الرئيسية المقالات مدارات السعودية في مستنقع المال والسلطة
السعودية في مستنقع المال والسلطة
د.مضاوي الرشيد
د.مضاوي الرشيد

عندما يتم التزاوج بين المال والسلطة في ظل شفافية منعدمة لا بد للقضايا الخفية ان تظهر بوضوح بعد ان برزت بشكل متوال في المحاكم البريطانية والامريكية ونقلت تفاصيلها الصحف العالمية ففي الولايات المتحدة تقوم وزارة العدل بالتحقيق في قضية بنك باركليز وامير سعودي هو تركي ابن عبدالله الذي عينه الملك مؤخرا نائبا لامير منطقة الرياض ويتهم الادعاء بنك باركليز بتوكيل الامير ملاحقة استثمارات في السعودية تبقى غير مدفوعة حيث قد يستطيع هذا الامير استغلال منصبه وقرابته من الاسرة الحاكمة لحل قضية الدين المترتب على تمويل مشاريع سكنية لاجهزة امنية وعسكرية في السعودية مقابل تسوية بعيدا عن المحاكم. وفي بريطانيا رفض القاضي طلب محامي الامير مشعل رئيس هيئة البيعة وابنه عبد العزيز بابقاء لائحة الاتهام سرية مبررا ذلك بانه سينقص من شخصية الامير وحقوقه الانسانية ويؤذي العلاقة الحميمة بين النظام السعودي والحكومة البريطانية.

فرفعت صحيفة ‘الغارديان’ البريطانية و’الفاينانشال تايم’ طلبا برفع السرية والحصانة عن قضية الامير واستجاب القاضي للطلب فخرجت تفاصيل لائحة الادعاء التي حضرها الخصم وهو اردني كان يدير اعمال الامير وشركاته المعولمة، ومن هذه الاتهامات غسل اموال لصالح حزب الله والمتاجرة بالاحجار الكريمة في الكونغو الافريقي وغيرها من المسائل التي لا تخلو من الاثارة والتي تظل معلقة حتى ان تبث المحكمة قرارها الاخير في الاشهر القادمة.

ورغم ان مثل هذه القضايا ليست بالجديدة حيث سبقتها قضية اليمامة والتي تم بعدها توقيف المحاكمة بضغط سياسي بريطاني تحت ذريعة الامن القومي عندما كان توني بلير رئيسا للحكومة البريطانية الا ان تواتر هذه القضايا وتشعبها في الفترة الاخيرة يدل على خلل حقيقي اصبح سمة ملازمة للحكم في السعودية والذي خرج من اطار السياسة وتبعياتها الى استعمال السياسة والسلطة في تمكين شخصيات معينة من تسخير حصانتهم ومناصبهم للكسب المالي المشروع وغير المشروع.

وبينما يتمتع هؤلاء بحصانة في الداخل تجنبهم مثل هذا التحقيق الا ان الحصانة لم تعد قادرة على حمايتهم من فضائح في المحاكم الخارجية او الصحافة العالمية بعد ان اصبحت امبراطوريتهم الاقتصادية والتجارية تتجاوز الحدود المحلية لتنشر فرص الاستثمار والربح السريع بارتباطها بمؤسسات مصرفية عالمية تخضع للمراقبة خاصة في مرحلة التدهور الاقتصادي العالمي الحالي وقوانين الشفافية المفروضة عليها من قبل اجهزة المحاسبة والمحاكم لحماية المستثمرين العالميين.

ويبدو ان كلما زادت الاستثمارات الخارجية في السعودية كلما ارتبطت هذه الاستثمارات بشخصيات معروفة في اعلى سلم السلطة وليس بمؤسسات سعودية تخضع للمحاسبة والشفافية. فالغرب لا يزال يعتمد في استثماراته وبيعه للمعدات العسكرية وغير العسكرية على حفنة من الامراء يفضل التعامل معها شخصيا اما لكسب فرصة ربح سريعة او لحل قضية عالقة ولم يفرض قوانين صارمة على السعودية في التعامل التجاري بعد دخولها الى منظمة التجارة العالمية والتي كانت فرصة استثمار سريعة غير مقيدة بنفس القوانين التي تطبق على الدول الاخرى لتثبيت عضويتها في مؤسسة عالمية.

وبدأت المؤسسات المصرفية العالمية والشركات الخاصة تكتوي بنار السرية وعلاقات الزبونية المشخصنة في السعودية في محاولة لتثبيت الربح السريع متناسية تبعيات مثل هذه البيئة على الشفافية والنزاهة في التعاملات التجارية. بل هي تفضل مثل هذه العلاقات المشخصنة والتي تحميها من المنافسة العالمية والتمحيص بشروط الاستثمار من قبل مؤسسات حكومية تخضع للمحاسبة في الداخل السعودي نفسه.

ويعلم المستثمرون العالميون ان مثل هذه المؤسسات قد تكون حجر عثرة في طريق الاستثمار السريع والربح الكبير خاصة وانها ترتبط بشخصيات محورية في السلطة السعودية نفسها تستطيع ان تتجاوز القوانين دون محاسبة او محاكمة. لذلك جاء ارتباط السلطة بالمال في السعودية ليصب في مصلحة شركات عالمية ومؤسسات استثمارية في المدى القريب لكنه ينقلب عليها ويكبدها خسائر مالية خاصة ان فرضت عليها المحاكم دفع غرامات باهظة نتيجة انخراطها بالرشوة او غيرها من المدفوعات غير القانونية ساعة تعرضها لتحقيق ما في المحاكم ناهيك عن تلوث سمعتها العالمية نتيجة مثل هذه العلاقات المشبوهة. ومرة اخرى اثبتت سياسة الانفتاح الاقتصادي المعولم ومشاريع الخصخصة التي تكون عادة مرتبطة ببيع مؤسسات حيوية تملكها الدولة لمستثمرين قريبين من السلطة انها تخدم مصالح حفنة صغيرة تتمتع بحصانة قانونية تكون مفتاحا للشركات الخاصة المملوكة من قبل شخصيات مهمة في الدولة وبذلك تحولت الخصخصة على الطريقة السعودية لوسيلة اثراء سريعة في الدولة ومن قبل مستثمرين مرتبطين بها عكس ما هو مرتبط بمثل هذا التحول الاقتصادي. فانحصرت حلقة المنتفعين من التحول الى مجموعة تملك قدرة شرائية كبيرة لا تضاهيها قوة الشرائح الاجتماعية المستثمرة الاخرى فتخبط سوق الاستثمار بعد ان انعدمت فيه الفرص المتساوية حيث يستغل صاحب السلطة موقعه المفصلي ليسهل المعاملات او ليعيقها حسب حاجته للربح وقدرته على تجاوز العقبات القانونية او الاقتصادية فيحتكر الاستثمار لصالحه ويبعد المنافسين اما بسبب تقلص مواردهم وامكانياتهم او بسبب بعدهم عن مفاصل الدولة مما يؤدي الى عرقلة تجارتهم وربحهم.

وتبقى هذه الحالة الاقتصادية المشوهة استنزافا للثروة الوطنية لصالح مجموعة صغيرة من المنتفعين الاقوياء سياسيا والمحصنين قانونيا خاصة وانها غير خاضعة للمحاسبة ناهيك عن كشف تفاصيلها في الصحافة المحلية ومن اهم استمرارية هذا الوضع كون المال العام والخاص غير محدد او منفصل عندما يستغل احد الامراء موقعه في السلطة ليخوض في غمار التجارة بأموال الدولة او امواله الخاصة والتي هي بالنهاية نتيجة مخصصاته لجشع هؤلاء وتماديهم في تكديس الاموال والاستثمارات لصالحهم وصالح ابنائهم من بعدهم وكأنهم في سباق مع الزمن حيث يطمح كل منهم الى تشييد امبراطورية اقتصادية كبيرة خوفا من تغيير قادم على الصعيد السياسي او اختلال موازين القوى داخل السلطة ذاتها.

وقد حرص النظام السعودي في العقود الاخيرة على توسيع رقعة المنتفعين من ابناء الاسرة وكأنهم يتلقون اسهما في المال العام مما يزيد حرصهم على استمرارية الوضع القائم الذي يحميهم ويحمي استثماراتهم وبعد تزايد عدد ابنائهم الطامحين في حصة مضمونة نجد ان السباق يحتد والمنافسة تشتد لتأمين مستقبل هؤلاء كمنتفعين ومستثمرين في السلطة بعيدا عن المراقبة. فيبدو الاقتصاد السعودي والتجاري اليوم بعيدا كل البعد عن الاقتصاد المفتوح بل باقتصاد المافيا المحتكرة للثروة التي تستغل السلطة في سبيل الكسب المشروع او غير المشروع فبالاضافة الى السباق لتولي المناصب السياسية التي توزع على الامراء وابنائهم بقرارات ملكية نجد ان السباق التجاري يحتدم هو ايضا خوفا من ان تفوت احدهم الفرص المناسبة. واصبحت الساحة السعودية السلطوية مساحة اشبه ما تكون بلعبة الاحتكار المعروفة حيث لكل من اللاعبين موقعه ورقعة اعماله وارضه يتحرك عليها بحرية وحماية ضرورية لاستمرار اللعبة وربح اللاعبين.

ومن تداعيات هذه الحالة الشاذة استنزاف الثروة الوطنية وتكريس مفهوم التسلق على السلطة والمال وتفشي السرية والمحسوبية والفساد الاقتصادي على حساب حفظ الثروة خاصة ان هذه الثروة غير متجددة حيث انها معتمدة على النفط اولا واخيرا.

ويؤدي هذا الوضع المتمثل بتزاوج السلطة والمال الى تأخير تطور القطاع الخاص والذي يبقى محددا ومعتمدا على احتكار حلقة صغيرة تستبعد المستثمرين الصغار والسلطة قد تهدد في المستقبل الاحتكار السياسي للقرار وتطالب بحقها ان تكون شريكا في السياسة وصنع القرار من منظور مصلحتها هي وليس مصلحة القيادة المحدودة.

فأكثر ما تخافه السلطة هو تمكين طبقة تجارية مستقلة تنافسها ليس في الاقتصاد فقط بل في السياسة.

القدس العربي

إقراء أيضا