سلامٌ لبيروت
فائز عبده
فائز عبده

كتبتُ، العام الماضي، عن بيروت، ضمن انطباعاتٍ خرجتُ بها عقب زيارتي إليها، صيف 2019، وقلتُ إنها "ليست متعايشةً ومتصالحةً مع نفسها كما تبدو لزائرها من الوهلة الأولى، ففي قلبها آلامٌ وجراحٌ، وفي جوفها توجسٌ وارتيابٌ، وفي عينيها قلقٌ واضطرابٌ. إنها مدينةٌ مغصوصةٌ بالوجع، مكظومةٌ بالأنين، في دربها أشواكٌ ينثرها الأعادي، وعلى الأفق غيومٌ تدفعها رياح الصراع، وتركمها طقوس الولاء.

"بيروت تستقبل الزائرين بكل بشاشةٍ، رغم أحزانها العديدة؛ تضحك في وجوههم، وتبكي وحيدةً. تمنحهم البهجة، وتتجرع مآسيها، تمكّنهم من الاستمتاع، وتداري أوجاعها. تعيش هماً عظيماً، وتشكو همساً لا يكاد يبين".
بيروت تلك، أضحت تجأر بأوجاعها المضنية، وتئن بصوتٍ مسموعٍ ومجروحٍ، وتصرخ بشكواها المريرة، بعد أن نفضت عن نفسها غبار الكتمان، وأسفرت عن غضبٍ وحرائقَ ودماء.
هذه المدينة الجميلة، التي عايشت وعانت ويلات الحرب الأهلية، وجرائم الاجتياح الإسرائيلي، خلال الربع الأخير من القرن الماضي، لا تكاد تداوي جراحها وتنسى الأهوال، حتى تداهمها الكوارث المميتة والعواصف العاتية والاضطرابات العنيفة، وتضطرم في قلبها حرائق السياسة، وتمتد إلى جسدها مخالب الجار البغيض: الكيان الصهيوني، الذي لم يدع لها فرصةً لتهنأ بالسلام، وبين حينٍ وآخرَ، تعبث في شؤونها أصابع التدخلات الإقليمية والدولية، التي لا تذر لها مجالاً للاهتمام بنفسها، والتفرغ لهموم وأحلام ناسها.
منتصف سبعينيات القرن الماضي، اشتعل فتيل الحرب الأهلية، واستعرت نيرانها في قلب بيروت، واستمرت الحرب حتى عام 1990، وتسببت في خسائرَ بشريةٍ هائلةٍ، بين قتلى وجرحى ومشردين؛ إذ أسفرت عن مقتل ما يقدر بـ150 ألف شخص، ونزوح ما يقرب من مليونٍ، وخلفت مظاهر دمارٍ مروعةً. ومثل ذلك فعل الاجتياح الإسرائيلي، ثمانينيات القرن ذاته، الذي بلغت حصيلته 20 ألف قتيلٍ، و30 ألف جريحٍ، عدا عن الغارات والمجازر والمذابح الصهيونية البشعة، والتي حصدت آلاف اللبنانيين والفلسطينيين، خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي، التي دامت 3 سنواتٍ (من يونيو 1982 إلى يونيو 1985)، وما بعدها، في عديد المناطق اللبنانية، وفي كثيرٍ من المرات، والحروب التي شنتها قواته الغاشمة ضد الدولة وقوى المقاومة، علاوةً على الانتهاكات السافرة التي تعرضت لها السيادة اللبنانية، مراراً وتكراراً.
إن الذاكرة اللبنانية غزيرةٌ بالنكبات والحروب، مثقلةٌ بالمعاناة والمآسي. وإن التاريخ الحديث يحكي فصولاً من الصراع السياسي المغلف بالطائفية والمحاصصة، والذي يلقي بظلاله المُرة، كل مرةٍ، على الحالة النفسية والمعيشية للمواطنين، ويعيق أية خطواتٍ لتطور البلد وتحقيق تطلعات أبنائه، في ظل تحديات الحاضر وآمال المستقبل.
وشهد لبنان، منذ أكتوبر العام الماضي، احتجاجاتٍ شعبيةً، اكتظت شوارع المدن، خلالها، بالمتظاهرين المحتجين على الوضع الاقتصادي الذي ازداد تدهوراً وتردياً، فانهار سعر صرف العملة المحلية، لتبلغ 9000 ليرةٍ للدولار الواحد، وقرابة النصف رسمياً، وارتفعت الأسعار بشكلٍ يفوق القدرة الشرائية لغالبية اللبنانيين، بالتزامن مع الأضرار والخسائر الناجمة عن الإجراءات الوقائية لمواجهة جائحة كورونا، التي أثرت، بدورها، وبشدةٍ، على مجال العمل والحركة.
ولاتزال المصائب تصب حممها على بيروت التي تصر دائماً على أن تتأنق في وجه قبح الدمار، وتتألق رغم شدة الضربات التي تتلقاها، وتتعلق بخيوط الأمل في اجتياز شباك وحبائل القهر واليأس، والفكاك من أغلال وقيود الوصاية والتبعية والتدخلات الخارجية.
ولم يكن انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس 2020، إلا ضربةً أخرى لصمود هذه العاصمة التي حققت إنتاجاً ثقافياً ومعرفياً زاخراً، ولجسارة هذا البلد الذي مثَّل نقطة التقاءٍ مؤثرةً بين الشرق والغرب، لكنها كانت ضربةً قاسيةً موجعةً وداميةً، أصابت قلب بيروت مجدداً، وعاثت فيه دماراً ودماء، وكلفته خسائرَ فادحةً.
الانفجار الضخم، الذي ماتزال تحوم حول أسبابه العديد من الاحتمالات، وتتماوج في بحره الكثير من النظريات، وتحمل سحابته شروراً جمةً، أدى إلى مقتل ما يقرب من 200 شخصٍ، وإصابة 6000 آخرين، وفقدان العشرات الذين لم تتوقف عمليات البحث عنهم تحت الأنقاض وبين الركام، بعد 10 أيامٍ على الانفجار الذي تسبب، أيضاً، في دمارٍ هائلٍ وأضرارٍ متفاوتةٍ، امتدت إلى مسافةٍ تجاوزت 12 كيلومتراً من المرفأ، وخسائرَ تقارب 5 مليارات دولار، في العديد من القطاعات الاقتصادية.
وفاقم الانفجار الكارثي، الأزمة الاقتصادية، التي يعانيها لبنان، المثقل بعجزٍ ماليٍّ ودينٍ عامٍّ يقرب من 100 مليار دولار، وأضاف أعباءَ إضافيةً على كاهل البلد الذي تتجاذبه تدخلاتٌ خارجيةٌ، وتلتقي عنده أطماعٌ دوليةٌ، ويقف بشموخٍ وثباتٍ، في مواجهة توحش آلة الحرب الصهيونية، المتأهبة دوماً للانقضاض عليه.
يقول شهود عيانٍ إنهم واجهوا أهوالاً، جراء هذا الانفجار، لم يشهدوا مثلها إبان الحرب الأهلية التي عاصروها قبل 4 عقودٍ، ورأوا دماراً غير مسبوقٍ، إلى درجةٍ لم يستطيعوا معها الخوض في تفاصيل المشهد الأخير، وعجزوا عن التعبير عن مشاعرهم إزاء ما حدث، وحالت الغصة دون الكلام، وأكدت الدموع ما صمتت عنه الأفواه.
ولئن كان هذا الانفجار الرهيب، حدث عرضياً أو قصدياً، أو كان مدبراً أو مخططاً، أو نتج عن هجومٍ، بحسب التكهنات والاحتمالات المتداولة من عدة أطرافٍ وجهاتٍ، فإنه، في الأول والأخير، استهدف لبنان الحبيب، وأضر باقتصاده المترنح أصلاً، وأثر على راهنه ومستقبله، وهو ما يتطلب وضع الخطط العاجلة لإنعاش الاقتصاد اللبناني، وإصلاح النظام السياسي، وترميم ما خربته الكوارث بمختلف أشكالها.
لقد وجدتُني أكتبُ عن بيروت، بقلبي قبل القلم، وبدمعي خلال المداد، وبحبٍّ أسطره على الورق، لأهديه سلاماً وحناناً إلى قلب بيروت؛ أول مدينةٍ خارج بلدي: اليمن، تطأ قدماي ثراها، وفيها رأيتُ البحر، رأي العين، لأول مرةٍ في حياتي، ومنها سحتُ في مدن وبلدات البلد الذي سحرني بفتنته قبل أن أزوره، وأسرني بحبه بعد أن عرفته عن قربٍ.

إقراء أيضا