كالنيل هو.. مفعم بالحياة
الأنهار لا تشيخ.. وكذلك الأستاذ.
تظل تتجدد، وتتدفق، وتفيض على ضفافها، مثلما يفيض علماً ومعرفة وحكمة.
كالنيل هو مفعم بحياة سرمدية، تنبض قلماً على ورق، وتنطق فكراً على لسان، وتتنفس صراحة وجسارة وعمق رؤى.
الاحتياج إلى بصيرة الأستاذ يزيد اليوم عن الأمس، ويشتد غداً أكثر من أى وقت مضى، فهو ينظر حين يغض غيره الطرف اتقاء لغبار عواصف، ويرنو إلى حيث لا يقدر سواه أن يمد البصر، فيرى ما لا يراه الآخرون، ويعرف ما هو آت، دون أن يتطلع فى بلورة أو يقرأ فى طوالع. وما أشق على الأستاذ - ككل حكيم - أن يدرك الناس بعد فوات الأوان حقائق أشياء رآها قبل قدومها، وحذر من التغافل عن مخاطرها.
سبعون عاماً عاشها «الأستاذ» فى قلب الأحداث منذ اقترن بالصحافة متابعاً، وراصداً، ومحللاً، وناصحاً، ومشاركاً فى صنع قرارات مصيرية، بل صانعاً لها فى أحيان.
عندما رحل عبدالناصر، ظن البعض أن السياسى فى شخصية «الأستاذ» سوف يتوارى، لكنه بقى يراوده عن قلمه، ويغلبه فى مواقفه، ويرشدنا إلى الطريق حين تتوه الذاكرة وتختلط علينا المعالم.
وعندما ترك الأهرام، اعتقد البعض أن «الجورنالجى» فى تكوين الأستاذ، سوف يذبل، لكنه ازداد تفتحاً وتألقاً، كتابة وتحليلاً ومؤلفات، وظل الصحفى يبهر تلاميذه وعشاقه على مر السنين - وحتى اللحظة - بفيض أسرار وحقائق ومعلومات عن أدق الأمور، وبواطن أحداث يستعصى على غيره الوصول إليها من مصادرها الأولى وصناعها.
يحلو لـ«الأستاذ» أن يتحدث عن غروب يقف عند حافته، بينما هو يقف بنا عند تباشير صباح يلوح، طالما بشر به وآمن بقدومه. يحلو له أن يتحدث عن مستقبل يظن أنه وراءه، بينما مستقبلنا أمامه وبين يديه، يبصّرنا بوعوده ويهدينا إلى مسالكه.
يحلو له أن يتحدث عن غد يقول إنه ملك لجيل آن لغيره أن يتوارى، بينما هذا الجيل المقدام صانع الثورتين، يستلهم من «الأستاذ» صواب الرؤية وسداد الرأى، وخلاصة الخبرة والتجربة.
أحسب أننى على دراية بتجربة «الأستاذ» العريضة، وسط لهيب المعارك من الحرب العالمية الثانية إلى حرب الخليج الثانية، وفى بؤرة الأحداث من ثورة 23 يوليو إلى ثورة 30 يونيو، ومع صناع القرار من حسن البنا والنحاس إلى محمد مرسى وعبدالفتاح السيسى.
لكنى أسمح لنفسى بجسارة الادعاء بأن المرحلة الأكثر ثراءً وخصباً فى تجربة «الأستاذ»، الصحفى والمفكر والسياسى الوطنى محمد حسنين هيكل، هى تلك التى بدأت يوم 25 يناير عام 2011، ولم تنته يوم 30 يونيو عام 2013.
منذ عشر سنوات، كتب الأستاذ هيكل مستئذناً فى الانصراف عن الكتابة، فى وقت كنا نود لو ظل هو يكتب، وانصرف كثيرون دونه من غير استئذان.
واليوم، نرجو «الأستاذ» أن يسترد استئذانه، وأن يعود إلينا بقلمه، وندعو الله ونحن نحتفل غداً بعامه التسعين أن يديم عليه الصحة، وأن يحفظه لنا ذاكرة وطن وضمير أمة، ونهراً لا ينضب أبداً.
نقلا عن المصري اليوم