العروبة والمستقبل
محمد كريشان
طوال الخمسة أيام الماضية احتضنت دمشق مؤتمرا بعنوان 'العروبة والمستقبل' حضره عدد هام من الجامعيين والمفكرين العرب وشهد ست عشرة جلسة تراوحت بين فكرة العروبة ومكوناتها وآفاقها الثقافية والحضارية وعلاقتها بالدولة والدين والتاريخ والعولمة والهوية والقضية الفلسطينية والتنوع الإثني والحداثة والعلمانية والأصولية الطائفية والمذهبية ومخاطر الهيمنة.
أولا مجرد انعقاد هذا المؤتمر دليل على حاجة معينة لإعادة طرح قضايا مختلفة تتعلق بالعروبة، بعضها أشبع بحثا في العقود الماضية، لكنه اليوم يحتاج إلى معالجة جديدة ونوع من التحديث، فهل تراه أفلح في ذلك؟ ما تسنى لي متابعته على امتداد يومين لا يشير إلى ذلك فقد ركن عدد من الباحثين، وكثير من المناقشين إلى سهولة تكرار القناعات المعروفة. قلة تلك التي جازفت عبر إشارات عابرة بمحاولة هز ما ظللنا نراه مسلمات لعقود. لم يفعلوا ذلك ولو من باب التحدي النظري وطرح تساؤلات حائرة ليس بالضرورة أن تقع الإجابة عليها في إطار المؤتمر نفسه. أحسست أن القاعة بمن فيها تنتمي إلى سنوات طويلة خلت- حتى بالنظر إلى عمر الحاضرين حيث تجاوزت الأغلبية الستين من العمر فيما غاب الشباب بالكامل تقريبا- وبأن النخبة العربية باتت عاجزة عن توليد أفكار جديدة قادرة على دخول معترك الأفكار الدولي. أحدهم وصل حد القول إنه سبق له أن رأى عددا من الحاضرين يكررون في كل مناسبة نفس الآراء طوال سنوات دون كلل. وحين سألتني صحيفة سورية عن رأيي في المؤتمر قلت صراحة إني سمعت كلاما كثيرا عن العروبة لكني لم أسمع شيئا عن المستقبل!.
لا مفر من الاعتراف بأن العروبة مفهوم إشكالي،، قال أحد المحاضرين، فهي طبيعية كشعور وجداني فالعربي يشعر بنفسه عربيا تماما كما التركي تركيا والروسي روسيا والفرنسي فرنسيا لكنها عندما تحولت إلى إيديولوجية قومية تغيرت المعطيات، وهي عندما وصلت دفة الحكم ازدادت تعقيدا. مع ذلك، لم يتطرق المشاركون، حتى وهم يخوضون في العروبة والدولة، إلى تجربة القوميين العرب في الحكم سواء في سورية نفسها أو العراق أو مصر للوقوف على السلبيات التي صاحبت هذه التجارب بهدف دراستها بشجاعة والتعرف على مكامن الخلل. وعندما استقبل الرئيس السوري بشار الأسد جموع المحاضرين أمس الأول بحضور نائبته الدكتورة نجاح العطار التي نظمت المؤتمر، لم يستغل هؤلاء المناسبة لطرح بعض القضايا الحارقة التي تتعلق بالعروبة والقومية العربية في تجربة حزب البعث في الحكم. ومع أن الرئيس السوري أبدى رحابة صدر وحرص على التعامل مع ضيوفه بعيدا عن الرسميات إلا أن معظم المداخلات والأسئلة ركزت على قضايا سياسية راهنة حتى كادت تصبح مؤتمرا صحافيا مع أن الرجل يلتقي في المقام الأول بمفكرين وأكاديميين وإن كان من بينهم صحافيون.
لا أريد أن أتجاوز حدودي أو أبدو جاهلا بمقامي فلست في وارد تقييم أو محاسبة مفكرين وأكاديميين بارزين لكن ذلك لا يمنعني من التعبير عن نوع من الغصة بسبب ما أراه من النخبة العربية التي 'تفكر بعقل نصي'، وفق تعبير أحد المشاركين، وذلك عندما يعود الباحث إلى النصوص بعيدا عن الواقع المعاش وتعقيداته. هذه النخبة لا تبدو أنها تمتلك مشاريع جديدة مبتكرة قادرة على فرض نفسها بقوة للخروج مما عرفناه تقليديا سواء من الفكر القومي أو الفكر الإسلامي حتى بتنا نحفظه عن ظهر قلب. أقسى من ذلك كثير مما تقدمه هذه النخبة في مناسبات من نوع مؤتمر دمشق ينطبق عليه ما قاله مرة الأستاذ محمد حسنين هيكل وهو ينتقد طرحا ما لأحدهم: الأكيد في كلامه ليس جديدا والجديد في كلامه ليس أكيدا!!.