الرئيسية المقالات مدارات القدوة الحسنة
القدوة الحسنة
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

تُصدم وأنت تسمع عبارات التبرم والسخط على شعبنا اليمني الطيب، يرددها في مجالسهم بعض السياسيين والمثقفين والحكام، يتذمرون من تخلف الشعب وعجزه عن الإرتقاء إلى مستوى عبقرياتهم. ولايتردد البعض من هؤلاء عن إطلاق ألفاظ مؤذية يصفون بها شعبهم، لاتفرزها إلا نفسيات محبطة وهمم ضعيفة وعقول مربكة، عجزت عن إدراك العوامل الحقيقية للإحباط والضعف والإرباك، التي أضحت سمة من سمات حياتنا. ولو أمعن هؤلاء التفكير قليلاً لأدركوا أنهم أنفسهم، ونحن معهم، نمثل بعضاً من هذه العوامل .

إنني أزعم، عن معرفة لاعن جهل، أن شعبنا هو من أفضل شعوب الدنيا، طيبة ونقاءً وتراحماً وتضامناً واستعداداً للعمل وتقبلاً للنظام والقانون. لقد عرفت شعوباً وبلداناً كثيرة، ولم أر شعباً أطيب من هذا الشعب. أنظروا إلى العامل والتاجر والطالب اليمني في المهاجر. راقبوا سلوكه العام ونظرة الآخرين إليه، ولاتتوقفوا عند الإستثناءات الشاذة، فلكل قاعدة شواذ، تؤكد صحة القاعدة. إنه سلوك مستقيم يفرض تقدير الآخرين واحترامهم. فهل يمكن أن يتولد ذلك عن شعب يتصف بالصفات، التي يلصقها به مثقف مأزوم أو سياسي فاشل أو حاكم دعي. إنني أستطيع أن أسوق عشرات الأمثلة، التي رأيتها وعشتها، والتي تؤكد جوهر هذا الشعب ومعدنه النقي. ولكن هل يمكن أن يتجلى جوهر الشعب الحقيقي دون وجود نخبة مخلصة نزيهة كفؤة: دون وجود حاكم يمثل القدوة الحسنة لشعبه وسياسي متفان في حب وطنه ومواطنيه ومثقف قادر على تحويل ثقافته إلى سلوك وعطاء، وفوق هذا، دون وجود أطر تنظيمية سليمة، تحشد طاقات الشعب وتوجهها نحو العمل المنتج والبناء الطموح؟. وهل هناك شعب في العالم وعلى امتداد التاريخ تطور وارتقى وبنى حياته الجديدة، دون نخبة من أبنائه، قادت مسيرته بكفاءة وإخلاص ومثلت قدوته، التي تُحتذى، فكراً وسلوكاً؟. فأين تكمن المشكلة إذاً، في شعبنا أم فينا نحن، نخبه العاجزة؟

إننا نستطيع القول، بعد الرحلة الشاقة المضنية، التي قطعها اليمنيون في تاريخهم المعاصر، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم، نستطيع القول، بأن اليمن لم يحظ بحكام، يمثلون القدوة الحسنة للشعب، لافي العهد الإمامي ولا في العهد الجمهوري. كما لم يحظ اليمن بنخبة مثقفة تمتلك الوعي العالي، جنباً إلى جنب مع السلوك السوي، الذي يحوِّل الثقافة والوعي إلى ممارسة عملية في أوساط الناس. وتطول اللائحة، إذا ماأردنا أن نعدد صور القدوة غير الحسنة، التي نفجع بها كل يوم، متجسدة في قائد عسكري أوقائد في الأمن أو مسؤول في الإدارة المدنية للدولة أومدرس في مدرسة أوأستاذ في جامعة أوصحفي أوعالم دين...إلخ. وهذا لاينفي وجود أفراد في كل هذه المجالات، يتصفون بالكفاءة والنزاهة والبساطة والصدق، ويصلحون أن يكونوا قدوة حسنة. ولكنهم يضيعون وسط هذا الغثاء، الذي غطى كل شيئ، ووسط هذه الأوحال، التي غمرت الحياة اليمنية، لزمن طويل، وحالت دون أن يتسرب هواء نقي إلى الجسد اليمني العليل .

ودون أن أقتبس نماذج للقدوة الحسنة من شعوب أخرى، كغاندي ومانديلا ومهاتير محمد وغيرهم، سأكتفي هنا بنموذج ينتمي إلى شعبنا العربي، ويمكن أن يستفيد منه قادتنا العسكريون والمدنيون، نموذج قد لايتذكره الجيل الحالي من أبنائنا، وهو قائد العبور في مصر، عام 1973م، الفريق أول سعد الدين الشاذلي، رحمه الله. كيف كان يعيش ذلك القائد العسكري القدوة، وكيف كان يتعامل مع مرؤوسيه، ضباطاً وضباط صف وجنوداً، وهو ذو الرتبة العالية والكفاءة والعلم. ولنقرأ معاً هذه الفقرات من مذكراته :

" إن القائد لايستطيع أن يكسب ثقة جنوده بمجرد الشعارات البراقة أو عن طريق إصدار التعليمات والتوجيهات والنداءات، وإنما عن طريق القدوة الحسنة والعلاقات المتبادلة التي أساسها الصراحة واحترام الذات" ص 85-86 .

" إن الجندي لايهتم بما يسمع فهو يعلم بغريزته أن ليس كل مايقال حقيقة، ولكنه يرى ويحس بما يدور حوله. إنه لمن السذاجة أن يطلب القائد من جنوده التقشف بينما هو يعيش عيشة مرفهة، إنهم سيسمعون، وأدباً سيسكتون، ولكنهم فيما بينهم سينتقدون ويستهزئون" ص 85-86 .

" كنت أسكن في ملجأ 2 متر  x4 أمتار. لقد كان في استطاعتي أن أسكن في فيلا جميلة ولكني فضلت أن أعيش في المستوى نفسه الذي يعيش فيه ضابط برتبة ملازم أو نقيب في القوات المسلحة، لم يحدث أن اشتكى لي أحد الضباط أو الجنود من الحياة الشاقة التي يعيشونها لأنهم كانوا يرون بأعينهم كيف أعيش وكيف أشاركهم حياتهم" ص86 .

كان هذا سلوكه طوال عمله قائداً لمنطقة البحر الأحمر العسكرية. وعندما أصبح رئيساً لأركان القوات المسلحة المصرية، ومسؤولاً أول عن الإعداد لمعركة العبور وقيادتها، أصدر توجيهاً بإلزام كل فرد في القوات المسلحة، دون سن الأربعين، بالتبرع بزجاجتي دم. ولحرصه على إعطاء المثل والقدوة، كان أول المتبرعين، حيث يقول :

" ومع أن التوجيه كان يفرض التبرع على كل من هو دون ال 40 سنة، ومع أني كنت في الخمسين من عمري، فقد قررت ـ طبقاً لمبادئي التي تلزمني بأن أشارك رجالي في كل شيئ ـ أن أفتتح الحملة بأن تبرعت بزجاجتين من دمي يوم 31 مارس 1973م. وقبل أن تبدأ عملياتنا في 6 أكتوبر كان لدينا 20000 زجاجة من الدم كاحتاطي عمليات" ص 86-87 .

وأذكر، والشيئ بالشيئ يُذكر، أن إسم سعد الدين الشاذلي قد علق بذاكرتي، وأنا في المرحلة الإبتدائية، في مدينة عدن (التي يحزنني أن يُلصق بها اليوم الإسم الإنجليزي، الذي يشوهها ويشوه تاريخها العريق، وهو كريتر). حينها نُشر تحقيق في صحيفة أسبوعية مصرية (لعلها المصور أو آخر ساعة) عن قائد كتيبة المظلات المصرية (سعد الدين الشاذلي)، التي أُرسلت إلى الكونغو، بقرار من الأمم المتحدة. ولفت انتباهي آنذاك أنه ضابط حصل على شهادات أكاديمية مدنية، في الإقتصاد والسياسة، إضافة إلى شهاداته الأكاديمية العسكرية. وبعد عقود من الزمن، حضرت ندوة العلاقات المصرية ـ اليمنية في القاهرة، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ونُظِّمت لنا زيارة لبنوراما العبور. ولاحظت ونحن نقف أمام لوحة جدارية كبيرة، تمثل غرفة العمليات، التي يُزعم أن الرئيس أنور السادات ومعه بعض قادة القوات المسلحة، كانوا يديرون معركة العبور منها، لاحظت أن قادة عسكريين قد رُسموا في اللوحة إلى جانب السادات، من بينهم وزير الدفاع الفريق أحمد اسماعيل وقائد سلاح الطيران محمد حسني مبارك، ولم يكن فيهم رئيس الأركان العامة، قائد العبور، الفريق سعد الدين الشاذلي. فتساءلت بتلقائية: وأين الفريق الشاذلي؟ ورد علي رجل من بين الحاضرين، بما يشبه النكتة الممزوجة بالمرارة: "ماهو كان بيقاتل مع جنوده في الجبهة، ماكانش عنده وقت يتصور". وقد قيل لي أن ذلك الرجل كان أثناء العبور قائداً للجيش المصري الثاني، وأضحى فيما بعد واحداً من قادة العبور، الذين كافأهم السادات، على جهودهم وتضحياتهم وكفاءتهم في تدمير خط بارليف الأسطوري وعبورهم على رأس قواتهم إلى الضفة الأخرى من قناة السويس، فسرحهم من الجيش المصري وهمشهم وعمل على محو تاريخهم العسكري المشرف، وعلى رأسهم قائدهم الفريق أول سعد الدين الشاذلي. هنا تتجلى قدوة وقدوة: قدوة حسنة وقدوة سيئة .

 

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي