لعبت تركيا مع العرب، خلال نصف قرن، ثلاثة أدوار . في خمسينات وستينات القرن الماضي، لعبت دور حليف الغرب ضد العرب . كانت عضواً رئيساً في حلف بغداد الممالىء لـ “إسرائيل” والمعادي لحركة التحرر العربية بقيادة جمال عبد الناصر . في ظل حلف بغداد تواطأت بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” على مصر وقامت بغزوها العام 1956 انتقاماً منها لتأميمها مرفق قناة السويس، فلم تحرك تركيا ساكناً . بعد الحرب ولغاية انهيار الاتحاد السوفييتي، ظلت تركيا تدور في فلك الغرب الأطلسي وتقيم مع “إسرائيل” علاقات سياسية وعسكرية واقتصادية قوية .
بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة بشخص نجم الدين أربكان ومن ثم رجب طيب أردوغان، انفتحت تركيا على العرب ولعبت دور الوسيط بين سوريا و”إسرائيل” في مفاوضات غير مباشرة .
إزاء ممانعة دول عدة انضمام تركيا إلى أوروبا، ضاعف أردوغان انفتاحه على العالم العربي والإسلامي، ونسج صلات مع فصائل المقاومة الفلسطينية، لاسيما مع حركة “حماس”، وعزز علاقاته السياسية والاقتصادية مع سوريا وارتقى بها إلى مستوى الشراكة الإقليمية، وشارك بفعالية في الترويج لشعار كسر الحصار على غزة، وساند حملة “أسطول الحرية لغزة” إلى حد الاصطدام مع “إسرائيل” سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً .
اليوم تلعب تركيا، بقيادة أردوغان، دور نصير الفلسطينيين والعرب، لاسيما في ما يتعلق برفع الحصار عن غزة، بل هي شفعت هذا المطلب المحق بمطلب آخر هو ضرورة رفع الحصار عن حركة “حماس” . ألم يعلن أردوغان أخيراً في خطبته بمدينة قونية “أن رجال حماس ليسوا إرهابيين، وأن حماس يجب أن تعطى فرصة للممارسة الحكم الديمقراطي”؟
أكثر من ذلك، دخل أردوغان على خط مصالحة “فتح” و”حماس” بقوله إن “حماس” أعطته تفويضاً بذلك وأنه ينتظر أن تمنحه “فتح” تفويضاً مماثلاً .
هذه المواقف جميعاً توحي بأن رئيس وزراء تركيا، ماضٍ في نهجه السياسي الإقليمي الذي يصبّ في مصلحة أكثرية الشعب العربي ولكن ليس، بالضرورة، في مصلحة أكثرية الحكومات العربية . ذلك أن حكومات عدة تصنّف نفسها بأنها “معتدلة” ولا تجاري أنقرة في كل مواقفها وتتحفظ ضمناً عن بعضها بسبب تعارضها مع سياسة الولايات المتحدة في المنطقة .
مهما يكن من أمر، فإن نهج أردوغان يتطلب توضيحاً، وذلك لتمييز أطروحاته عن أطروحات تحمل العناوين ذاتها ويرفعها سواه . لنأخذ مطلب رفع الحصار مثلاً . إنه لا يعني إزالة العقبات التي تحول دون وصول مواد الغذاء والدواء والبناء إلى قطاع غزة فحسب، بل يعني أيضاً إلغاء قرار حجز شعب غزة في سجن كبير هو القطاع نفسه . إنه يعني تحرير شعب غزة من كل وإجراءات الاحتلال “الإسرائيلي” التعسفية المتمثلة بالحصار البري والبحري والجوي الذي يصادر حرية الناس في جميع الميادين وعلى جميع المستويات .
إن اتضاح موقف تركيا على هذا النحو يلقي على العرب عموماً وملتزمي خيار المقاومة خصوصاً مسؤولية سياسية، بل ميدانية أيضاً، بألاّ يكونوا أقل التزاماً بنصرة فلسطين والفلسطينيين من تركيا والأتراك . إن موقفاً متهاوناً في هذا المجال لا يسيء إلى قضية فلسطين وحقوق الفلسطينيين فحسب بل يضرّ تركيا (وأردوغان) أيضاً .
كيف يمكن أن نتصرف، لا سمح الله، على نحوٍ يسيء إلى قضيتنا وإلى تركيا؟
أن نتهاون في مسألة رفع الحصار، فنقبل بأن يقتصر فتح المعابر على نقل مواد الغذاء والدواء والبناء ولا نصرّ على وجوب فك الحصار عن كامل القطاع وتحرير شعب غزة من السجن الكبير الذي وضع فيه منذ ثلاث سنوات .
أن نتهاون في مسألة إجراء تحقيق دولي في جريمة اعتداء “إسرائيل” بتاريخ 31/5/2010 على “أسطول الحرية لغزة” في المياه الدولية، فنرضى بتحقيق تجريه “إسرائيل” وحدها .
لعل أفضل ما يجب أن ندعو إليه، مداورةً، كي تقوم تركيا (وغيرها من الدول) باعتماده مباشرةً هو تنظيم أساطيل من السفن يمتلىء كل منها بمئات المتضامنين مع شعب غزة، يكونون مستعدين للاصطدام والعراك مع جنود البحر “الإسرائيليين” إذا ما حاول هؤلاء منعهم من الوصول إلى ميناء غزة . المطلوب حصول مقاومة غير مسلحة ولكن فعّالة للجنود “الإسرائيليين” بغية حصول حدث بل أحداث تصنع أخباراً وتجتذب انتباه ملايين البشر تحت كل كوكب .
وحبذا لو تقوم تركيا بإرسال بعضٍ من قطع أسطولها لمواكبة الأساطيل المتجهة إلى ميناء غزة في المياه الدولية إلى أن تصل بها إلى المياه الإقليمية الفلسطينية، وأن تدعو الأمم المتحدة لتقوم، بشكل أو بآخر، بتفتيش السفن وحمولاتها قبل تفريغها لتتأكد من أنها لا تحمل أسلحة أو معدات عسكرية .
إن أحداً لن يلوم تركيا إذا ما نفذ أسطولها البحري هذه المواكبة للأساطيل المدنية المتجهة إلى ميناء غزة لأن المواكبة تتم في المياه الدولية وهي من قبيل “المرور البريء” الذي يجيزه القانون الدولي، مع العلم أن “إسرائيل” خرقت هذا القانون باعتراضها “أسطول الحرية لغزة” في المياه الدولية، فلا يمكنها تحت أية ذريعة ان تعترض قيام تركيا بممارسة حقها وفق أحكام القانون الدولي .
ولا خوف من نشوب صدام بين أسطولي تركيا و”إسرائيل” في أعالي البحار أو في المياه الإقليمية الفلسطينية لأن لتركيا الوزن السياسي والقدرة الردعية الكافية لإحباط أي تفكير “إسرائيلي” جنوني من هذا القبيل، ولأن أمريكا، أم “إسرائيل”، لن تسمح لابنتها المدللة بأن تزجها في ورطة كهذه، مهما استبد بها الدلال و . . . الجنون .