الرئيسية المقالات مدارات مشاهد من مسيرة ذبحت على أعتاب صنعاء
مشاهد من مسيرة ذبحت على أعتاب صنعاء
سامية الأغبري
سامية الأغبري

عام من الروعة والدهشة ,من المذبحة..من التخاذل, في مثل هذه الأيام من شتاء2011م انطلقت مسيرة راجلة من تعز مرورا بعدة مدن, مدن احتفت بأبناء الحالمة المتجهون إلى العاصمة, كانت "مسيرة الحياة" التي أُريد لها الموت على أبواب صنعاء , ذبحت لكنها لم تمت! هتفوا ونادوا بعلو صوتهم "قادمون ياصنعاء ",خيل لنا إن الأرض ترقص تحت أقدامهم فرحةً بقدومهم, السماء تبتسم, وعلى جانبي الطرقات تستقبلهم زغاريد النساء وورودهن وهتافات الأطفال وأيديهم الصغيرة تلوح بالتأييد, وتحايا الرجال. أبناء القبائل .. والجنود, وبالمياه والعصائر والسندويتشات.. إنها تحتفي بالقادمين سيراً على أقدامهم ,كساه ذلك الإستقبال هيبةً وجلالاً, ذرفت الدموع لروعة وعظمة المشهد, الذي تزين بالعلم الوطني , وصور الشهيد جار الله عمر والرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي والزعيم جمال عبد الناصر وجيفارا,وصور شهداء الثورة ورافقته أغانٍ وطنية منها أغانٍ لفنان الوطن أيوب طارش, وأغاني الثورة , وزفة الرحيل.. رحيل النظام.

على مشارف صنعاء أُستقبل الثوار استقبال الفاتحين. مشهد لم تشهد له اليمن وحتى العالم مثيلاً, وأجزم أنه لن يتكرر.. مشهد مهيب عظيم خطط له أبناء الحالمة وبادروا في الانطلاق دون خوف مما ينتظرهم, ورسمته أقدام أبناء اليمن كل اليمن.

كنت في خدار وأنا هنا أكتب بعضُُ مما شهدت منذ مشاركتي في المسيرة وحضوري مساء الجمعة إلى حيث يخيم الشباب, في منطقة خدار الباردة حد التجمد, احتشد الشباب ,وحينها فقط شعرت بالندم أني لم أشارك في المسيرة منذ إنطلاقتها من تعز, تمنيت لو إني قاسمت هؤلاء الشباب جوعهم والمهم ومرضهم ,وإصرارهم ,منذ البدء, لكن افتخر إني شهدت جزء من مسيرة أدهشتنا بروعتها وبذلك الإصرار والصمود, مسيرة حاشدة لايُرى أولها من أخرِها ,حدث حفر في القلب والذاكرة .. تاريخ كتب بدماء شهدائها في دار سلم, شخصيا اختلطت عندي مشاعر الحزن والسعادة , دموع الفرح ودموع السعادة , فرح بهؤلاء الشباب , برباطة جأشهم وبأسهم , وحزن على خيرة شباب سقطوا شهداء على أبواب العاصمة,أنى لهذا الحدث الكبير لهذا الفرح لهذا العرس أن يتكرر وكيف له أن ينتهي بتلك الوحشية؟!

كان البرد قارس وقاسٍ على أجساد لاتدفئها سوى قطع خفيفة من الملابس أو بطانيات وأغطية  يدخل منها البرد ويتغلغل في أوصالهم.. في أجسادهم النحيلة, البطون خاوية,نقص حاد في الأدوية والبطانيات,احرقوا الأوراق والأشجار وكلما ما وجدوه أمامهم لتدفئهم, لكنهم بصبر وثبات ظلوا يهتفوا" البرد ولا المذلة", شباب سقطوا أمامنا من المرض واغلبهم من الم في الكلى , ظل احدهم يصرخ ويتلوى من الوجع , كنا نتوجع معه , نبكي هذا الخذلان حتى من شركائنا في الثورة, هناك ترك الشباب في خدار وحدهم يواجهون مصيرهم , ووحدهم يتحدُون البرد والجوع والمرض, وكأنهم يعاقبون على تمردهم!

نعم مااقساه ليل خدار والأقسى منه قلوب أبناء تلك المنطقة إلا من رحم ربي! لم ننم "الأستاذة أروى عثمان ود.أروى عون وأنا,ود. نبيل السوائي و معاذ النظاري ومروان الصبري,ظللنا نتحدث حتى الفجر,كنا نسمع أنين المرضى والمتعبين والجائعين ومن تشققت أقدامهم, الاتصالات ربما بسبب الضغط تعطلت أو أقفلت لا ادري , حاولنا التواصل مع وسائل الإعلام وجهات معنية من أجل مدنا بالأدوية والطعام , بعد محاولات عدة استطعنا توجيه نداء استغاثة برسائل "أس.أم.أس". مشهد أبكى الكثيرين- من أين يأتي هؤلاء الشبان رغم صغر سنهم بهذا الصمود وهذا الصبر وتلك القوة؟إنه من إيمانهم بحقهم, وثقتهم أن الحق الذي سلب على مدى 33 عاما آن له أن يعود.

بهتافات بلغت عنان السماء ورددت الجبال صداها استيقظ الشباب الذين لم يناموا من الأصل بسبب موجة الصقيع وعدم وجود أماكن للنوم وأغطية تدفئهم,كان يهتفون" ماتعبناش ماتبعناش الحرية مش ببلاش لكن والله بردنا .. بردنا.. بردنا" وارينا دموعنا ونحن نسمع هذا الألم وشعورنا بالعجز حياله, لكننا في ذات الوقت نشعر بالفخر ونحن نراهم يتجاوزن هذا الامتحان الصعب بصلابة وقوة. وخدار كانت اختبار حقيقي للضمير .. للإنسانية , لأخلاق اليمني وقيمه الإسلامية, وللأسف هناك في خدار سقطت الأخلاق والشهامة والكرم إلا من بعض سكانها! في خدار وفي دياجير شتاءها وزمهريره,خيموا ولم يناموا, كما في قيظ شمس الظهيرة مضوا يحملون أحلامهم بإباء وشموخ وقوة , أقدام حافية مشققة تنزف دماء طاهرة , تأخذهم إلى صنعاء, يواصلون سيرهم مبتسمون مرحون وكأنهم لايشعرون بذلك الألم , بذلك الجوع , نداء الحرية أنساهم وجعهم وتعبهم !

مع انبثاق ضؤ الفجر أستؤنفت الرحلة صوب صنعاء ,مسيرة الحياة الراجلة هي عرس وطني, عرس أبناء تعز شاركتهم إياه كل محافظات الجمهورية, في الجزء الذي كنت فيه من المسيرة كان الشباب يهتفون للثورة للحرية للمدنية, هتفوا" ياشباب اليمن ثوروا.. ياعمال يافلاحين حطموا القوى الرجعية شيدوا الدولة المدنية ياعمال يافلاحين" اعتلى البعض السيارات يهتف" واسيلوا واسيلوا .. احمد علي واويله"

كانوا يخلعون قمصانهم وعلى أجسادهم كتبت عبارات الفخر بانتمائهم لتعز ,أوالمطالبة بمحاكمة القتلة, شابان ربطا بعضهما بحبل التف حول رقبتيهما كتب على ظهر أحدهما "علي صالح إعدام" وعلى جسد الأخر"أحمد علي إعدام" كانت الشعارات سلاحهم وكانت عزيمتهم سلاحهم الأقوى,كانوا يضحكون يتمازحون رغم المرض والجراح والتعب والجوع.

لكم تأثرنا بنبلهم , الإيثار هنا يتجلى بأروع صوره,فهذا شاب يتقاسم تلك البطانية الصغيرة مع رفيق الطريق الطويل,وآخران تقاسما الحذاء كل فردة مع واحد منهما,وشباب يهرولون خلف باص علَهم يحظون ببعض دفء من حرارته, شاب قدمه ممزقة ربطت بكيس بلاستيك وبالكاد يستطيع المشي ويرفض الصعود إلى سيارة!تقاسموا الخبز والماء, والوجع والدموع.

على السيارات وعلى الجدران كتبت عبارات مرحبة بمسيرة الحياة" يامسيرة الحياة والأمل أنت رمز الصمود في زمن الذل والهوان.. يرعاك الرحمن"

إنهم فتية آمنوا بحقهم في استعادة وطنهم ممن سلبهم إياه, حقهم في حياة كريمة ومستقبل أفضل,هاهم يعتلون الجبال ,وهاهي بشموخها تتلاشى أمام صمودهم رويداً رويدا تعانقهم قممها, والعاصمة تقترب,تعانق أبنائها القادمين من عدن وتعز وإب وذمار وصنعاء وغيرها من محافظات الجمهورية.آزال تعانق الحالمة.

نحن على أبواب صنعاء والثوار يهتفون" والسبعين يقرب ..يقرب" كنت من الرافضين التوجه إلى السبعين كون لافائدة ترجى من الذهاب إلى هناك خصوصاً أن الطاغية كان قد غادره , فقط ستسفك الدماء دون أن نحقق أي هدف, كنت أتمنى أن تمر المسيرة في طريقها بسلام , وظننت حين رأيت الأمن المركزي ظل يحمينا طوال الطريق , والحرس الجمهوري ظل متفرج - أنها ستمر دون التعرض لها, وان الدم الذي سفكوه خلال عام من الثورة قد أشبع تعطشهم للدماء,ولكن وعلى عتبات صنعاء كانت المجزرة ذبحت مسيرة الحياة السلمية.

لاشك إن عظمة المسيرة وحجمها بث الرعب والفزع في قلوب قاطني القصر, وبدا ذلك الرعب في ردة فعل هستيرية, فجأة انقلب المشهد أتى البلاطجة بزي مدني , وجنود الأمن المركزي في دار سلم أطلقوا الرصاص والقنابل الغازية التي وصلت إلينا وشعرنا بالاختناق رغم إننا في جزء بعيد من مقدمة المسيرة, تحولت الفرحة إلى حزن , الأرض التي تراقصت فرحة بقدومهم هاهي تروى بدمائهم, الأرصفة التي داستها أقدام القتلة طهرتها دماء الشباب, السماء امتلأت بدخان قنابل الغازات , وأصوات الزغاريد استبدلت بالرصاص وبالبكاء والعويل,قتلوا الشباب,اختطفوا الجرحى,اعتقلوا رجل مسن كان يقود سيارة تحمل أدوية وصوبوا السلاح تجاه رأسه مهددين بقتله, لحظات رأى شبح الموت أمام عينيه, ضرب وكل من اعتقل معه,سقط الشهداء بأقدام طاهرة ممزقة, وابتسامات لم تفارق شفاههم وكأنها تسخر من القتلة, وتقول لهم أبداً لن تقتلوا أحلامنا وعزيمتنا.. أُريد لتعز أن تموت على مشارف صنعاء, لكنها دوما تتحدى الموت والقتلة, تعز لاتموت, وشباب اليمن لايخيفهم أزيز الرصاص ودخان الغاز وعصى البلاطجة!

 

"نقاط مستحدثة"

كنا في سيارة الدكتور نبيل السوائي أنا والأستاذة أروى عثمان ومروان إسماعيل , كل الطرق مغلقة , لاخيار أمامك إلا الموت أو الاعتقال ,حاولنا المضي في طريق فرعي , وكان الحرس الجمهوري ينتظرنا في نقطة مستحدثة وبعنجهية وغرور صرخ الضابط " جنب بسيارتك" اجبر الدكتور نبيل على إيقاف سيارته سأله الضابط في النقطة لما كل هذه الأدوية؟ وأردف: يعني أنتم مع المسيرة ؟ رد عليه د.نبيل نعم نحن مع المسيرة,اشتاط غضباً وفتح باب السيارة ليجبره على النزول وأخذه إلى طقم عسكري كان على بعد أمتار, بعنفٍ فتح الباب الخلفي حيث كنت والأستاذة أروى عثمان, كان تعامل في منتهى الوقاحة والبلطجة, سحبت أروى من ثيابها دون احترام , وكان الضابط يزبد ويرعد , و يشتم ويسب وقال لها" سندعسك هنا مشيراً بإصبعه إلى قدمه" , فتح الباب الأخر وببلطجة أمسك بياقة الجاكيت الذي كنت أرتديه وسحبني بعنف وبطريقة مهينة , كان أسوأ ما واجهته بحياتي , تلك البلطجة وقلة الإحترام!هذا ماخلفه لنا نظام صالح !أعتقل نبيل السوائي, وأصر الضابط على إعتقالنا وصعودنا ومعنا ومروان إسماعيل إلى الطقم, قالت أروى لن اصعد , سأذهب إلى بيتي وكان أخر يقول له, إمرأتان اتركهما, لنفاجأ بشاب بسيارته تعرف إلينا وتحدث إلى الضابط وطلب منه أن يتركنا وسيقوم هو بإيصالنا إلى منازلنا. قلنا لن نغادر قبل أن يطلق سراح الدكتور نبيل , أطلقت رصاصة من شخص بزي مدني كتهديد لنا وأطلقت الثانية وصعدنا إلى السيارة واقتيد نبيل وسيارته إلى سجن الحرس, ونهب الجنود مبلغ من االمال وعدد من الكاميرات والهواتف النقالة كان بعضها في السيارة لزملاء لشحنها وتقدر بمليون ريال.

لم نكن نعلم حجم خسارتنا إلا حين عدنا إلى منازلنا, شهداء وجرحى ومختطفين, ولجنة حكومية للتحقيق في المجزرة والى اليوم لانعرف مصير هذه اللجنة, وكالعادة المجرم مجهول وإن كان معلوم!

من القاتل؟

وحده علي صالح وعائلته متفردون بهذا الدور البطولي في مسلسلات العنف والدم والفتن ,وحدهم قادرون على ارتكاب مثل هذه الجريمة! وسفير أمريكا خرج حينها وكأنه كان مشاركا في المسيرة بأنها كانت مسلحة !! مررنا بعدة نقاط تفتيش لما لم يصادر السلاح المزعوم؟!كانوا عزل وكنت شاهدة منذ مشاركتي على سلميتها, لم أر سلاحاً وهو أراد تبرير جريمة صالح!

رحم الله شهداء ثورتنا, شهداء مسيرة الحياة..

  

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي