لم يكن من المتخيل أن جنون دولة الاحتلال يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه خلال عملية التصدي لسفن المساعدات الإنسانية التي جاءت من اجل تقديم القليل من الاحتياجات الضرورية لأبناء قطاع غزة بعد أربع سنوات من الحصار الخانق الذي تم فرضه عليه من قبل دولة الاحتلال وبعض من قادة امة العربان.
كان من المتوقع على سبيل المثال، أن يتم منع السفن من الوصول إلى القطاع، ومضايقة السفن ومن عليها، وربما سجنهم واعتقالهم وحتى ضربهم وتعذيبهم وتكسير أطرافهم، وكذلك مصادرة حمولة تلك السفن أو إعادتها من حيث أتت، أما أن تتم عملية قرصنة تتسم بكل الوقاحة والاستهتار بالقوانين الدولية بالشكل الذي وقف العالم مذهولا أمام دمويته، وحشد كل هذا العدد الهائل من القوات والسفن البحرية وان يتم إطلاق النار من اجل القتل وليس التنبيه أو الترويع، فهذا ما لم يكن أبدا متوقعا.
لقد قامت إسرائيل بفعل عجزت وترددت عن القيام به حتى "اعتى" عصابات الإجرام والقرصنة، لا بل إن قراصنة الصومال يشعرون بالفخر الآن، لأنهم لم يصلوا إلى هذا المستوى من الدموية الذي مارسته دولة الاحتلال الصهيوني ضد نشطاء السلام والمتضامنين، الذين أتوا من أربعين بلدا، فقط لمد يد المساعدة الإنسانية لقطاع غزة، الذي يعاني من حصار تم فرضه بدون مسوغات قانونية، كما هو حال كل الممارسات الإسرائيلية منذ نشأتها غير القانونية.
لقد قامت إسرائيل منذ اللحظة الأولى التي تم الإعلان فيه عن نية المنظمين التوجه إلى القطاع، بالتحضير لما ستقوم به، وصار الجميع يعلم تلك التحضيرات، والتي كان على رأسها بناء سجن خيام جديد، من اجل إيداع من يتم اعتقالهم من المتضامنين فيه، كما قامت بحملة دعائية وإعلامية غير مسبوقة، من اجل شحن العالم ضد هذه السفن، في محاولة منها لتشويه الحقيقة، وادعت ان من هم على ظهرها ليس سوى مجموعات إرهابية، برغم ان هؤلاء كانوا من النخب في البلدان التي مثلوها في تلك الرحلة.
دولة الاغتصاب أرادت من خلال قيامها بالمجزرة في عرض البحر وفي المياه الدولية بالتحديد وليس المياه الإسرائيلية، أن ترسل العديد من الرسائل إلى العالم، من بينها، ان إسرائيل كما هي، لم تتغير، وانها تمارس نفس البلطجة التي بدأت بها عندما تم تأسيسها، حيث قامت بالعديد من المجازر ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وانها وبعد 62 عاما من النكبة ستمارس ما مارسته منذ البداية، أما الرسالة الأخرى فهي كانت موجهة للرئيس الأمريكي اوباما من خلال جس نبض إدارته ومدى جديتها في التعامل مع هكذا ممارسات، وكيف سيكون الموقف الأمريكي في مجلس الأمن، وكذلك هي رسالة إلى امة العربان، تقول فيها، إنها لا تكترث بهذه الأمة، وان جميع المبادرات " السلامية" التي تقوم بها هذه الأمة، لا تهمها، وإنها لا تلتفت إليها، لأنها ترى فيها امة مهزومة وغير قادرة على القيام بأي فعل، وأما الرسالة الثالثة فكانت إلى القيادة الفلسطينية التي ما زالت تراهن على إمكانية الوصول إلى "نوع ما من السلام"، وانها وبرغم عودة أو قبول الطرف الفلسطيني على العودة إلى المفاوضات "التقريبية"، لن تغير من سياستها التي تستند إلى القوة والبلطجة وإدارة الظهر لكل القوانين الدولية والإنسانية.
أما الرسالة الأخرى التي أرادت إسرائيل إرسالها، فكانت موجهة إلى كل الذين يمكن ان يفكروا في المستقبل بإرسال المزيد من سفن التضامن إلى القطاع، والى كل من يمكن ان يفكر بالقدوم الى القطاع وان حياته سوف تكون في خطر شديد.
ربما استطاعت إسرائيل ان ترسل تلك الرسائل، لكن المهم ليس هو في إرسال الرسائل، الحقيقة ان ما هو مهم في ان هذه الرسائل قد وصلت أم لا، ومن الواضح ان العديد من تلك الرسائل لم تصل بالطريقة التي أرادتها إسرائيل، وقد كانت النتيجة بعكس ما توقعته دولة الاغتصاب، حيث ان جل تلك الرسائل أتت بنتيجة معكوسة لرغباتها، حيث لم يكن من المقنع لأي كان ان تقوم دولة الاحتلال بمجزرة واضحة وفي المياه الدولية البعيدة كل البعد عن إسرائيل.
بعد ان ارتكبت مجزرتها، فان دولة الاحتلال لم تحقق ما أرادت، فهي لم ولن تثن النشطاء في العالم عن الإعلان عن البدء بتجهيز سفن جديدة، وهي خسرت بكل تأكيد علاقتها مع الدولة التركية، كما انها بدت دولة خارجة عن القانون، تقودها مجموعة من شذاذ الآفاق والعصابات التي أدمنت القتل والإرهاب، وهي تتعرض لانتقادات غير مسبوقة في دول كانت لا تجرؤ على مجرد انتقاد سياستها، ويتم النظر إليها بعد هذه الجريمة بالخصوص بأنها ذهبت أكثر من اللازم في استهتارها بالعالم، كما ان قبح وجهها بدا أكثر عريا مما كان حتى بعد الحرب على غزة، برغم الأعداد الكبيرة من الضحايا التي سقطت في تلك الحرب، وهي تفقد الكثير ممن أيدوها تاريخيا ولا تستطيع ان تدافع عن نفسها أمام غضب العالم.
إسرائيل بجريمتها الجديدة أضافت إلى رصيد القضية الفلسطينية ما لم يكن ممكنا على مدار عشر سنوات قادمة، خاصة في ظل حالة انقسام بائسة تسود الساحة الفلسطينية، وهي قدمت وخدمت القضية الفلسطينية بشكل كبير من خلال جريمتها النكراء، ان الشهداء والجرحى الذين سقطوا في المجزرة الغادرة وبرغم عدم وصول المساعدات، استطاعوا بدمائهم ان يقدموا للقضية ما هو أكثر من تقديم المساعدات العينية لأبناء القطاع، وبالتالي فإنهم وبرغم موتهم أو جراحهم، استطاعوا ان يكونوا نعم السند للقضية التي قضوا من اجلها.
دولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة انكشف خداعها للعالم بهذه الجريمة، وما الدعوات التي تمت بقوة لاستقالة القاتل ايهود باراك إلا احد الأدلة التي تبين المأزق الذي وضعت إسرائيل نفسها به، وهي سوف تعاني على المستوى الدولي من المزيد من البغض والكراهية، وسوف تعلو الأصوات التي توجه الانتقادات للممارسات العدوانية التي ظلت تمارسها على مدار سنوات طويلة. تلك الأصوات التي صمتت في الماضي نتيجة التأثير والإرهاب الذي تمارسه جماعات الضغط اليهودية وسن قوانين تمنع على مواطني الدول الغربية من توجيه أي انتقاد لدولة الاحتلال وما تمثله من غطرسة القوة والقمع.
ما يجري في دولة الاغتصاب من "تخبط" ومحاولات الدفاع عن الجريمة أمام العالم، يدلل على مدى عمق المأزق الذي تعاني منه دولة الاحتلال، الجريمة التي تم ارتكابها كانت تاريخا فاصلا في الممارسات الإسرائيلية التي مورست على مدار العقود الماضية وهي ستكون لعنة جديدة على دولة الاغتصاب بعد لعنة الهزيمة في لبنان وفشلها في حربها على قطاع غزة. وهي لا بد باتت تعلم ان أساطيل المساندة للقطاع لن تتوقف.