ أعوام قليلة.. وذلك بعد ظهور طبعة إليكترونيّة مشوّهة لهذه الموسوعة، قام بها للأسف بعض أهل المشرق! -سيأتي الحديث عنها لاحقا-.. وها هم أبناء هذه الطريقة الفاسية الشاذلية في اليمن ينهضون ويقومون بواجبهم الديني والأخلاقي في مواجهة هذا العبث، ويعقدون العزم على إظهار الحقيقة كما خرجت من منبعها، ويجهِّزون هذه النسخة المنقَّحة والمحقَّقة بأفضل المعايير المتوفّرة وأدقِّها بالاعتماد على النسخة المنقَّحة من قبل الشيخ نفسه والتي كتبها بيده الكريمة..
٭    ٭    ٭
ألّف الشيخ الأكبر مئات الكتب في مختلف مجالات المعرفة الدينيّة والأدبيّة.. ومنها على سبيل المثال ثلاثة كتب في التفسير أحدها في 64 مجلدا، وألّف في الحديث 12 كتابا.. الخ، إلّا أنّه لم يطبع من هذه المؤلّفات -حسب علمي- شيء، واقتصر الاهتمام على المؤلّفات الصوفيّة.. فخسرت المكتبة العربيّة وكذلك الباحثون عن المعرفة فرصة الاستزادة من معارفه في هذه المجالات الهامّة.
بل إنّ غياب هذه المجالات عن الدارسين كان دافعا قويّا لأولئك الذين لا يرون في حياتهم إلا القذى في عيونهم يسقطونه على غيرهم، وشجّعهم على ذلك غياب نظرته في مباحث التفسير والحديث والفقه بشكل مستقل، فراحوا يسقطون غثاءهم ويتقوّلون عليه الأقاويل، إلى أن وصل بهم الأمر إلى تحريف كلامه والافتراء عليه..
وفي هذا المنحى أتمنى على إخواننا، الذين يحبُّ الشيخُ أن يسمّيهم "أهل الفكر" وهم الفلاسفة والأدباء، أن لا يكونوا عونا عليه باستنتاجاتهم الباطلة، وهم يظنّون أنهم يخدمونه. فالشيخ يذكر دائما أنّ علومه صنفان: الأوّل مما ينال بالفكر والاجتهاد، والثاني: لا يُنال إلّا بالكشف؛ وهو ما لم يذكره في كتبه إلّا لمساعدة أهل الكشف على فهم مقتضيات كشفهم، فبعضهم يُكشف له ولا يعي مدلول كشفه.
ونفهم من ذلك أنّ الشيخ خصّ "أهل الفكر" بالصنف الأوّل، ولم يوجِّه الصنف الثاني لهم لانغلاق أبوابه عليهم.. ومن ثمّ فإنّ إصرارهم على الدخول فيه يوقعهم في حرج الخوض فيما لا يدركونه، ويسعون في تفسيره بما لا يقصده صاحبه.. ولذلك كثيرا ما نجد المناوئين يتذرّعون بكلام هؤلاء باعتباره مقصود الشيخ.
والدعوة موجهة إلى مراكز العلم، من جامعات ومراكز بحث، وللصوفيّة والباحثين، ودور النشر في التوجُّه لتحقيق وإبراز جميع المؤلّفات لشيخنا الأكبر من دون الاقتصار على المجموعة الصوفيّة وحدها، وبروح عال من الكفاءة والمسئولية.
٭    ٭    ٭
ستحلّ بعد سبعة أعوام –أي في سنة 1438ه- ذكرى انتقال شيخنا الأكبر إلى رحاب ربّه، ويحسن أن تهتمّ مراكز البحث والدراسات وكذا الطرق الصوفيّة بالاستفادة من هذه الأعوام السبعة للتحضير لإحياء هذه المناسبة بإقامة ندوات ومؤتمرات وإجراء مناقشات تتّصل بالشيخ الأكبر وعلومه.. فهو يستحقّ منّا ذلك، ولعلّي أقول إنّنا نحن من يستحقّ الاستفادة من بحار علمه.
وأخيرا:
نحمد الله تعالى على توفيقه بإنجاز هذا الكتاب الموسوعة، كمساهمة منّا في ذكرى الشيخ الأكبر، ونرجو منه تعالى أن يتقبّله خير قبول، ويجعله في ميزان حسنات شيخنا -قدّس الله سرّه-، ونسأله تعالى أن يعفو عنّا فيما أخطأنا أو قصّرنا فيه، والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.

ترجمة الشيخ محيي الدين بن العربي

مدخل:
فتح المسلمون الأندلس في رمضان من عام 92ه، وتعاقب على حكمها الأمويّون ثم ملوك الطوائف ثم المرابطون الذين كانت حاضرتهم مراكش.. ثمّ شهد القرن الخامس الهجري سقوط المرابطين عام 537ه، وورثهم الموحِّدون في المغرب العربي وغرب الأندلس، ودولة شرق الأندلس التي أقامها عبد الرحمن بن عياض وخلَفه محمد بن سعد بن مردنيش وعاصمتهم مرسية.
بعد وفاة محمد بن سعد عام 567ه آلت شرق الأندلس كلها إلى الموحّدين الذين توسعوا بعد ذلك وكوّنوا مملكة هي الأكبر في شمال أفريقيا والأندلس امتدّت من طرابلس الغرب إلى منتهى البرّ الأفريقي غربا، وشمالا دخل تحت سيطرتها كلّ الأندلس في أقصى امتداد وصل إليه المسلمون في تاريخهم هناك .
ومن المعلوم أنّ جزءا من جند الفاتحين كانوا من اليمن، وبعد الفتح انتقلت قبائل عربية يمنية إلى الأندلس لحماية الثغور، واستوطنوها، ونبغوا فيها في مجالات عدة، ولم تمنعهم مهاجرهم الجديدة من ذكر أصولهم اليمنية والاعتزاز بها.
وأسرة الشيخ الأكبر إحدى هذه الأسر العريقة التي انتقلت إلى الأندلس في تلك الأزمنة، وبقيت تحمل ذكرى الأصل والانتماء بعد أجيال من زمان انتقالها.
يقول الشيخ الأكبر في أكثر من موضع في ذلك:
إنّي لمن أَصْلِ أَجْوَادٍ ذَوِي حَسَبٍ
    العَمُّ مِنْ طَيِّئ والخَالُ خَوْلَانِي
 
٭    ٭    ٭
فأَخْوَالُنَا خَوْلَانُ والعَمُّ طَيِّئ
    بُنَاةُ العُلَى فِي كُلِّ عَالٍ وسَافِلِ
 
ومعلوم أنّ طيّ وخولان قبيلتان يمنيّتان.. ويصرّح الشيخ في موضع آخر:
هِيَ بِنْتُ العِرَاقِ بِنْتُ إِمَامِي
    وَأَنا ضِدَّهَا سَلِيلٌ يَمَانِي
 
اسمه ومولده:
محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي الحاتمي من ولد عبد الله بن حاتم أخى الصحابي الجليل عدي بن حاتم (ت 68ه). يكنى بأبى عبد الله، ويلقّب بمحيي الدين، ويعرف بالطائي الحاتمي، وبابن العربي في عصره وعند المغاربة، وبدون ألف ولام عند المشارقة "ابن عربي".
ولد يوم الاثنين 17 رمضان سنة 560 هـ (26/7/1165م) في مرسية في شرق الأندلس ، في زمن حاكمها أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش، وكانت لوالده مسؤولية عالية في جيش حاكمها . وبعد وفاة ابن مردنيش ودخول مرسية في إطار حكم دولة الموحِّدين، "انتقل علي بن محمد العربي -والد شيخنا- مع أسرته إلى أشبيلية عام 568 ليستقرّ في الشؤون العسكرية بديوان السلطان طيلة خلافة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ومدة من خلافة ابنه أبي يوسف يعقوب المنصور" .
ذكر القاري البغدادي وصف ملامح الشيخ الأكبر، فقال: "لم يكن بالطويل، ولا بالقصير، لين اللحم، بطنه بين الغلظة والرقة، أبيض، مشرب بحمرة وصفرة، معتدل الشعر طويله، ليس بالسبط ولا بالجعد، ولا بالقطط، أسيل الوجه، أعين، معتدل اللثة، ليس في وركه ولا صلبه لحم، خفي الصوت صافيه، أغلظ منه، وما ورق في اعتداله، طويل البنان، سبط الكف، قليل الكلام والضحك، إلا عند الحاجة، ميل طباعه إلى الصفراء والسوداء، في نظره قَدْع ، ومشيه ليس بعجلان ولا بطيء" .
والده:
تجمع المصادر التاريخية أنّ والد الشيخ كان مقرّبا من الحكام سواء في شرق الأندلس أو في دولة الموحّدين، وبقي على ذلك إلى أن توفّاه الله عام 590ه. ولم يمنعه ذلك القرب من أن يكون تقيّا ورعا؛ يقرأ سورة يس على ابنه حين يمرض إلى أن يشفى ببركتها، ويستقبل الصالحين الذين يزورون ابنه ويجالسهم، ويزورهم مع ابنه في أوقات أخرى، وتقوى علاقته بالمفكرين والفلاسفة وفي مقدمتهم قاضي قرطبة، الفيلسوف الطبيب ابن رشد، ويرسل ابنه إليه ليعلم منه حصاد الكشف الذي أعطاه الله في صغره من غير الطريق التي اعتاد الناس تلقي علومهم منها .. ويفخر به ابنه الشيخ الأكبر حين يذكره في كتبه بعد ذلك، ويشير إليه أنه ترقى في المقامات إلى أن أصبح من رجال نَفَس الرحمن .
توفّى والد الشيخ عام 590ه في أشبيلية بعد عودته من زيارة الشيخ عبد العزيز المهدوي في تونس برفقة الشيخ محيي الدين.
والدته:
اسمها نور، وهي من أسرة عربيّة أنصاريّة، أصولها يمنيّة من خولان كما قد تبيّن. يقول الشيخ : وكانت أُمِّي تنتسب إلى الأنصار:
إِنِّي امْرُؤٌ مِنْ جُمْلَةِ الأَنْصَارِ
    فإِذا مَدَحْتُهُمُ مَدَحْتُ نِجارِي
 
ويبدو أنّه كان مهتما بأمر والدته وتنمية مداركها الروحيّة، ويأخذها لزيارة الصالحات العارفات، منهنّ نونه فاطمة بنت ابن المثنى التي كانت تقول لها إذا جاءت إلى زيارتها: "أنا أُمّك الإلهيّة و"نورٌ" أُمّك الترابيّة.. يا نور؛ هذا ولدي، وهو أبوك! فبرِّيهِ، ولا تَعُقِّيْهِ" .
بعد وفاة والده عام 590ه كفلها الشيخ مع شقيقتيه حتى انتقلت الأمّ إلى جوار ربها.
عمّ الشيخ:
كان لشيخنا عمٌّ، شقيق والده، هو عبد الله بن محمد بن العربي، ذكر الشيخ أنه دخل في هذا الطريق وعمره ثمانون عاما وبقي عليه إلى أن مات بعد ثلاثة أعوام، وكان من المتحقّقين بمقام نفس الرحمن حسّا ومعنى. 
شقيقتا الشيخ:
المراجع لا تذكر أنّ للشيخ إخوة سوى شقيقتين: الكبرى أمّ السعد والصغرى أمّ العلاء. ومات والدهم ولم تتزوجا بعد، ذكرهما الشيخ في كتابه الدرّة الفاخرة.. بقوله: "واقترح عليّ أمير المؤمنين أن ألتحق بديوانه وأن يُزوّج أُخْتَايَ. فرفضت وسافرت بهما مع أهلي وابن عمّ لي إلى فاس وزوّجتهما بفاس" .
أزواجه:
يذكر الشيخ في الباب 463 أنه كان يكره النساء والجماع في بداية دخوله الطريق وبقي على ذلك ثمانية عشر عاما، حتى شهِد مقام القطب الثامن من الأولياء.. عندها تغيّرت رؤيته وصدق في توجهه إلى الله وزالت عنه هذه الحالة، وحبّبهنّ إليه.. ويبدو أنّ زواجه الأوّل كان مع نهاية هذه المدة وبالتحديد عام 593ه التي تقابل مرور 18 عاما بعد وصوله مرحلة البلوغ..
ويؤيّد ذلك ما نلاحظه في تعبير الشيخ سالف الذكر، أنه سافر بأختيه مع "أهله" وابن عمّ له إلى فاس، وهو ما يشير إلى أنه كان قد تزوّج قبل ذلك الوقت في أشبيلية، -إذ معلوم أنّ تعبير "أهلي" المقصود به هنا الزوجة- ويكون الأقرب للتوقع أنّ "أهله" المقصودة هنا هي المرأة الصالحة مريم بنت محمد بن عبدون البجائي التي بقيت في عصمته -على ما يبدو- حتى انتقاله إلى رحاب ربّه .
وكان الشيخ يشير إلى زوجته بالصلاح وسلوك الطريق.. يقول الشيخ: "حدّثتني المرأة الصالحة مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن البجائي، قالت: رأيت في منامي شخصا كان يتعاهدني في وقائعي، وما رأيت له شخصا قطّ في عالَم الحسّ. فقال لها: تقصدين الطريق؟. قالت: فقلت له: أي والله أقصد الطريق، ولكن لا أدري بماذا. قالت؛ فقال لي: بخمسة، وهي: التوكّل واليقين والصبر والعزيمة والصدق. فعرضتْ رؤياها عليّ، فقلت لها: هذا مذهب القوم" ، وفي موضع آخر يشير أنّه علم في إحدى وقائعه أنّ لها في التوحيد أوفرُ حظّ وأعظم نصيب .
وفي نهاية نسخة قونية يذكر الشيخ اسم زوجة أخرى له هي فاطمة بنت يونس بن يوسف أمير الحرمين. وهي أمّ ابنه عماد الدين محمد الكبير الذي وقف عليه النسخة الأولى من الفتوحات المكية التي انتهى من كتابتها عام 629. وصيغة التعبير توحي أيضا أنها كانت على قيد الحياة عند كتابته تلك في عام 636ه. ويحتمل أنها أمّ ابنته زينب التي ذكرها في الفتوحات مرتين مع أُمها وجدّتها ، ووصفها بأنها كانت رضيعة عمرها دون السنتين في العام الذي ذهبتْ فيه مع أُمّها إلى الحج وذهب هو إلى بغداد من دمشق، وكان ذلك عام 608ه وفق رواية ابن النجار.
وفي كتاب محاضرة الأبرار يقول الشيخ: "وكان لنا أهلٌ تقرّ العين بها ففرّق الدهر بيني وبينها فتذكّرتها ومنزلها بالحلّة من بغداد" . ونظرا لأنّ آخر زيارة معلومة لنا قام بها الشيخ إلى بغداد كانت في عام 608ه فتكون صلته بزوجته البغداديّة قد انقطعت في تلك الآونة أو بعدها، ولا نعلم سبب ذلك الانقطاع؛ هل هو الطلاق أو الموت؟
هذه الحالات الثلاث هي التي ذكرها الشيخ صراحة عن أزواجه إما بذكر أسمائهن، أو بتعبيره المتعارف عليه "أهل".
وذكر القاري البغدادي (توفى بعد 818ه) أنّ الشيخ تزوج في دمشق ابنة قاضي قضاة المالكية بدمشق زين الدين أبي محمد عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي المالكي (589-681ه) الذي "ترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ" .
كما أنّ مصادر أخرى تشير إلى أنّه تزوج بالأناضول أمّ صدر الدّين القونوي بعد وفاة زوجها الأوّل مجد الدّين إسحاق الرومي.
أولاده:
المعلومات المؤكدة تشير إلى أنّه كان له ولدان وبنت.. أما البنت فهي زينب التي ذكر في "الفتوحات المكيّة" كرامة حصلت لها في طفولتها ولم تكن قد بلغت العامين من عمرها.. والولدان هما عماد الدين محمد الكبير، قال الشيخ قطب الدين اليونيني عنه: "كان فاضلًا سمع الكثير وسمع معنا صحيح مسلم على الشيخ بهاء الدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي، وتوفّى بدمشق في شهر ربيع الأول سنة 667ه، ودفن عند والده بسفح قاسيون وقد نيف على الخمسين" . والثاني سعد الدين محمد ولد في ملطية في شهر رمضان 618ه، سمع الحديث ودرس، وكان شاعرا مجيدا، توفي عام 656ه، ودفن عند والده.
دراسته:
بعد انتقال أسرة الشيخ إلى أشبيلية وعمره حينذاك ثمانية أعوام بدأ شيخنا في أشبيلية يتلقى العلوم لدى أئمتها وفقهائها..
في بداية أمره تعلم القرآن الكريم وحفظه لدى جاره، ثم تعلم القراءات السبع على الشيخ محمد بن خلف بن صاف اللخمي بمسجده المعروف به، بقوس الحَنِية بأشبيلية وكان إذ ذاك قد بلغ الثامنة عشرة من عمره،
ودرس الحديث على أبي محمد عبد الحقّ بن عبد الله الأزدي الأشبيلي، وعلى أبي الحسين بن الصائغ بسبتة، من ذرّيّة أبي أيّوب الأنصاري، وعلى أبي الصبر أيّوب الفهري، وعلى أبي محمد بن عبيد الله الحجري بسبتة، ومحمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسي، ومكين الدين أبو شجاع زاهر بن رستم الأصبهاني البزار بمكة، وآخرين.
كما أنّه درس واستوعب الفقه لجميع المذاهب الإسلاميّة، وكذا السيرة النبويّة، وكتب الأدب وغير ذلك. وكان الشيخ قد ذكر في إجازته لأمير المؤمنين الملك المظفر بن الملك العادل أسماء ستّين من شيوخه في القراءات والحديث والفقه والسِّيَر في الأندلس والمغرب العربي ومصر ومكة وبغداد والموصل وغيرها.. ومن جميع المذاهب الإسلامية.. مبيّنا وجود شيوخ آخرين استفاد منهم غير هؤلاء.
وكذا ذكر أسماء عشرات من شيوخه الآخرين في كتبه الأخرى وأهمها "رسالة روح القدس في محاسبة النفس" و"الدرة الفاخرة فيمن انتفعت به في طريق الآخرة"
تصوفه:
انتسب شيخنا للطريقة أوّل أمرِه من خلال شيخه أبي العبّاس أحمد العريبي الذي قدم إلى أشبيلية من بلده "العُليا" بغرب الأندلس وكان ابن العربي أوّل من سارع إليه، ووصفه أنّه كان "بدويّا أمّيّا لا يكتب ولا يحسب، وكان إذا تكلّم في علم التوحيد فحسبك أن تسمع؛ كان يقيّد الخواطر بهمّته ويصدع الوجود بكلمته، لا تجده أبدا إلا ذاكرا على طهارة مستقبل القبلة، أكثر دهره صائما... وكان قويّا في دين الله لا تأخذه في الله لومة لائم. كنت إذا دخلت عليه يقول: مرحبا بالابن البار، كلّ ولدي نافق عليّ وجحد نعمتي إلّا أنت؛ فإنك مقرّ بها معترف، لا أنساها الله لك... وكان كثير التفكر مبسوطا مع الحقّ في عموم أحواله... وكان لا يتجرّد لنوم في ثوب، ولا يهتزّ في سماع، فإذا سمع القرآن تقصّف وتصدّعت أركانه"
وخلال هذه الفترة التي صحب فيها شيخه العريبي كان في حياته أيضا الشيخ الميرتلي ، وله معه أخبار وحكايات أوردها في هذا الكتاب.
ويبدو أنّه فقد شيخه العريبي بعد عودته إلى منطقته "العليا بغرب الأندلس" بعد أن قضى في أشبيلية ستّة أشهر، وكان قد أسنّ وكفّ بصره قبل وفاته -رحمه الله-، وبقي شيخنا بعد ذلك مكتفيا بجلسات السماع الصوفي مع أقرانه مع ما يتخللها من ذكر ورقص وتواجد يستمر إلى الصباح يؤدّون في نهايتها صلاة الفجر بأسرع وقت، وهي التي سماها فيما بعد بالفترة، أو زمن جاهليّته..
ثمّ تعرّف على أحد أهم الشخصيّات التي كان لها تأثير كبير في مسار حياته وهو الشيخ يوسف بن يخلف الكومي أحد أصحاب شيخ الشيوخ أبي مدين الغوث ومن خلاله عرف لأوّل مرة دلالة لفظ التصوّف -وكان قد سلك الطريق وفتح له فيه دون معرفة مسمى هذا النهج- وقرأ معه الرسالة القشيرية، إضافة إلى فنائه بشيخ الشيوخ الغوث بعد أن ذاق سيرته من شيخه وتلميذه الكومي -كما ذكر ذلك في الفتوحات- ومن أحد الأبدال وهو موسى السّدّراتي.
والواقع إنّ عقد الثمانينات -وعلى الخصوص عامي 585 و586ه- كان حافلا بأخبار فتوحاته ومواجيده وعزلته في المقابر وتنقّله في نواحي الأندلس ولقاءاته بعدد من أساطين الفكر والمواجيد.. ولعلّ لقاءه بالفيلسوف الطبيب أبي الوليد بن رشد قاضي قرطبة من أشهر هذه اللقاءات . وكان شيخنا يتوق إلى لقاء الغوث، شيخ الشيوخ أبي مدين -الذي كان يقطن بجاية- بعد أن استغرقتْ محبّته له أقصاها.. ولمّا انتقل الشيخ أبو مدين إلى رحاب ربه عام 589ه في تلمسان، تحرّك شيخنا من الأندلس تجاه الضفة الأخرى، إلى حيث مرقد شيخ الشيوخ بتلمسان، ومنها يتّجه صوب تونس ففيها أحد أشهر أصحاب أبي مدين؛ عبد العزيز المهدوي. وكان ابن عمه، أبو الحسين علي بن عبد الله بن محمد بن العربي، مهاجرا هناك يتلقى علومه لدى الشيخ المهدوي.
الفتح الأكبر:
يتبيّن من حديث الشيخ في الباب 351 أنّ كلّ الفتوحات التي تحدّث عنها قبل عام 590ه إنما كانت بمثابة مقدّمات الفتح الأكبر الذي حصل له في العام 590ه، بعد أو أثناء هذه الزيارة المباركة، وهو دخوله أرض العبودية التي ثبت عليها بقية عمره، وهي التي يصفها بعد 45 عاما بقوله:
"العبوديّة ذلّةٌ محضةٌ خالصةٌ ذاتيّةٌ للعبد؛ لا يكلّف العبد القيام فيها؛ فإنّها عينُ ذاته. فإذا قام بحقّها، كان قيامُه عبادةً. ولا يقوم بها إلّا مَن يسكن الأرض الإلهيّة الواسعة التي تسع الحدوث والقِدم؛ فتلك أرضُ الله؛ مَن سكن فيها تحقّق بعبادة الله، وأضافه الحقّ إليه. قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ يعني فيها. ولي مذ عبدتُ الله فيها، من سنة تسعين وخمسمائة، وأنا اليوم في سنة خمس وثلاثين وستمائة".
ولعلنا نستنتج هنا أنّ كون حدوث هذا الأمر بعد انتقال شيخ الشيوخ الغوث أبي مدين، إنما كان إشارة إلى وراثة الشيخ الأكبر له في مقامه، وسيكون من ثمّ قاعدة جديدة للترقّي في إطار هذا الوضع الجديد، ومنها نيله مقام ختم الولاية المحمّدي عندما كان في فاس عامي 594 و 595ه.
وفي ذلك يقول:
أَنَا خَتْمُ الولايَةِ دُونَ شَكٍّ
    لِوِرْثِي الهَاشِمِيَّ مَعَ المَسِيحِ
 
وليس المقصود بختم الولاية أنّه آخر الأولياء، كما قد يتبادر إلى الذهن لأوّل وهلة، وإنما المقصود به -كما يبيّنه الشيخ- أنها رتبة لا تكون إلّا "لرجل من العرب، من أكرمها أصلا ويدًا" بحيث "لا يكون في الأولياء المحمّديّين أكبر منه" ، كما أنّه "أعلم الخلق بالله، لا يكون في زمانه ولا بعد زمانه، أعلمُ بالله وبمواقع الحكم منه. فهو والقرآن إخوان" "ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة شعرة واحدة من جسده صلى الله عليه وسلم ولهذا يُشعر به إجمالا. ولا يُعلم تفصيلا إلّا مَن أعلمه الله به، أو مَن صدّقه إن عرّفه بنفسه في دعواه ذلك" .
تنقلاته:
بعد عودته إلى الأندلس عام 590ه قضى الشيخ الأكبر فترة 8 سنوات بعد هذا الوضع الجديد له متنقّلا بين المغرب العربي والأندلس، وعَبَر مضيق جبل طارق ذهابا وجيئة 3 مرات، وزار فيها جميع مدن دولة الموحّدين المعروفة والتقى خلالها بالأئمة والعلماء والسلاطين ولم يتوقف عن تلقّي العلوم الشرعيّة في مختلف فروعها، كما أنّه قد صار شيخا يشار إليه بالبنان وله أصحاب ومريدون، وأشهرهم على الإطلاق صاحبه الوفي عبد الله بن بدر الحبشي اليمني هاجر إليه من مكة المكرمة إثر رؤيا رآها دعته إلى الهجرة إليه، وبقي ملازما له كظلّه في حلّه وترحاله إلى أن لقي ربّه في ملطية أواخر عام 618ه.
رحلته إلى الشرق:
بدأ في أواخر عام 596ه بالتجهز للسفر إلى المشرق العربي.. فنجده ينتقل من الأندلس إلى المغرب، ويودّع شيخه الكومي في سلا ثم يتجه إلى مراكش، ومنها إلى فاس، ثم بجاية حيث كان شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث، وأخيرا إلى تونس للبقاء مع الشيخ عبد العزيز المهدوي تسعة أشهر.. وفي ختامها يشدّ الرحيل صوب الشرق لأداء فريضة الحج، وتشاء الأقدار أن تكون هذه رحلته الأولى والأخيرة إلى بلاد الشرق؛ إذ لم يعد بعدها إلى المغرب العربي والأندلس .
كانت القاهرة هي المحطة الأبرز للشيخ في أوّل قدوم له.. وفيها قضى شهر رمضان المبارك من عام 598ه بضيافة أخوين من أعزّ أصحابه ورفيقي طفولته وجيرانه في أشبيلية، وكانا قد سبقاه في الرحلة إلى الشرق عام 590ه، وهما: أبو عبد الله محمد الخياط وعرف بالقسطلاني في مصر، وأخوه أبو العباس أحمد الأشبيلي الحريري . وبعد انتهاء شهر رمضان ودّعهما لزيارة الخليل إبراهيم  في مدينة الخليل وزيارة بيت المقدس، ومنها اتجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج في نفس العام. وبقي مجاورا في مكة عامي 599 و 600ه.
تنقلاته في المشرق:
كان الشيخ الأكبر قد زار الإسكندرية والقاهرة والخليل وبيت المقدس قبل وصوله إلى مكة المكرمة أواخر عام 598ه، وخلال فترة مجاورته بمكة زار الطائف. وفي أوائل 601ه يبدأ الشيخ الأكبر في الطواف بين حواضر بلاد المشرق.. فنراه يزور المدينة المنورة للسلام على الحبيب المصطفى وبغداد والموصل ودنيسير وميافارقين من ديار بكر وقونية وسيواس وملطية وقيصرية وحرّان وحلب ودمشق وغيرها من البلاد، ويكرّر زياراته لعدد منها، ويعود إلى مكة المكرمة مرتين: الأولى في عام 604ه ويؤدّي فريضة الحج للمرة الرابعة ويجاور فيها مدة، والثانية في عام 611ه.
وبعد عشرين عاما من الترحال في بلاد المشرق يحطّ شيخنا رحاله في دمشق وتقتصر زياراته بعد ذلك على حلب، لمقابلة أصحابه هناك ومن أشهرهم فيها تلميذه النجيب إسماعيل بن سودكين النوري .
شيوخه:
يصعب حصر شيوخه وأساتذته، نظرا لأنه يعتبر كلّ من أفاده شيئا شيخا له، وتزخر مؤلفاته بأسماء العشرات منهم. كما تزخر كتب التراجم المؤلفة عن الشيخ الأكبر بالعشرات من الأسماء الذين ذكر فضلهم عليه.. ولعلّ أشهرهم من قد ذكرناهم سابقا عند حديثنا عن دراسته وتصوّفه.. 
وكان الشيخ قد أوضح أنّ ذكره لهم بهذا الأسلوب إنما هو من باب ذكر فضلهم.. فيقول في السفر 19 ص 5ب: إنّ الإمام الأيسر الواقف على يسار القطب واسمه عبد الملك "أنعم عليّ ببشارة بشّرني بها، وكنت لا أعرفها في حالي، وكانت حالي، فأوقفني عليها، ونهاني عن الانتماء إلى مَن لقيت من الشيوخ، وقال لي: لا تَنْتَمِ إلّا لله؛ فليس لأحد ممن لقيتَه عليك يدٌ مما أنت فيه، بل الله تولّاك بعنايته. فاذكر فضل من لقيت إن شئت، ولا تنتسِبْ إليهم وانتسِبْ إلى ربّك. وكان حال هذا الإمام مثل حالي سَواء. لم يكن لأحدٍ ممن لقيه عليه يد في طريق الله إلّا لله".
لبس الخرقة:
جاء في القرآن الكريم أنّ سيدنا يوسف عليه السلام بعد أن كشف لإخوته عن نفسه: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ . ومن ذلك اعتبر الصوفيةُ الخرقةَ؛ يمنحها الشيخ للمريد، يخلع عليه فيها أخلاقا تتناسب والمقام الجديد المهيّأ له.. وكان الشيخ في بداية أمره لا يقول بالخرقة المعروفة الآن، "فإنّ الخرقة عندنا إنما هي عبارة عن الصحبة والأدب والتخلّق، ولهذا لا يوجد لباسها متّصلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن توجد صحبة وأدبا، وهو المعبَّر عنه بلباس التّقوى، فجرت عادة أصحاب الأحوال إذا رأوا أحدا من أصحابهم عنده نقص في أمرٍ مّا، وأرادوا أن يكمّلوا له حاله، يتّحد به هذا الشيخ؛ فإذا اتّحد به أخذ ذلك الثوب الذي عليه في حال ذلك الحال، ونزعه وأفرغه على الرجل الذي يريد تكملة حاله، فيسري فيه ذلك الحال، فيكمل له ذلك، فذلك هو اللباس المعروف عندنا، والمنقول عن المحقّقين من شيوخنا" .
واقتنع الشيخ بلبس الخرقة عندما رأى الخضرَ قد اعتبرها، وألبسها شيوخا.. ومنهم تسلسلت ووصلت إلى الشيخ الأكبر بطريقين:
الأولى من يد تقيّ الدين عبد الرحمن بن علي بن ميمون بن آب التوزري، ولبسها هو من يد صدر الدين شيخ الشيوخ بالديار المصريّة وهو محمد بن حمويه ، وكان جدّه قد لبسها من يد الخضر.
والثانية من يد علي بن عبد الله بن جامع من أصحاب عليّ المتوكّل، وأبي عبد الله قضيب البان، كان يسكن بالمِقلى -خارج الموصل- في بستان له، وكان الخضر قد ألبسه الخرقة بحضور قضيب البان، وألبسها الشيخَ بالموضع الذي ألبسه فيه الخضر من بستانه، وبصورة الحال التي جرت له معه في إلباسه إيّاها.
وفي رسالة نسب الخرقة يذكر الشيخ أنه لبس الخرقة القادرية من يد الشيخ جمال الدين يونس بن أبي الحسن العطار بمكة بالحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة بعد أن صحبه وتأدب به. كما أنه كان قد لبس الخرقة من يد أبي عبد الله محمد بن قاسم بن عبد الرحمن التميمي الفاسي.
ويذكر الشيخ أنه لذلك قد ألبس الخرقة عددا من مريديه وأصحابه ذكورا وإناثا، وهناك عدد ممن ألبسهنّ الخرقة ذكرهنّ في ديوانه.
أصحابه:
وكما صعب علينا حصر شيوخه، يصعب علينا أكثر حصر أصحابه وأتباعه لكثرتهم.. ومع ذلك فهناك ثلاثة أسماء لامعة كانت مقرّبة لديه أكثر من غيرها..
أوّلهم هو عبد الله بدر الحبشي اليمني ، والثاني هو إسماعيل بن سودكين النوري ، أما ثالثهم فهو صدر الدين محمد بن إسحق القونوي . كما أنّ هناك العشرات من الذين شاركوا في سماعات "الفتوحات المكيّة" وحدها، وأسماؤهم مبيّنة في مواقعها في الكتاب.. وهم من كبار القضاة والفقهاء والمؤرّخين.. وعددهم يربو على المائة والثلاثين ممن ينتمون إلى جميع المذاهب الإسلامية وفق التعريفات الواردة أمام أسمائهم..
وذكر الشيخ في كتاب "المبشّرات" أنه في عام 629ه رأى رؤيا تبشّره بأنه سيكون له ألف ولد روحي .
علاقته بعلماء عصره:
اتّسمت علاقته بعلماء عصره بالثقة الكبيرة بين الطرفين والاحترام المتبادل والإفادة والاستفادة دونما حرج.. فنراه يصف علاقته بأحد أهمّ رجال عصره في أشبيلية وهو الشيخ يوسف بن يخلف الكومي، بقوله: "وما راضني أحد من مشايخي سِوَاه؛ فانتفعت به في الرياضة، وانتفع بنا في مواجيده؛ فكان لي تلميذا وأستاذا، وكنت له مثل ذلك. وكان الناس يتعجّبون من ذلك!" .
وهناك أيضا يظهر مدى الاحترام الذي كان يحظى به من قبل أساتذة القراءات فيها من خلال القصة الظريفة التالية التي يرويها في السفر 37 ص 79ب:
"بتنا ليلةً عند أبي الحسين بن أبي عمرو بن الطفيل بأشبيلية، سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكان كثيرا ما يحتشمني، ويلتزم الأدب بحضوري، وبات معنا أبو القاسم الخطيب، وأبو بكر بن سام، وأبو الحكم بن السراج، وكلّهم قد منعهم احترام جانبي الانبساط، ولزموا الأدب والسكون. فأردت أعمل الحيلة في مباسطتهم، فسألني صاحب المنزل أن يقف على شيء من كلامنا؛ فوجدت طريقا إلى ما كان في نفسي من مباسطتهم، فقلت له: عليك من تصانيفنا بكتابٍ سمّيناه: "الإرشاد في خرق الأدب المعتاد" فإن شئت عرضتُ عليك فصلا من فصوله؟ فقال لي: أشتهي ذلك. فمددتُ رجلي في حجره، وقلت له كبّسني. ففهِم عنّي ما قصدت، وفهِمت الجماعة؛ فانبسطوا وزال ما كان بهم من الانقباض والوحشة، وبتنا بأنعم ليلة في مباسطة دينيّة".
ومرة أخرى يشرح علاقته بشيوخ عصره في فاس، ويقول: "وكذلك اجتمعتُ بقطب الزمان، سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بمدينة فاس. أطلعني الله عليه في واقعة، وعرّفني به.
فاجتمعنا يوما ببستان ابن حيّون بمدينة فاس، وهو في الجماعة لا يؤبَهُ له. فحضر في الجماعة -وكان غريبا من أهل بجاية؛ أَشَلَّ اليد- وكان في المجلس معنا شيوخ من أهل الله، معتبَرون في طريق الله، منهم أبو العباس الحصّار ، وأمثاله. وكانت تلك الجماعة بأسرها، إذا حضروا يتأدّبون معنا؛ فلا يكون المجلس إلّا لنا، ولا يتكلّم أحد في علم الطريق فيهم غيري، وإن تكلّموا فيما بينهم رجعوا فيها إليّ" .
وحين قدم إلى مكة المكرمة كانت صلته وثيقة ومتينة مع إمام الحرم المكي الشريف، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم الأصبهاني وأخذ عنه الحديث، وذكره في مواضع عدة في مؤلفاته مشيرا إليه بأنه شيخه . وتوطدت علاقته كذلك مع مفتي الحجاز الشيخ محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني ، وأشار إلى ذلك في الفتوحات المكية، كما روى الحديث فيها عن يونس بن يحيى بن أبي الحسن الهاشمي القصار .
وفي العراق كانت له علاقة متينة مع علمائها ومنهم العلامة الحنفي أحمد بن مسعود بن شدّاد المقري الموصلي ومع العلامة والمؤرخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي، وهو الذي كتب "مناقب ابن العربي"
وفي الشام يذكر قصة ظريفة تشير إلى علاقته الطيّبة بأشهر علمائها، وهو العزّ بن عبد السلام ، وبالقاضي شمس الدين الشيرازي الشافعي. يقول الشيخ في ديوانه ص 256:
"رأيت في الواقعة عزّ الدين بن عبد السلام الفقيه الشافعي، وهو على مصطبة كالمدرسة يعلّم الناس المذهب، فقعدت إلى جانبه. فرأيت إنسانا قد أتى إليه يسأله عن كرم الله تعالى، فكان ينشده بيتا في عموم كرم الله تعالى بعباده، فكنت أقول له: إنّ لي في هذا المعنى بيتا من قصيدة. فكلما جهدت أن أتذكرهُ لم أتذكره في ذلك الوقت، فكنت أقول له: إنّ الله تعالى قد أجرى على لساني في هذا الوقت في هذا المعنى ما أقوله. فقال لي : قل، وهو يبتسم، فينطّقني الله تعالى بأبيات لم تطرق سمعي قبل ذلك، وهي:
الله أكرمُ أن يحـظى بنـعمته
    الطائعون ويشقى المجرم العاصي
 
وإن شقي فـكآلام يصيبُ بها
    ألمؤمنين فمن دانٍ ومـن قاصي
 
وكلّهم عـالم بالله مستنِــد
    إليه: مفـلـسهم ورَبُّ أوقاص
 
فكان يبتسم. فبينما نحن كذلك إذ مرّ القاضي شمس الدين الشيرازي رضي الله تعالى عنه . فلما أبصرني، نزل عن بغلته وجاء فقعد إلى جانب العِزَّ بن عبد السلام، ثم أقبل عليّ وقال لي: أريد أن تقبّلني في فمي. فضمّني وقبّلته في فمه. فقال العِزُّ بن عبد السلام: ما هذا؟! فقلت له: إنّا في رؤيا، والتقبيل قبول يطلبه منّي؛ فإنّه شخص قد حسّن الظنّ بي، وقد خطر له قِصر أمله وقبيح عمله واقتراب أجله.
ثمّ قمت فعضدته حتى ركب وانصرف. ثم قال لي العزّ بالإيماء والتلويح لا بالتصريح: كيف حالك مع أهلك؟ فكنت أنشده بيتين ما طرقا سمعي قبل ذلك، بل كان الله ينطّقني في ذلك الوقت بهما وهما:
إذا رأى أهل بيتي الكيس ممتلئا
    تبسّمتْ ودَنَتْ مِنِّي تمازحني
 
وإن رأته خليّا من دراهــمه
    تكرّهتْ وانثنت عنّي تقابحني
 
فكان يقول لي في إشارته: كلنا مع الأهل ذلك الرجل، والله لقد صدقتَ. وههنا انتهت المبشّرة والله الواقي".
وعندما قرّر الشيخ الأكبر الاستقرار في دمشق عام 620ه، استضافه طيلة حياته فيها قضاتها الشافعيّون بنو زكي، ووفّروا له دارا بقي فيه حتى انتقاله إلى رحاب ربّه بعد 18 عاما، فغسلوه وكفّنوه، وهيّئوا مرقده في تربتهم .
كراماته:
خصّص الشيخ الأكبر الباب الرابع والثمانين ومائة والباب الذي يليه للحديث عن الكرامات، وفيه يفرّق بين الكرامات الحسّيّة التي تفهمها العامة وهي التي يمكن أن يدخلها المكر الخفيّ والاستدراج، وبين الكرامات المعنويّة التي لا يعرفها إلا الخواص ولا يدخلها مكر ولا استدراج، وهي "أن تُحْفَظَ عليه آدابُ الشريعة، وأن يوفَّق لإتيان مكارم الأخلاق واجتناب سفسافها، والمحافظة على أداء الواجبات مطلقا في أوقاتها، والمسارعة إلى الخيرات، وإزالة الغلّ والحقد، من صدره للناس، والحسد، وسوء الظنّ، وطهارة القلب من كلّ صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس، ومراعاة حقوق الله في نفسه وفي الأشياء، وتفقُّد آثار ربّه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في خروجها ودخولها؛ فيتلقّاها بالأدب إذا وردتْ عليه، ويُخرِجها وعليها خلعة الحضور" .
ولذلك فهو لا يرفض فكرة وجود الكرامات وظهورها على أحد فالأمر بيد الله يعطيه من يشاء، إلا أنّ له موقفا معارضا لمن تتعلق همّته بالكرامات..
وأشار في ثنايا الكتاب إلى عدد من هذه الكرامات التي ظهرت له وحدثت معه.. ولم يذكر أيّ من هذه الكرامات من باب الفخر أو العجب بنفسه، بل كان يأتي بها في حال دلالتها لصدق الحديث الذي يناقشه.. ويعتبر ذلك مصداقا للنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم. ومما ذكره:
1- "ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار؛ الكشف: فقد سمعنا الأحجارَ تذكر الله رؤية عين، بلسان نُطق تسمعه آذاننا منها، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله، مما ليس يدركه كلّ إنسان.. "
2- "وقد سمعنا بحمد الله في بدء أمرنا تسبيحَ حجر، ونُطْقَه بذِكْر الله" .
3- "فاحذر -يا أخي- يوما تشهد فيه عليك الجلود والجوارح، وأنصف من نفسك، وعامل جوارحك بما تشكرك به عند الله. ولقد رأينا ذلك عيانًا في الدنيا في زمان الأحوال التي كنّا فيها، أعني نُطق الجوارح" .
4-"ولقد رأيت ذلك ذوقا من نفسي. جَرَيْنا بالريح الشديد من ضحى يومنا إلى غروب الشمس مسيرة عشرين يوما في موجٍ كالجبال؛ فكيف لو كان البحر فارغا، والريح من وراء؟! كنّا نقطع أكثر من ذلك" .
5-" فكما لا تشبه الجنّة الدنيا في أحوالها كلّها، وإن اجتمعت في الأسماء، كذلك نشأة الإنسان في الآخرة لا تشبه نشأة الدنيا، وإن اجتمعتا في الأسماء والصورة الشخصيّة؛ فإنّ الروحانيّة على نشأة الآخرة أغلب من الحسّيّة. وقد ذقناه في هذه الدار الدنيا، مع كثافة هذه النشأة. فيكون الإنسان بعينه، في أماكن كثيرة، وأمّا عامّة الناس فيدركون ذلك في المنام" .
6- "وأمّا أنوار الرياح؛ فهي أنوار عنصريّة أخفاها شدّةُ ظهورها؛ فغشيت الأبصارُ عن إدراكها. وما شاهدتُها إلّا في الحضرة البرزخيّة، وإن كان الله قد أتحفنا برؤيتها حِسًّا بمدينة قرطبة، يوما واحدا، اختصاصا إلهيّا، وورثا نبويّا محمديّا" .
7- "...فينتج هذا الذِّكْرُ لصاحبه مشاهدةَ الحقِّ عند قوله، وقبوله لَهُ. ومَن شاهد الحفظةَ فمِن هذا المقام شَهِدَهم. ولمّا أشهدَنيهم الحقُّ -تعالى- تعذَّبْتُ بشهودهم، ولم أتعذّب بشهود الحقِّ. فلم أَزَل أسألُ اللهَ في أن يحجبهم عنّي؛ فلا أُبصرهم ولا أكلّمهم. ففعل الله معي ذلك، وسترهم عن عيني" .
8- "ولقد أَذَّنْتُ يوما، فكلّما ذكرتُ كلمة من الأذان كشفَ الله عن بصري، فرأيت ما لها مدّ البصر من الخير. فعاينتُ خيرا عظيما لو رآه الناس العقلاء لذهلوا لكلّ كلمة، وقيل لي: هذا الذي رأيتَ ثوابُ الأذان" .
9- "...وأودعتها (يعني الكعبة) شهادةَ التوحيد عند تقبيل الحجَر. فخرجت الشهادة عند تلفّظي بها -وأنا انظر إليها بعينيّ- في صورة سلك؛ وانفتح في الحجَر الأسود مِثل الطاق، حتى نظرت إلى قعر طول الحجر فرأيته نحو ذراع" .
10- "وأمّا النظرة فما رَوَيْتها عن أحد، ولا سمعتها عن أحد، لكنّي رأيتها من نفسي. نُظِرْتُ نظرةً فعلمتُ ما تضمّنته من العلوم، وأُعطيتُ نظرةً فنظرتُ بها، فَعَلِمَ بها مَن نظرت إليه، جميع ما تضمَّنَتْهُ تلك النظرة من العلوم. وهذا هو علم الأذواق" .
11- "كانت لي بنت ترضع، وكان عمرها دون السنتين وفوق السنة، لا تتكلّم. فأخذت ألاعبها يوما. فقلت لها: يا زينب؛ فأصغت إليّ. فقلت لها: إنِّي أريد أن أسألك عن مسألة مستفتيا: ما قولك في رجل جامع امرأته ولم ينزل، ماذا يجب عليه؟ قالت لي: "يجب عليه الغسل" بكلام فصيح. وأُمّها وجدتها تسمعان. فصرخت جدّتها، وغشي عليها" .
مؤلفاته:
أسهب الشيخ الأكبر في التأليف كما لم يفعل غيره.. ولم تمنعه تنقلاته الدائمة من الكتابة في مختلف أبواب المعرفة. وتعدّدت اهتماماته وتشعّبت اتجاهاتها بين التفسير (3 مؤلفات أحدها في 64 مجلدا) والحديث (12 مؤلفا) والسيرة والفقه والتصوف والتراجم والوعظ والوصايا والأدب... الخ. وقد اختلف الباحثون اختلافا بيّنا في تحديد مؤلفاته. كان الشيخ الأكبر قد ذكر في إجازته للملك المظفر بهاء الدين غازي بن الملك العادل في شهر محرم 632ه ما تيسّر وذكر منها 284 مؤلفا بين رسالة وكتاب. وذكر الدكتور عثمان يحيى أنّ مؤلفات الشيخ الأكبر بلغت 846 مؤلفا، فُقِد عدد منها والباقي 550 مصنفا . أمّا الدكتور محمد حاج يوسف فقد ذكر أنّ مؤلفات الشيخ الأكبر 364 مؤلفا .
كما أنه كان شاعرا مكثرا.. وعدد قصائده في الديوان المطبوع والفتوحات المكية -وهو 2421 قصيدة- يدفعه إلى المركز الأوّل بين شعراء العربية. وإن كان عدد أبيات هذه القصائد (17449 بيتا) يتراجع به إلى الموقع الرابع بعد ابن الرومي (221-283ه) وخليل مطران (1288-1368ه) ومهيار الديلمي (ت 428ه) ، إلا أنه سيتغير هذا الموقف لصالحه لو أنّا أضفنا شعره المبثوث في كتبه الأخرى أو في ديوانه غير المنشور، وربما فاقت الأربعين ألف بيت وفق تقدير الأستاذ/ عبد الباقي مفتاح .
وفي هذا المجال يتفوّق الشيخ الأكبر على أقرانه الآخرين كونه نظم في كلّ بحور الشعر إضافة إلى الموشحات، كما أنّه نظم في كل قوافي الشعر العربي بدون استثناء.
علاقته بالحكام:
لم يكن الشيخ الأكبر غريبا عن دواوين الحكم منذ طفولته. فلقد كان والده مقرّبا لدى حاكم شرق الأندلس قبل وبعد ولادة الشيخ، واستمرّت هذه العلاقة بعد انضمام شرق الأندلس إلى دولة الموحِّدين وانتقال الأسرة إلى أشبيلية وعمر الشيخ حينئذ كان 8 سنوات؛ إذ بقيت العلاقة متينة بين أسرة الشيخ وسلاطين الموحِّدين المتعاقبين لدرجة أنّ السلطان أبا يوسف كان قد تحدّث عن خطبة شقيقة الشيخ الكبرى للأمير أبي العلاء، وبعد وفاة الأمير ووفاة والد الشيخ الأكبر عام 590ه عرض عليه العمل في ديوانه، وبيَّن له اهتمامه بتزويج أختيه، لولا أنّ الشيخ رفض ذلك وفضّل الابتعاد عن هذا الموقع، بل إنه رفض معونة السلطان ذات مرة معتبرا إيّاها مالا حراما لا يحلّ له، ولم تكن ردّة فعل السلطان سوى أنّ له أن يعمل وفق قناعته. ولذلك تميّزت علاقة الشيخ الأكبر بالحكام بالاحترام البالغ من قبل الحكام إليه، وبالنصح والتوجيه من قبل الشيخ لهم.
وفي المغرب العربي يتحدّث الشيخ عن علاقة طيّبة ربطته بوالي وَجْدَة أبي عبد الله الطنجي ويترضّى عنه ويصفه بأنّه من الأولياء . ويذكر أنّ الأمير أبو يحيى بن واجتّن كان صديقه .
وفي المشرق كانت بين الشيخ والملك العادل أبي بكر بن أيّوب، صلة وطيدة، أشار إليها في السفر 32 ص 59ب. ومع الملِك الظاهر غازي بن الملِك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب، صاحب حلب (ت613ه) . وتطورت هذه العلاقة أكثر وبرزت مع اثنين من الحكام اللذين كانا يعتبران نفسيهما مريدين وتلميذين له؛ أولهم كيكاوس الذي تولّى الحكم عام 607ه في بلاد الروم المعروفة الآن ببلاد الأناضول وتوفّى عام 616ه، والثاني ملك دمشق الملك المظفر بهاء الدين غازي بن الملك العادل الذي أجازه الشيخ عام 632ه في رواية كتبه عنه.
وفاته:
بعد حياة حافلة بالعطاء، امتدّت 78 عاما، توزّعت مناصفة بين المغرب العربي ومشرقه، انتقل  إلى رحاب ربه ليلة الجمعة الثانية والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة . "وكان لجنازته يوم مشهود ووقت مسعود، وشيّعه صاحبُ دمشق راجلا مع جمهور الأمراء والوزراء والعلماء والفقراء، ولم يبق بدمشق أحد إلا شيّعه. وغلّقت أهلُ الأسواق دكاكينهم ثلاثة أيام تعزية له. ودفن بجبّانة محيي الدين بن الزكي بصالحيّة دمشق، وبني عليه بناء عظيم ومزار كريم" .
وحين دخل السلطان التركي سليم الأوّل دمشق بعد استيلاء جيوشه على الشام ومصر، كان من أوّل أوامره بناء مقام واسع على ضَريح الشيخ في ساحة مسجد أسّسه بجواره، وصلّيت فيه أوّل جمعة بحضور السلطان عام 924هـ ( 5 فبراير 1518) .
المعترضون:
ذكر الشيخ في السفر 10 ص 126ب أنّه كان يكتب عن مقام إبراهيم الخليل ؛ يقول: "فأخذتني سِنَةٌ. فإذا قائل من الأرواح؛ أرواح الملأ الأعلى، يقول لي عن الله تعالى: ادخل مقام إبراهيم، وهو أنّه كان أوّاها حليما. ثمّ تلا عليّ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ فعلمتُ أنّ الله -تعالى- لا بدّ أن يعطيني من الاقتدار ما يكون معه الحِلم، إذ لا حليم عن غير قدرة على مَن يحلم عنه. وعلمتُ أنّ الله -تعالى- لا بدّ أن يبتليَني بكلام في عِرْضِي من أشخاص، فأعاملهم، مع القدرة عليهم، بالحِلم عنهم، ويكون أذى كثير".
وخلال حياته بلغت شهرته الآفاق وصار قبلة العلماء ومرجعهم.. وبعد انتقاله زاد وهجه ولم يتوقف، وحرص العلماء في أرض العرب وخراسان والهند والسند والأناضول على اقتناء كتبه ودراستها وشرحها.. كل هذا أثار عليه حنق بعض الفقهاء هنا أو هناك فارتفعت أصواتهم قليلا في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، مما دفع العشرات من أساطين العلم المشهورين للردّ على هؤلاء المناوئين وفنّدوا اعتراضاتهم .. ومع بداية القرن العاشر حسم الأمرَ الإمام جلال الدين السيوطي بمؤلفه "تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي"؛ فألجم المنكرين، وخفتت أصواتهم منذئذ لأكثر من خمسة قرون ونصف لم يتوقف خلالها أنصار الشيخ ومحبّوه من التأليف عنه والتحليل والشرح لكتبه.
مسك الختام:
سنورد هنا موقفا حدث في بداية القرن التاسع في اليمن أثناء ظهور هذه الاعتراضات. فقد بعث السلطان الرسولي الملك الناصر بسؤال إلى قاضي القضاة الشيخ الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروز أبادي (729-817ه)، وهو من أئمة اللغة والأدب والتفسير والحديث والفقه والسير، تزيد مؤلفاته عن 50 مؤلفا، صاحب القاموس المحيط، والسؤال هو: "ما يقول سيدنا ومولانا شيخ الإسلام في الكتب المنسوبة إلى الشيخ محيي الدين بن عربي كالفتوحات والفصوص؛ هل تحلّ قراءتها وإقراؤها ومطالعتها؟ فأجابه :
"اللهم أنطقنا بما فيه رضاك. الذي أعتقده في حال المسئول عنه، وأدين الله تعالى به، إنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما، وإمام التحقيق حقيقة ورسما، ومحيي رسوم المعارف فعلًا واسما، إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ من مجده غرقتْ فيه خواطره، عبابٌ لا تكدِّره الدِّلاء، وسحابٌ تتقاصر عنه الأنواء، كانت دعواته تخترق السبع الطباق، وتُفرّق بركاته فتملأ الآفاق، وإنّي أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته، وناطق بما كتبته، وغالب ظنّي أنّي ما أنصفته.
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي
    دع الجهول يظنُّ العدل عدوانا
 
واللهِ واللهِ واللهِ العظيم ومَن
    أقامه حجة لله برهانا
 
إنّ الذي قلتُ بعضٌ من مناقبه
    ما زِدتُ، إلّا لعلّي زدتُ نقصانا
وأما كتبه ومصنّفاته فالبحار الزواخر، التي بجواهرها لكثرتها لا يعلم لها أوّل ولا آخر، ما وضع الواضعون بمثلها، وإنما خصّ الله بمعرفة قدرِها أهلَها. ومن خواص كتبه؛ أنّه من واظب على مطالعتها، والنظر فيها، وتأمّل في مبانيها؛ انشرح صدره لحلّ المشكلات، وفكّ المعضلات، وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس مَن خصّه الله بالعلوم اللدنّيّة الربّانّيّة.
ووقفتُ على إجازة كتبها للملك المعظّم، فقال في آخرها: وأجزتُ له أيضا أن يروي عنّي مصنّفاتي، ومن جملتها كذا وكذا حتى عدّ نيفا وأربعمائة مصنّف، ومنها "التفسير الكبير" الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ ستّين سفرا، فاستأثره الله تعالى، وتوفّى ولم يكمل.
وهذا التفسير كتاب عظيم، كلّ سفر منه بحر لا ساحل له، ولا غرو فإنّه صاحب الولاية العظمى والصدّيقية الكبرى، فيما نعتقده وندين الله به.
وثَمّ طائفة في الغيّ يعظّمون عليه النكير، وربما بلغ بهم الجهل إلى حدّ التكفير، وما ذلك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله ومعانيها، ولم تنل أيديهم -لِقصرها- إلى اقتطاف مجانيها.
عَلَيَّ نحتُ القوافي مِن مَقاطِعِها
    وَما عَلَيَّ لَهُم أَن لم تَفهَمَ البَقَرُ
 
هذا الذي نعلم، ونعتقده، وندين الله به في حقّه، والله تعالى أعلم".
وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.ِ
 
الفتوحات المكّيّة
يعتبر كتاب "الفتوحات المكّيّة" أهمّ مؤلّفات الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي.. ويمكن القول الآن إنّه يمثّل الموسوعة الصوفيّة الأولى، والمرجع الأساس لجميع المعارف الصوفيّة -بعد القرآن الكريم والحديث النبويّ- دون منازع. قال عنه الصفدي : "وقفت على كتابه الذي سماه الفتوحات المكية لأنه صنّفه بمكة، وهو في عشرين مجلّدة بخطّه، فرأيت أثناءه دقائق وغرائب وعجائب ليست توجد في كلام غيره وكأنّ المنقول والمعقول ممثّلان بين عينيه في صورة محصورة يشاهدها متى أراد أتى بالحديث أو الأمر ونزّله على ما يريده، وهذه قدرة ونهاية إطلاع وتوقّد ذهن وغاية حفظ وذكر، ومَن وقف على هذا الكتاب علِم قدره، وهو من أجلّ مصنفاته" .
بدأ الشيخ الأكبر تأليف كتابه هذا بمكة المكرّمة عام 599ه، وانتهى منه في دمشق في شهر صفر عام 629ه، وذكر عند إتمامه: "هذا هو الأصل بخطّي، فإنّي لا أعمل لتصنيف من تصانيفي مسودّة أصلا". إلّا أنّ الشيخ الأكبر رأى في عام 632ه إعادة كتابة هذه الموسوعة بخط يده، معتبرا النسخة الأولى بمثابة مسودّة؛ حذف منها وأضاف إليها، واستغرق عمله 4 سنوات انتهت عام 636ه وبرز، من ثمّ، الكتاب بصورته النهائية المنقّحة، ليكون بذلك معبّرا تعبيرا أصيلا عن خلاصة رؤيته وتجربته بعد أن بلغ عمره الثانية والسبعين.
واللافت للنظر أنّ الشيخ الأكبر لم يكتف بإعادة كتابته فقط، والتأشير على ذلك، وإنما نجده بعد كتابة كل جزء منه يعمد إلى مقابلته من جديد مع النسخة الأولى بحضور عدد من أصحابه ويتم أثناء السماع إجراء التصحيحات التي يراها مناسبة، وفي نهاية كل مقابلة يثبت السماع ويثبت أسماء الحاضرين والتاريخ بخط القارئ وتأكيد الشيخ الأكبر لذلك ممهورا بتوقيعه.. الخ.. ونجده أحيانا يكرر السماع لبعض الأجزاء في أوقات أخرى ويثبت ذلك وفق ما جرى في السماع الأوّل..
استغرقت النسخة الثانية 10544 صفحة بخط يده، وقسّمها فيه إلى 37 سفرا ، متضمّنة 560 بابا -بعدد السنوات من العام الأوّل للهجرة حتى عام مولد الشيخ الأكبر، وكأنّها تتويج لهذه السنوات التي سبقته بمولده قدّس الله سرّه!- موزّعة على ستة فصول. وفي الصفحة الأخيرة يخطّ الشيخ الأكبر بقلمه: "انتهى الباب -بحمد الله- بانتهاء الكتاب على أمكن ما يكون من الإيجاز والاختصار على يدي مُنشيه، وهو النسخة الثانية من الكتاب بخطّ يدي.
وكان الفراغ من هذا الباب، الذي هو خاتمة الكتاب، بكرة يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ست وثلاثين وستمائة، وكتب منشيه بخطّه محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي، وفّقه الله.
هذه النسخة سبعة وثلاثون مجلّدا، وفيها زيادات على النسخة الأُولَى التي وقفتها على ولدي محمد الكبير، الذي أُمّه فاطمة بنت يونس بن يوسف أمير الحرمين، وفّقه الله وعلى عقبه وعلى المسلمين بعد ذلك شرقا وغربا، برًّا وبحرا".
وقبل عدة أشهر من انتقاله إلى جوار ربه أهدى هذه النسخة إلى تلميذه الوفي صدر الدين محمد بن إسحق القونوي، وهذا مبيّن في الصفحة الأولى من السفر الأول، وفيه بقلم الشيخ الأكبر: "رواية مالك هذه المجلدة محمد بن إسحق القونوي عنه" مما يشير إلى أنها منذ الآن صارت بعهدة صدر الدين القونوي عنه، وبالقرب منها يحدد الشيخ صدر الدين موعد ذلك الانتقال بما نصه: "انتقل هذا السفر وسائر الكتاب من منشيه شيخ الإسلام، أيّده الله تعالى، بحكم الإنعام إلى خادمه وربيب نظره محمد بن إسحق غفر الله له ولوالديه، ونفعه بكل علم مقرّب إليه بالشيخ نفعه الله، في شهور سنة سبع وثلاثين وستمائة".
واحتفظ تلميذه بالنسخة بعد أن أكمل في حلب مقابلة الأجزاء التي لم يتمكن الشيخ من مقابلتها، وأثبت ذلك في حواشيها. وبدوره؛ أوقفها الشيخ صدر الدين القونوي قبيل انتقاله هو إلى جوار ربه بعد وفاة شيخه بـ 34 عاما على دار الكتب التي أنشأها في الزاوية المجاورة لقبره، مشيرا في الوقفيّة إلى أنّ الغرض من ذلك هو انتفاع المسلمين بها، ولا يجوز خروجها من الدار إلى غيرها من المواضع لا برهن ولا بغيره. وعرفت منذئذ بنسخة قونية.
وتشاء الحكمة الإلهية أن يكون هذا المسار لهذه النسخة هو السبب الذي حفظها لنا حتى اليوم. فهي النسخة التي من صورتها أعددنا هذا الكتاب المطبوع بمنّ الله وتوفيقه.
 
وصف المخطوطات
نسخة السليمانية:
هذه النسخة من محفوظات مكتبة حكيم أوغلو في السليمانية بتركيا، وتتكون من مجلدين رئيسيين: الأوّل يحمل رقم 488 ويتضمن 529 صفحة مزدوجة، والثاني يحمل رقم 489 ويتضمن 527 صفحة مزدوجة ويبدأ بالباب 270. تتكون الصفحة من 39 سطرا، والسطر من 21 كلمة.
هذه النسخة منقولة من النسخة الأولى مباشرة ويتضح ذلك من العبارة قبل الأخيرة في نهاية المجلد الثاني وهي:
"قال الشيخ رضي الله عنه: انتهى الباب بحمد الله بانتهاء الكتاب على أمكن ما يكون من الإيجاز والاختصار، وهذا هو الأصل بخطي، فإنّي لا أعمل لتصنيف من تصانيفي مسودة أصلا. وكان الفراغ من هذا الباب في شهر صفر سنة تسع وعشرين وستمائة، والحمد لله وحده".
أما العبارة الأخيرة فتشير إلى كاتبها وزمان كتابته، وهي: "تمت الفتوحات المكية بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه نهار الأحد في آخر شهر جمادى الأولى من شهور سنة سبع عشرة وألف على يد العبد الفقير إلى الله تعالى محمود بن خليل النابلسي لطف الله به والمسلمين آمين".
وسيتبيّن لنا لاحقا أنّ هذه النسخة هي التي طبع منها الفتوحات المكية لأوّل مرة عام 1274ه، كما تم الاستعانة بها عند تنفيذ الطبعة الثانية عام 1329ه وفقا للإشارة التي وجدنا باللغة التركية في كلا المجلدين.
نسخة قونية:
تعرّضت النسخة في عمرها الطويل –وهو يقترب الآن من ثمانية قرون- إلى تلف بعض صفحاتها لأسباب عدة منها الرطوبة وتسرُّب المياه إلى بعض أجزائها وكثرة تقليب صفحاتها.. فقد كانت قونية مزارا خلال العقود الثمانية يتّجه إليها النساخون من مختلف بلاد المسلمين لينقلوا نسخا لهم ولمشائخهم منها.. وكان القائمون على هذه النسخة يعملون قدر جهدهم على إعادة كتابة محتويات الصفحات التالفة من خلال خطاطين يجيدون النسخ بالعربية دون معرفة مضمونها في بعض الحالات وهو ما أحدث تشويها لحق بالسفر التاسع على وجه الخصوص، وأشرنا إليه في موضعه، ومن حسن الحظ أنّه فيما عدا السفر التاسع فإنّ الصفحات التالفة في بقية الأسفار قليلة للغاية وبيّنا مواضعها في الكتاب.
وقامت الحكومة التركية منذ زمن بنقل هذه النسخة إلى مكتبة متحف الآثار الإسلامية باستامبول وأعطت مجلداتها الـ 37 الأرقام 1845-1881 ونسخت صفحاتها فوتوغرافيا، وتوزّعت نسخٌ مصورة منها إلى بعض المكتبات خارج تركيا، وبذلك تعدّدت أماكن حفظ هذا العمل الموسوعيّ الهام.
الكتاب كله –عدا السفر التاسع الذي أعيد نقله وعدد محدود من الصفحات الأخرى- بقلم الشيخ الأكبر، وكثيرة تلك الإشارات التي تثبت هذا، ومنها:
1- في الصفحة الأولى من السفر الأول، وتحت عنوان السفر، نجد عبارة: "رواية مالك هذه المجلدة محمد بن إسحق القونوي عنه" وبجانبها بقلم صدر الدين القونوي ما يلي: "هذا السطر هو بخطّ شيخنا رضي الله عنه".
2- السماعات المثبتة في مواقعها في الأعوام 633ه إلى 637ه كلها جرت في منزله بدمشق وبحضور المذكورين عند هذه السماعات، وتوقيع الشيخ بقلمه في كثير منها يؤكد صحة شهاداتها أمامه، ومنها على سبيل المثال: "كمّل هذا السماع الوليّ في الله تعالى الفقير محيي الدين أبي المعالي عبد العزيز بن عبد القوي بن الحسن بن الجباب- أدام الله سعادته: - عليَّ، وكمل بحمد الله. وكتب منشيه وهو المسمَّع له محمد بن علي بن العربيّ بخطّه في التاسع عشر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة" .
3- في السفر 23 هناك عبارة، اختلفت صيغتها في نسخة قونية قليلا عما جاء في نسخة السليمانية بسبب تاريخ الكتابة من قبل الشيخ نفسه، وهي: "ولي مذ عبدتُ الله فيها، من سنة تسعين وخمسمائة، وأنا اليوم في سنة خمس وثلاثين وستمائة" وكانت فد جاءت في نسخة السليمانية بنفس التعبير عدا الجزء الأخير منه الذي كان: "وأنا اليوم في سنة ثمان وعشرين وستمائة"
4- وفي نهاية الكتاب يذكر: "وكان الفراغ من هذا الباب، الذي هو خاتمة الكتاب، بكرة يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثين وستمائة، وكتب منشيه بخطّه محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي، وفّقه الله".
5- في كثير من الحالات نجد إشارة إلى نسبة تاريخ هجري إلى يوم معيّن، ولم يكن سهلا من قبل اكتشاف مطابقة التاريخ لليوم المقصود، وإذ تيسّرت في هذا العصر إمكانية التأكد من ذلك، فيصير هذا أحد وسائل التحقق من نسبة صحة الكتاب. وفي هذا الكتاب هناك مواضع كثيرة ذكر فيها التاريخ واليوم وجميعها صحيحة ومنها ما جاء في النقطة السابقة الذي حدد فيها الأربعاء بأنه يقابل 24/3/636ه. وفي السفر الأول ص 47 نجد في السماع الثاني أنه جرى يوم الأربعاء 26 من شوال عام 633ه، والتطابق واقع بينهما، بل إنّه ذكر تقييده أحد الفصول في الليلة الرابعة من شهر ربيع الآخر سنة 627ه، وذكر مباشرة أنه يقابل ليلة الأربعاء الذي هو الموفي عشرين من فبراير، وهذا التحديد صحيح تماما وفق الحساب الفلكي لدمشق وعامه الميلادي 1230 .
كلّ هذه الأدلة -وغيرها كثير- لا تدع مجالا للشكّ من صحة نسبة الكتاب إلى الشيخ الأكبر وأنّه كتب نسخته الثانية بخطّ يده في السنوات الأربع الممتدّة من عام 632ه إلى 636ه.
اسم الكتاب:
أشار الشيخ في بداية الكتاب أنّ الاسم الذي رآه هو: "رسالة الفتوحات المكيّة في معرفة الأسرار المالكية والملكية" ، ويبدو أنّه كان يتصور أنّ حجم الكتاب سيكون صغيرا بحيث يمكن إطلاق مسمّى "رسالة" عليه. ولما توسّع الكتاب وجدناه يكتفي بـ"الفتح المكي" 9 مرات و"الفتوحات المكيّة" 28 مرة.
الخط:
كتب الشيخ كتابه بخطه الأندلسيّ المغاربي.. وأهم سماته في المخطوط ما يلي:
1- أكثر حروفه المعجمة كانت تهمل، فلم يكن قد رسخ بعد عند العرب استعمال النقاط للحروف المعجمة. ومع ذلك نجد حرص الشيخ واضحا عند شعوره باللبس الذي يمكن حصوله عند القراء؛ فيعمد عندئذ إلى كتابة النقاط في حالات عديدة.
2- موضع نقطة حرف الفاء -في الأغلب- تحت تعريقة الفاء.
3- حرف القاف: في الأغلب له نقطة واحدة من فوق، وفي حالات أخرى -ربما خوف اللبس- كان يكتبه بنقطتين.
4- الحروف المشددة: نوّع التشديدات فيها إلى ثلاثة أنواع.. فهناك شَدّة تدلّ على الضم، وشَدّة تدلّ على الكسر، وشَدّة تدلّ على الفتح. الأولى شكلها قريب من رقم الثمانية الهندي وموقعها فوق الحرف، والثانية مثلها وموقعها تحت الحرف، والثالثة شكلها قريب من رقم السبعة الهندي وموقعها فوق الحرف.
5- حرفا الطاء والظاء: نجد فيهما إمالة الخط العمودي إلى اليمين.
6- حرفا الصاد والضاد: لا تضاف إليهما نبرة تفصلهما عما بعدهما.
7- حرف الكاف: تميل ترويسته أفقيّا إلى اليسار مع إمالة صغيرة في النهاية جهة اليمين.
8- وفي الإملاء يختلف رسم عدد من الكلمات عما هو عليه اليوم، ومنها على سبيل المثال:
وصف الكتاب:
الكتاب عبارة عن 37 سفرا، ومجموع صفحاته 10860 صفحة منها 316 صفحة بيضاء، والصفحات المكتوبة 10544 صفحة. وعند تصوير هذه الصفحات أخذت اللوحات المصورة بواقع لوحة واحدة لكل صفحتين متقابلتين، فصار عدد هذه اللوحات أو الصفحات الجديدة المزدوجة 5430 صفحة منها 158 صفحة بيضاء و 5272 صفحة مكتوبة .
وضع مختصّو التوثيق في تركيا أرقاما لهذه الصفحات في أعلى الجزء الأيسر في الصفحة المزدوجة يعبر عن كلا الجزئين أو الصفحتين وفق المخطوط، ولذلك كنا نشير إلى بداية الصفحة في جزئها الأيمن بالرقم المخصص لتلك الصفحة وفق ذلك التنظيم، ونشير إلى الجزء الأيسر بنفس الرقم مع إضافة حرف ب. فالصفحة رقم 5 مثلا نشير إلى جزئها الأيمن (ص 5) وإلى جزئها الأيسر (ص 5ب) وسيحتاج الباحثون إلى هذا عند بحثهم في الفهارس الملحقة بكل سفر للآيات القرآنية والأحاديث والشعر والمصطلحات والأسماء.. الخ إذ أننا اعتمدنا أرقام صفحات مخطوط قونية لمن يريد الرجوع إليها.
القاعدة العامة في صفحات المخطوط أنّ الصفحة الواحدة تتكون من 17 سطرا مستقيمة التنسيق، ومتوسط كلمات السطر الواحد 9.7 كلمة، ومتوسط كلمات الصفحة المفردة 165 كلمة.
أهم الخصائص التي لمسناها في الكتاب ما يلي:
•تعبيرات الكتاب مبسّطة رغم دقائق العلوم التي يناقشها، وحرص الشيخ على إزالة أي غموض متوقع عند استطراده في أي موضوع، فنراه يلتفت إلى أي عبارة أو كلمة يخطر له أنّه ربما يقف عندها أيّ من القراء فيعمل على شرحها أو الإتيان بدليلها من الكتاب أو السنة.. ثم يعود بعد ذلك إلى موضوعه الأصليّ..
•نأى الشيخ بنفسه بعيدا عن تسفيه الآراء الأخرى المخالفة لآرائه مهما كان بعدها عنه، وكذا عدم تجريح أصحابها أو سبّهم أو تكفيرهم، بل نجده يحرص على مناقشة الرأي الآخر برويّة وحكمة وهدوء، ويبذل جهده للبحث عن الصواب لدى ذلك الرأي الآخر سواء بمجمله أو بجزئيّة من جزئيّاته، وهذه صفة حميدة قلّ من يحملها.
•حفظه القرآن الكريم، واستيعابه للقراءات، واستشهاده من كل القراءات المختلفة.
•حرصه الدائم على دعم أفكاره بالنصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة التي تثبت صحة أقواله. وفي هذا الخصوص يصف الشيخ الأكبر نهجه بقوله: "فجميع ما نتكلّم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرآن وخزانته؛ أُعطيتُ مفتاح الفهم فيه، والإمداد منه".
•عاد إلى الآيات القرآنية 10634 مرة، ومن كل سور القرآن الكريم، وعدد مرات عودته إلى الحديث النبويّ زادت عن 3518 مرة، وتعبيرات الصلاة والسلام على الرسول الكريم زادت عن 5000 مرة. 
•احترامه البالغ لأئمة المذاهب الفقهية باعتبارهم من أكابر الأولياء، واستيعابه لاجتهادات المذاهب الفقهية جميعها، وتسليمه لكل اجتهاداتهم بل وتبريرها رغم اختلافاتها، واعتبارها كلها صحيحة وفقا للتوجيه النبويّ الشريف المتعلّق بالاجتهاد.
•حبّه الطاغي للآخرين، وابتعاده عن منهج التنفير، واتّكاؤه على منهج التقريب، وتوسيعه مفهوم الولاية لدرجة تجعل كل من يقرأ للشيخ في هذا الموضوع يشعر -وربما يجزم- أنه من أهل هذه الدرجات.. وفي هذا الخصوص يقول الشيخ: "واللهِ؛ إنّي لأجد من الحبّ ما لو وُضِع -في ظنّي- على السماء لانفطرت، وعلى النجوم لانكدرت، وعلى الجبال لسُيِّرت".
•إلمامه الواسع بالأدب العربي وسير الأدباء، وبلغت استشهاداته 342 مرة (682 بيتا) لأدباء من مختلف العصور إلى زمنه.
•نصوصه الشعرية في الكتاب 1498 نصا (7185 بيتا)
•ممارسته للنقد الأدبي الراقي حين يجد ضرورة لذلك.
•للشيخ مراجعاته النحوية وترجيحه –بالأدلة- قواعدَ لم يقل بها النحويّون.
وفي الأخير.. نشير إلى أنّ الشيخ كان قد ذكر أنّ السفرين 34، 35 يمثّلان خلاصة أبواب الكتاب كلّها، وخصّ كل باب منها بعنوان رمزيّ وعبارات مركزة لا تزيد عن أسطر قليلة.. وكان يشير في بداية الأمر إلى صلة الخلاصة بالباب المعنيّ، ثم توقّف عن ذلك بعد أن اضطربت الصفحات التي بيده على ما يبدو.. ولقد حاولنا من جانبنا القيام بهذا الأمر ونجحنا في تحديد الصلة لقرابة أربعمائة باب ولم يتسنّ لنا إكمال ذلك لانشغالنا بتجهيز تحقيق مادة الكتاب.. ونأمل أن نستكمله ونرفقه ضمن طبعة قادمة بإذن الله.

مراحل طباعة الفتوحات المكية
المرحلة الأولى:
ظهرت أوّل طبعة للكتاب عام (1274ه=1858م) في مصر في عهد الخديوي محمد سعيد باشا . وذيّلها أحد أشهر المحقّقين في مصر في ذلك الوقت، وهو الأستاذ محمد قطة العدوي "بنبذة مختصرة تتضمّن ترجمة صاحبه وذكر شيء من مآثره ومناقبه.. ملخّصا ذلك من كتاب نفح الطيب" .. وهذه الطبعة عرفت بطبعة بولاق، وكانت معتمدة على نسخة السليمانية وهي منقولة من المخطوطة الأولى التي كتبها الشيخ في الأعوام (599-629هـ)، وتبيّن ذلك من خلال الكتابة التي ذيّلت بها هذه النسخة.
لاحظ المهتمّون الذين حصلوا على الطبعة الأولى وجود أخطاء كثيرة فيها ناهيك عن أنها لم تقابل بالنسخة الثانية المخطوطة بقلم الشيخ الأكبر وهي نسخة قونية المعدّلة والمصحّحة..ولذلك فقد عهد الأمير عبد القادر الجزائري -والذي كان قد استقرّ به المقام في دمشق- إلى اثنين من العلماء، وهما: الطيب بن الشيخ محمد المبارك الجزائري الدلسي المالكي (ت 1313ه)، والشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي، بالتوجه إلى قونية على نفقته الخاصّة في عام 1287ه، لمقابلة النسخة المطبوعة مع نسختها المكتوبة بخط مؤلفها الشيخ الأكبر، وعادا إلى دمشق بعد أن قابلا هذه النسخة مع نسخة قونية مرتين وسجلا عليها نتيجة هذه المقابلة.. وأشار شاهد الواقعة، عبد الرزاق البيطار، في كتابه "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر"، إلى أنه: "وبعد مجيئهما قرأناها جميعًا على الأمير المرقوم (يقصد الأمير عبد القادر) مع التزامنا لإصلاح نسخنا على النسخة المقابلة على خطّ المؤلف" .
وفي عام (1329ه=1910م) قامت دار الكتب العربية الكبرى بمصر بطباعته، على نفقة الحاج فدا محمد الكشميري وشركاه بمكة، وفيها إشارة إلى أنها طبعت "على النسخة المقابلة على نسخة المؤلف الموجودة بمدينة قونية، وقام بهذه المهمة جماعة من العلماء بأمر المغفور له الأمير عبد القادر الجزائري، رحم الله الجميع وأثابهم المكان الرفيع" .
والواقع أنّ مصححي هذه الطبعة قد استعاروا نسخة مكتبة السليمانية مجددا -وصورتها بين أيدينا- وفيها تذييل في مجلدي هذه النسخة مكتوبا باللغة التركية يشير إلى ذلك وترجمته: "هذا الكتاب من ضمن تصحيح الكتاب الشريف الفتوحات المكيّة الذي طبع في مصر. جُلِب إلى مصر مرة أخرى في عهد والي مصر السابق المتوفى، عباس باشا ، وعاد إلى مكتبته".
 وتقلّصت الأخطاء في هذه النسخة إلى حدّ كبير.. وطبعت في 4 مجلدات كبيرة وبقيت المرجع الرئيسي خلال القرن العشرين. ولقد أجرينا اختبارا بالعينة شمل 14% من الكتاب فوجدنا نسبة الاختلاف فيها عن نسخة قونية يعادل مرة واحدة في كل 75 كلمة. ونظرا لأنّ المتن الأصلي للكتاب يتضمن (1735000) كلمة، فهذا يعني وجود ما لا يقل عن 23000 اختلاف. وكثير من هذه الاختلافات يمكن التعامل معها، إلا أنها -مع ذلك- تضمّنت أخطاء جسيمة، وفيما يلي عيّنة منها:

المرحلة الثانية:
وفي عام 1954م تمّ تكليف الدكتور عثمان يحيى من قبل جامعة السوربون ومنظمة اليونسكو والمجلس الأعلى للثقافة في مصر والهيئة المصرية العامة للكتاب بتحقيق الكتاب بعد أن لاحظ المعنيّون أنّ نسخة القاهرة ينقصها الكثير من متطلبات التحقيق العلميّ الحديث إضافة إلى شمولها أخطاء كثيرة..
اعتمد د/ عثمان يحيى على 3 نسخ أساسية في تحقيقه وهي:
1- صورة نسخة مخطوط قونية وهي النسخة الثانية المكتوبة بخط الشيخ.
2- صورة مخطوطة منقولة من النسخة الأولى وجدها في مكتبة بيازيد بتركيا.
3- نسخة القاهرة المطبوعة عام 1329هـ.
استغرق د/ عثمان يحيى حوالي 18 عاما في الأعمال التمهيدية لتظهر عام 1972م نتيجة عمله للسفر الأوّل من الكتاب. وتوالى ظهور الأسفار التالية في العقدين اللاحقين وكان آخرها السفر 14 عام 1992م.. وتوقف العمل بعدئذ لانتقال صاحبه في تسعينيات القرن العشرين إلى رحاب ربه وكان المتبقي أمامه 23 سفرا.
اتضح أنّ د/ عثمان يحيى قد بذل جهدا مضنيا في تحقيق الأسفار الأربعة عشر الأولى من الفتوحات المكية وتميّز بضبط المادة وفق النهج الحديث المعتمد على ضوابط علامات الترقيم لغرض تسهيل قراءة واستيعاب النصوص.. إضافة إلى وضعه فهارس عديدة لتسهيل مهمّة الباحثين في العثور على متطلبات أبحاثهم.. 
ولأنّ كل عمل وخاصّة بحجم هذا العمل معرّض لحدوث شوائب وأخطاء، فقد سجل الباحثون عليه عددا من الملاحظات لعل أهمها ما يلي:
1- استغرق جلّ عمل التحقيق في إثبات رسم الكلمات والحروف لمخطوطتي قونية وبيازيد مما أهدر وقتا كبيرا وهامّا في ذلك.. وكان يمكنه وضع جدول لكيفية كتابة الكلمات مرة واحدة بدلا من تكرار ذلك مع كل كلمة.. مثل الإشارة لرسم كلمة (ملائكة، ملائكه، ملئكة، ملئكه) في كل موضع كتبت فيه بهذا الرسم أو ذاك.. ومع هذا التدقيق الزائد الذي سار عليه فإنه لم يسلم من الوقوع في أخطاء إثبات الرسم؛ فكثيرا ما ينسب رسما معيّنا للنسخة الأولى مثلا في حين يكون هذا الرسم للنسخة الثانية..
2- لقد ارتاب عدد من دارسي الشيخ الأكبر بعمل الدكتور عثمان يحيى ولم يطمئنوا إليه لملاحظتهم حرصه –في بداية عمله في التحقيق- على اصطناع علاقة خاصّة بين مشرب الشيخ الأكبر وثقافة المدرسة الإسماعيليّة، إلى حدّ اعتباره يبدو وكأنه تلميذ لشيوخ هذه المدرسة. 
3- كما أنه لم يحالفه الحظ في استخدامه بعض علامات الترقيم في مواقع تصادم الفطرة الدينية الإيمانية، مثل إكثاره من وضع علامة التعجب بعد صيغ التفخيم للمولى عزّ وجلّ، أو بعد صيغ الصلاة والتسليم على النبي محمد عليه الصلاة والسلام..
4- كما لاحظنا سقوط عبارات كاملة وكلمات كثيرة من النسخة المحققة، وورود كلمات مضافة من غير الإشارة إلى ذلك.. إضافة إلى كثرة وقوعه في أخطاء إثبات نسبة نص معيّن إلى نسخة معيّنة في حين يكون أصله للنسخة الأخرى ..
3- المرحلة الثالثة:
وبعد ظهور الإنترنت والنشر الإليكتروني استبشرنا خيرا بظهور طبعة للفتوحات المكية عبر هذا النظام.. ولكن تبيّن أنه بمجرد الإطلاع على أي صفحة منها يصدم القارئ للأخطاء التي لا يخلو منها سطر، وللعبارات المزوَّرة والمنحولة التي تمتلئ بها هذه الطبعة، وللتكرار غير المنطقيّ لمئات الصفحات وآلاف الأسطر، ولسقوط أبواب وصفحات كثيرة.. والواقع إنها مأساة أن يطّلع القارئ على تلك الإساءات الواردة في هذا الإصدار..
وواضح هنا أنّ مناوئي التصوف والشيخَ الأكبر لجأوا إلى هذه الحيلة كونها أسهل وسيلة لتشويه الشيخ الأكبر والتصوّف بدلا من مواجهة الحجة بالحجة.. ورأوا أنه يكفي تحويل القارئ المهتم إلى هذا الإصدار ليقتنع من تلقاء نفسه بخطأ الشيخ ونهج التصوف بشكل عام.. والمثير للأسف هنا هو قيام بعض مواقع التصوّف الإليكترونية بالتقاط هذه النسخة المزوّرة ووضعها ضمن الإصدارات الصوفية التي يمكن للمتابعين تنزيلها من لديها.. ولا تخفى خطورة هذا الأمر بسبب غطاء الثقة الذي تمنحه هذه المواقع للإصدارات التي تمرّ عبرها.
واللافت للنظر أنّ الجهة التي ظهرت هذه النسخة لأوّل مرة في أحد مواقعها الإليكترونية تنتمي للتيّار المناوئ للتصوّف، وكانت مراجعها الدينيّة منذ قرون مضت قد اتّهمت الشيخ بتهم باطله وأقوال مزوّرة.. قد كررت -هذه الجهة- تلك الأقوال في هذا الإصدار بعد تغييرها للنصّ الأصلي الذي قاله الشيخ رغم أنّها نقلته –كما هو مفترض- من نسخة القاهرة المطبوعة منذ أكثر من مائة عام!! ولو حاول أحد البحث عن عذر لأولئك المراجع مثل تصوّر احتمال وقوع نسخة مزوّرة بأيديهم جراء النقل الخطأ والتصحيف ورداءة خط الناقل وخلافه.. وهي التي دفعتهم إلى تلك المواقف المعادية للشيخ الأكبر.. فلا نعلم المبرّر لهؤلاء النقلة الجدد بتغيير نسخة مطبوعة لا يحتمل خطها التصحيف والرداءة!! أو تجاهلها والإصرار على نشر مطبوعة لا يُعلم مصدرها، وحشوها بعدد لا يحصى من الأكاذيب والافتراءات الباطلة..
والواقع إنّ هذا يبيّن لنا مدى التردّي النقدي الذي سلكه مناوئو الشيخ الأكبر بوجهٍ خاصّ والتصوّف بشكل عام، بلجوئهم إلى التزوير والتحريف، والابتعاد عن المصداقيّة في مناقشة الرأي الآخر، والتعصّب الأعمى لمرجعيّاتهم حتى لو صادمت الحقّ عملا بضدّ الحكمة القائلة بأنّ "العاقل هو من يعرف الرجال بالحقّ، وغير العاقل هو من يعرف الحقّ بالرجال"!!
*   *   *
4- هذا العمل
بناء على ما سبق، يتضح أنّ التحديات التي كانت أمامنا كبيرة وكثيرة.. وأهمها ما يلي:
1- أن الكتاب هو في حقيقته موسوعة متكاملة لعلم دقيق وعميق؛ كون مساحة الجزء المكنون فيه واسعة، وكثير من معارفه ودقائقه لا تُنال إلا بالكشف، وعمل التحقيق يتطلب الشروع في مهام عدة؛ مثل الترجيح، وتحديد مسمّى اللفظ في حال التصحيف الذي كثيرا ما يرد في المخطوطات، ومنها قراءة الخطوط من المخطوطات.. ومعلوم أنّ هذه الخطوط تختلف باختلاف البلاد والعصر الذي كتبت فيه، واستيعاب الموضوع حتى يسهل تنسيق الكتابة من خلال (تحديد الفقرات وفقا لبداياتها ونهاياتها، والنقاط والفواصل وعبارات الاعتراض.. الخ) ومعلوم أنّ أي خلل يحدث في ذلك يؤدي في كثير من الحالات إلى اضطراب المعني الذي أراده صاحبه.
هذه وغيرها من لوازم التحقيق تستدعي إدراكا يتناسب مع موضوعات الكتاب. فإذا أضفنا إليه أنّ مؤلفه هو الشيخ الأكبر بفتوحاته وإلهاماته وقدراته التي منحه إياها المولى ولم يجاريه فيها أحد من ذوي الشأن.. فإن التصدّي لعمل كهذا يصير مخاطرة من الوزن الثقيل.
2-حجم هذا الكتاب الموسوعة كبير للغاية.. فأسفاره 37 سفرا، وأبوابه 560 بابا، وصفحاته بخط الشيخ الأكبر 10544 صفحة، وكلماته تزيد عن 1735000 كلمة. وبالتالي فإنه يتطلب وقتا وتفرّغا وإمكانيات وجهدا يزيد عن طاقة فرد واحد.. إلخ
3-صعوبة الحصول على مخطوطات الكتاب، وفي علمنا أنّ النسخة الأصليّة المكتوبة بقلم الشيخ نفسه محفوظة في تركيا، ومن ثمّ يصير العمل عبثا إن لم يستند عليها، والحصول على صورة منها يتطلب إذنا خاصّا من رئاسة الجمهورية التركية كما بلغنا فيما بعد.. وليس هذا الأمر باليسير. (وكنا قد طرقنا أبواب اليونسكو وأنقرة والقاهرة ودمشق وطوكيو والإمارات.. بل وأبواب مهتمين ممن توجد صورة هذه النسخة لديهم.. إلا أنّ هذه الجهود ذهبت كلها أدراج الرياح!!)
4-التجارب السابقة التي ذكرناها -رغم توفّر كل الإمكانيات الداعمة لها، والوقت اللازم، والتفرغ- لم تكتمل ولم تسلم من الوقوع في آلاف الأخطاء التي لا تليق بموسوعة عظيمة كهذه.
٭    ٭    ٭
ولكن.. لا مفرّ من قدر.. وإذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه، وأوّل التيسير لنا كان توفُّر النّيّة والعزم بضرورة معالجة تصحيح هذا الفساد الواقع، وإزالة العبث والتشويه اللامسئول، وإبراز هذا الكتاب بحلّته التي ألبسه أيّاها صاحبه كما هي، من غير زيادة أو نقصان، ورافق هذه النّيّة إحساس قويّ بإمكانيّة إنجازه، وساعد على ذلك إشارات وبشارات قبل الشروع في العمل بمدة -وتعزّزت أثناءه بعد ذلك- رأيناها تدفعنا دفعا في هذا العمل.. في وقت لم يكن بأيدينا من أدواته سوى نسخة القاهرة المطبوعة.. وحينئذ فتحت الأبواب المغلقة..
فأبدى أخوان هما المهندس محمود سلطان المنصوب والأستاذ أحمد سعيد ناصر استعدادهما للعمل بتفرغ شبه كامل قرابة ثلاثة أعوام شاركاني فيها عملية المراجعة والتدقيق والفهرسة، وتكرم الشيخ الدكتور/ محمد عبد الرب النظاري بتوفير صورة من نسخة مخطوطة قونية، حصل عليها من مركز جمعة الماجد للمخطوطات في دبي، وكذا الأخ الدكتور/ محمد أبو بكر المفلحي، وزير الثقافة، قام بالتراسل مع وزارة الثقافة التركية وتأمين صورة من نسخة السليمانية.. وتوفَّر الدعم التقني من قبل العزيزين الدكتور المهندس/ سامي عبد العزيز المنصوب، والمهندس/عمر عبد العزيز المنصوب. بعد تدبير أجهزة الكمبيوتر المطلوبة ولم يبق أمامنا بعدئذ سوى الإبحار في مركب الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه، مستمدّين العون والتوفيق من الحقّ تعالى جلّت قدرته.
وفي المرحلة الأولى -التي ابتدأت في شهر رجب من عام 1428ه وانتهت من غير ترتيب مسبق ليلة 27 رمضان من عام 1429ه!!- أنجزنا مهمّتين رئيسيتين:
-إخراج أوّلي لنسخة محكمة الفقرات والجمل ومختلف علامات الضبط والترقيم.
- استكمال المقابلة والضبط وفق نسخة القاهرة.
وفي المرحلة الثانية التي انتهت آخر ليلة من شهر رمضان عام 1430ه!! -وكنا قد استلمنا صورتي مخطوطتي قونية والسليمانية- أنجزنا كذلك مهمّتين رئيسيتين:
أجرينا المقابلة من جديد لضبط النسخة المحقّقة وفقا لمخطوط قونية باعتبارها الأصل الذي نعمل عليه، مع الاستفادة من نسخة السليمانية ونسخة القاهرة كنسختين مساعدتين في توضيح الكلمات المصحّفة أو العبارات التي ربما تكون سقطت سهوا عند إعادة نقلها من قبل الشيخ الأكبر، أو الحلول محلّ صفحاتها المفقودة .
ضبط النصوص القرآنيّة وتثبيت مرجعيّتها ، وكذا الأحاديث النبويّة ، والنصوص الشعرية وتشكيلها. وجدولة المصطلحات الصوفية والأعلام والأماكن... الخ.
ونظرا لأنّ عملا كبيرا كهذا لن يسلم من الأخطاء بسهولة، فقد بدأنا العام الثالث بإجراء اختبار بالعيّنة لنتبيّن مدى نجاحنا في إبراز النسخة التي كتبها الشيخ الأكبر كما هي تماما.. ومن البداية ظهر لنا وجود اختلاف بمقدار كلمة واحدة في كل ألف وخمسمائة كلمة. ومع أنّ هذه النتيجة تعتبر من المعايير ذات الكفاءة العالية، إضافة إلى أنّ كلّ المؤشّرات كانت تقود إلى أنّ هذه الاختلافات الباقية ناتجة كلها عن السماع عند المقابلة بحيث يسقط أو يزيد فيها حرف من غير أن يؤثّر في المعنى من مثل: (وكان، كان) أو يحلّ حرف بدل حرف آخر، مثل: (وقال، فقال) أو أنها أخطاء مطبعيّة كأنْ يتبادل فيها حرفان موقعيهما.. وكلّها من النوع الذي لا يغيب عن فطنة القارئ. إلّا أنّا رأينا -مع ذلك- إعادة المراجعة والمقابلة لإزالة كلّ ما نعثر عليه من اختلاف عن النصّ الأصلي نظرا لأهميّة هذا الكتاب الموسوعة الذي بين أيدينا، فقد آن الأوان أن يلبس حلّته الأصلية بعيدا عن أي تشويه وتحريف..
وانتهت هذه المرحلة بتوفيق المولى الكريم -من غير ترتيب مسبق منّا- يوم الجمعة 12 ربيع الأوّل من عام 1431ه..
وإذ تزامن هذا الإنجاز مع إعلان مدينة تريم عاصمة للثقافة الإسلامية في هذا العام 2010م، فلم نجد عندئذ بدًّا من تسليم النسخة للطباعة ليكون عنوان وفاء تقدمه اليمن لعَلم بارز من أبنائها، كان مشعل هداية، سطع وَهَجُهُ فأنار للإنسانيّة دروبا مظلمة، ولم يخفت هذا الوهج على مدى قرون ثمانية، بل لم تزده الدهور والأزمان إلا سطوعا ولمعانا ورونقا وبَهاء.

إقراء أيضا