الرئيسية المقالات مدارات عن العملية عصفور وانقلاب مايو... مفاجأة مذهلة
عن العملية عصفور وانقلاب مايو... مفاجأة مذهلة
عمرو  صابح
عمرو صابح

فجر الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل عدة قنابل تاريخية من العيار الثقيل في حلقاته الجديدة من برنامج "تجربة حياة"، والتي تحمل عنوان "الطريق إلي أكتوبر" وتعرض على فضائية الجزيرة. فقد كشف الأستاذ هيكل أن الرئيس جمال عبد الناصر أمر بزرع أجهزة تنصت واستماع داخل مبنى السفارة الأمريكية بالقاهرة فى ديسمبر 1967 فى عملية إستخباراتية أطلق عليها أسم العملية ( عصفور ) وقال هيكل أن هذه العملية تعد من أنجح وأخطر عمليات التجسس فى تاريخ المخابرات فى العالم ولا تعادلها فى النجاح إلا العملية ( ألترا ) عندما نجحت مخابرات الحلفاء فى حل الشفرة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية مما جعل البريطانيين والأمريكيين على علم كامل بكافة التحركات و الخطط العسكرية و الإستخباراتية الألمانية قبل حدوثها ، وأضاف هيكل : "كان يعلم بسر العملية ( عصفور ) حوالي عشرة أشخاص في مصر كلها ، وأن نائب الرئيس عبد الناصر وقتها السيد أنور السادات لم يعلم بسر العملية

( عصفور ) بأوامر من الرئيس عبد الناصر ذاته . .

وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر فى 28 /9 /1970 رفض السادة ( على صبرى ، شعراوى جمعة ، سامى شرف ، والفريق محمد فوزى ) أن يعرف الرئيس الجديد أنور السادات بسر العملية " عصفور " لخوفهم على العملية منه و لعدم ثقتهم فيه ، ولأن بعض ما وصلهم عبر تسجيلات تلك العملية فيه ما يدين الرئيس السادات ، ويستوجب محاكمته .

وقال الأستاذ هيكل أنه هو الذى أطلع الرئيس السادات على سر العملية (عصفور) ، ووصف هيكل المعلومات التى حصلت عليها مصر بفضل تلك العملية المتفردة بالكنز الثمين والذى لا يقدر بثمن . وقال هيكل أن عملية ( عصفور ) ظلت تسير بنجاح وظل تدفق المعلومات جاريا منذ ديسمبر 1967 حتى يوليو 1971 عندما أفشى الرئيس أنور السادات سر العملية ( عصفور ) لصديقه كمال أدهم مدير المخابرات السعودية و صاحب العلاقات الوثيقة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية والذى نقل المعلومة فور علمه بها للأمريكيين مما أنهى العملية الناجحة وأغلق باب كنز المعلومات للأبد . وبينما أنا أتابع حديث الأستاذ هيكل أنتابنى شعور أننى قرأت له من قبل ما يشير إلى تلك العملية المتفردة فى تاريخ المخابرات ، وبمراجعتى لكتابه ( أكتوبر 73 السلاح و السياسة ) طبعة الأهرام الأولى عام 1993 ، تيقنت من صدق شعوري ،حيث كتب الأستاذ هيكل فى صفحة 138 من الكتاب( لم يكن الرئيس السادات وقتها يعرف ما فيه الكفاية عن القدرات التى بلغتها المخابرات المصرية ، والحقيقة أن هذا الجهاز الكبير كان قد حقق لنفسه مستوى عال فى مجال الأمن القومى وقد وصلت كفاءته إلى حد أنه تمكن من وضع أجهزة تنصت و تسجيل فى بيت و مكتب القائم على شئون المصالح الأمريكية " دونالد بيرجس " وقد شملت الرقابة كل غرفة فيه ، بما فى ذلك مكتب ممثل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية " يوجين ترون " ومسكنه أيضا) .

وكتب الأستاذ هيكل فى الهامش رقم 9 لنفس الصفحة (لم يعد هناك حرج فى ذكر ذلك الآن لأن الأمريكان عرفوا فيما بعد الحقيقة وقاموا بإعادة بناء للبيت و تنظيفه من كل أدوات التسمع والتنصت فيه) كما نشر الأستاذ هيكل في الفصلين الخامس و السادس من نفس الكتاب محاضر تفريغ لتسجيلات الأحاديث الواردة من السفارة الأمريكية ، وفى الملحق الوثائقى للكتاب فى الصفحات من 758 حتى 760 نشر الأستاذ هيكل صورة لغلاف تفريغ شريط مسجل بين المستر " يوجين ترون " واللواء " عبد المنعم أمين " ، وبين المستر " دونالد بيرجس " و اللواء " عبد المنعم أمين " .

وهكذا اكتشفت أن الأستاذ هيكل قام منذ 16 سنة وقت صدور كتاب (أكتوبر 73 السلاح و السياسة) بالإشارة إلى العملية ( عصفور ) دون تسميتها و دون أن يذكر كل تفاصيلها ، كما قام بنشر تفريغ لبعض تسجيلاتها بما يخدم موضوع كتاب ( أكتوبر 73 السلاح و السياسة ) ، وبالتالى فإن إشارته الأخيرة عن العملية ليست هى أول مرة يتكلم فيها عن العملية ( عصفور ) .

و أثناء إعدادى لدراسة عن حرب يونيو 1967 كان من ضمن المراجع التى قررت الاستعانة بها مذكرات السيد / محمود رياض وزير خارجية مصر وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق ، وفى الجزء الثالث من مذكرات محمود رياض والذى صدر بعنوان ( أمريكا و العرب ) عن دار المستقبل العربى – الطبعة الأولى عام 1986 ، وفى صفحتى 118 - 119 من الكتاب وجدت مفاجأة مذهلة عن العملية ( عصفور ) أيضا بدون تسميتها ، حيث يقول السيد/ محمود رياض فى مذكراته :

وقد اطلعت مؤخرا على التحقيقات التى تمت مع السيد شعراوى جمعة وزير الداخلية الأسبق بواسطة النيابة العامة فى يونيو 1971 ، وقد ورد فيها أن شعراوى جمعة أثناء اجتماعه مع أعضاء التنظيم الطليعى للاتحاد الاشتراكى ذكر ما يلى : أننى نقلت إلى الموجودين بعض ما علمته مما دار بين بيرجس (القائم على شئون المصالح الأمريكية فى مصر) وجوزيف سيسكو (مساعد وزير الخارجية الأمريكى) وما دار فيه من حديث يتصل بأمور كثيرة منها ما يمس سلامة البلاد أرجو إعفائى من ذكرها .

ثم يقول السيد/محمود رياض أن السيد / شعراوى جمعة قرر أن يطلعه بعد خمسة عشر كاملة على الحديث الذى دار بين سيسكو و بيرجس مساء يوم 9 مايو 1971 ، وهو الحديث الذى رفض الإفصاح عنه أثناء تحقيقات النيابة العامة معه فى قضية مايو 1971 .

ويضيف السيد / محمود رياض أن السيد / شعراوى جمعه أخبره أن مباحث الداخلية استطاعت أن تضع أجهزة تصنت فى منزل بيرجس القائم على رعاية المصالح الأمريكية فى مصر وأمكن تسجيل الحديث الذى أدلى به سيسكو لبيرجس حول ما سمعه من السادات أثناء مقابلته له بعد ظهر ذلك اليوم – 9 مايو 1971 – فقد أبلغ السادات سيسكو أنه سيقوم بتغيير وزير الخارجية محمود رياض ووزير الدفاع محمد فوزى لأنهما يضغطان عليه من أجل بدء معركة التحرير هذا علاوة على إصرار وزير الخارجية على الحل الشامل ، كما ذكر السادات لسيسكو أيضا أنه قرر فصل حوالى مائة وخمسين عضوا من الاتحاد الاشتراكى وهم الذين عارضوه فى اللجنة المركزية عندما طرح

مشروع الاتحاد بين مصر وسوريا وليبيا..

نحن هنا أمام إشارة أخرى للعملية ( عصفور ) بدون تسميتها أو توضيح كافة تفاصيلها ، وهى أسبق من إشارة الأستاذ هيكل لها فى كتابه ( أكتوبر 73 السلاح والسياسة ) ، لأن كتاب محمود رياض صدر قبل كتاب هيكل بسبع سنوات كاملة ، بالطبع الأستاذ هيكل كما ذكر فى برنامجه (مع هيكل) علم بسر العملية من الرئيس عبد الناصر شخصيا عام 1968 ، ووصلت وثائقها وتفصيلاتها كلها له حسب اعتقادى عقب انقلاب مايو 1971 ، عندما أمر الرئيس السادات سكرتيره السيد/أشرف مروان أن يقوم بتسليم الأستاذ هيكل كل الوثائق والأوراق والملفات التى كانت فى مكتب السيد/ سامى شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية وسكرتير الرئيس للمعلومات الأسبق .

الاختلاف الوحيد هنا أن الأستاذ هيكل ذكر أن جهاز المخابرات العامة هو الذى زرع أجهزة التنصت الخاصة بالعملية ، بينما فى رواية السيد/شعراوى جمعة أن مباحث الداخلية هى التى قامت بذلك .

ولكن أكثر ما يعنينى هنا ليس إكتشافى للمرة الثانية وجود إشارة للعملية (عصفور) قبل تصريح الأستاذ هيكل عن تفاصيلها ، أو من الذى زرع أجهزة التنصت فى السفارة الأمريكية ، ما يعنينى هو مغزى الكلام الخطير الذى قاله شعراوى جمعة لمحمود رياض .

إن معنى كلام السيد / شعراوى جمعة أن الكبار فى مجموعة مايو ( شعراوى جمعة – سامى شرف – الفريق محمد فوزى ) كانوا على علم بخطة الرئيس السادات للتخلص منهم والانقلاب على الثورة منذ يوم 9 مايو 1971 أى قبل الانقلاب بأربعة أيام كاملة ، لأن الانقلاب تم يوم 13 مايو 1971 بعد استقالة أقطاب مجموعة مايو من مناصبهم عقب إقالة الرئيس السادات لشعراوى جمعة وزير الداخلية ، وفى يوم 14 مايو طرد السادات رئيس مجلس الأمة ووكيليه و15 عضو من المجلس ، ويوم 15 مايو 1971 لم يحدث فيه شئ إطلاقا ،ولكن الرئيس السادات أختاره يوما للاحتفال بانقلابه ويبدو سر اختياره لهذا اليوم بالذات غير مفهوم لأنه يوم حزين بالنسبة لكل عربى إذ يوافق ذكرى قيام دولة إسرائيل ويوم عيدها القومى .

ويبدو لى أن هذه هى أول مرة فى التاريخ يعلم فيها مسئولون سياسيون بما يدبر لهم قبل وقوعه بأربعة أيام كاملة ، إن علمهم بما هو قادم ليس تخمينا أو توقعا بل عبر حديث مسموع عما يحاك لهم ولمصر ، ويبدو تفسير تصرفات هؤلاء المسئولين بناء على علمهم غير مفهوم على الإطلاق

الرئيس السادات يعلن لجوزيف سيسكو مساعد وزير الخارجية الأمريكى عن نيته فى تحويل مسار السياسة المصرية والتخلص من سياسات الرئيس عبد الناصر ، وينقل له ضيقه من وزيرى الخارجية و الحربية لإصرارهما على المعركة والوصول إلى حل شامل ، وليس ذلك فقط بل ينقل له عزمه التخلص من كل المسئولين الذين يعارضون سياساته الجديدة ، وقبل ذلك بأسبوع يوم 2 مايو 1971 كان قد أقال نائبه السيد/ على صبرى من منصبه .

وفى محادثة تليفونية بين السيد /على صبرى والسيد/محمد فايق وزير الإعلام عقب إقالته .

يقول على صبرى : أن السادات بيبيع البلد للأمريكان وبيهد كل اللى عبد الناصر بناه فى 20 سنة .

بل أن الفريق أول / محمد فوزى وزير الحربية يجتمع بكبار الضباط فى الجيش ويصارحهم أن السادات بيبيع البلد للأمريكان وبيهدم كل مبادئ الثورة

هكذا كان هؤلاء الرجال الناصريين المؤتمنين على ميراث الرئيس عبد الناصر وخطه النضالى الإشتراكى واعين بنوايا السادات و أهدافه

ولنرى الآن كيف تصرفوا ؟

سعد زايد محافظ القاهرة وأحد الضباط الأحرار يطلب من الفريق فوزى دبابة وخمس عساكر لاعتقال السادات وإجهاض المؤامرة على الثورة فيرفض الفريق فوزى ويقول له أن مهمة الجيش هى تحرير الأراضى المحتلة فقط وليس الانقلاب على الشرعية وينسى الفريق فوزى للأسف أن طلب سعد زايد ليس الانقلاب على الشرعية ولكن وأد الانقلاب على الثورة الذى يتم فعلا .

وينسى أن اى حرب سوف يقودها من انقلب على مبادئ العروبة والقومية لن تحرر الأراضى المحتلة ولن تحقق الحل الشامل .

إن الأمر هنا وبعد قراءة ماورد فى مذكرات السيد/محمود رياض لم يعد فقط انقلاب السادات على خط عبد الناصر والردة على الثورة ، فحديث السادات مع سيسكو يكشف نواياه بالنسبة لأقطاب مجموعة مايو أنفسهم ، ليست الثورة فقط هى التى تواجه التهديد بل هم أيضا يواجهون خطر فقدان رؤوسهم ومناصبهم ، ورغم علمهم المسبق بنوايا السادات والتى ستطول الثورة وتطولهم أيضا ، فإنهم عقب قرار الرئيس السادات إقالة السيد / شعراوى جمعة من منصبه ، يقررون الاستقالة من مناصبهم وترك الملعب للسادات ، الذى يقبل استقالاتهم منتشيا ثم يقرر القبض عليهم وتلفيق قضية انقلاب على الشرعية لهم ، ويخلو له الميدان لينفذ انقلابه كاملا ويطبق خط الردة على الثورة كما خطط مع الأمريكيين .

الطريف فى الأمر أن السيد/شعراوى جمعة بعد القبض عليه وفى تحقيقات النيابة معه كما أورد محمود رياض فى مذكراته رفض الإفصاح للمحقق عن كيفية علمه بنوايا الرئيس السادات حتى لا يكشف سر العملية ( عصفور ) ، إلى هذا الحد كان هؤلاء الرجال أبرياء ؟!

من نسق مع الأمريكيين لانقلابه على الثورة ، ومن يبحث عن حل فردى سيهتم بعملية ( عصفور) ؟!!

أن منطق السيد/شعراوى جمعة فى ذلك يماثل منطق الفريق فوزى عندما رفض طلب سعد زايد ، وعندما صارح ضباط الجيش قبل الانقلاب أن الرئيس السادات بيبع البلد للأمريكيين ثم استقال بعدما أخلى ذمته .

كنت أتمنى أن أعرف إحساس السيد/ شعراوى جمعة عندما علم أن الرئيس السادات فى شهر يوليو 1971 أى بعد الانقلاب بشهرين وعقب علمه بسر العملية ( عصفور ) من الأستاذ هيكل أفشى السر لصديقه كمال أدهم مدير المخابرات السعودية الذى نقل السر للمخابرات الأمريكية فور علمه به لتصمت ميكروفونات (عصفور) إلى الأبد .

للأسف الشديد كانت اللعبة أكبر من رجال الرئيس عبد الناصر ، ورغم قربهم الشديد من الرئيس عبد الناصر لمدة طويلة لم يتعلموا منه كيفية حسم الأمور .

رحل الرئيس عبد الناصر وترك لهم كل مقاليد السلطة ، وكان السادات لا يملك شيئا منها غير منصبه كنائب للرئيس فقط ، جعلوه رئيسا ورغم كشفهم لنواياه منذ البداية ، فشلوا فى التصدى له ، وسلموا له مصر كلها ليفعل بها ما يشاء .

يلوم البعض الرئيس عبد الناصر على اختياره للسادات كنائب له ، وينسى هؤلاء أن الرئيس عبد الناصر ترك أقرب الناس لفكره وسياسته فى أخطر مؤسسات الدولة ، وهم الذين فشلوا فى التصدى لانقلاب السادات .

هناك أخطاء تاريخية لا تغتفر لأنها تتعلق بمصائر الشعوب ، كان خطأ رجال الرئيس عبد الناصر فى أحداث مايو 1971 واحدا من تلك الأخطاء التاريخية الفادحة .

وكانوا هم أول من دفعوا ثمن هذا الخطأ التاريخى ثم دفعت مصر والأمة العربية أثمان مضاعفة لخطأهم .

أنا شخصيا أكن لهم جميعا خالص التقدير والاحترام لنزاهتهم وشرفهم وثباتهم على المبادئ ولكن ذلك لا يمنعنى من الإقرار بخطأهم فى التصدى لانقلاب السادات، وإن كنت أستثنى منهم السيد/على صبرى لأنه حذرهم من السادات ونواياه ودعاهم للتصرف والحسم .

فى بداية الستينيات قال الرئيس عبد الناصر ( لو قوى الثورة المضادة اتحركت هالبس الكاكى تانى واعمل ثورة جديدة ) .

للأسف بعد غيابه تحركت قوى الثورة المضادة من قلب النظام واستولت على حكم البلاد .

رحم الله الرئيس عبد الناصر ، وغفر الله لرجاله .  

إقراء أيضا