الرئيسية المقالات مدارات الاستبداديون ولوح التاريخ الاسود !!
الاستبداديون ولوح التاريخ الاسود !!
محمد عبد الوهاب الشيباني
محمد عبد الوهاب الشيباني

الديكتاتوريات العسكرية الدينية بمثقفيها العبيد، وعلى مدى سبعة عقود، ظلوا عاجزين تماما عن فهم أن التاريخ وحركته الجدلية ليس لوح أسود، يستطيعون "بوهمهم"محو ماكُتبه الاخرون عليه،ليكتبوا بدلا عنه تاريخهما لتجليلي، المنطوي على تكريس صورة "القائد الضرورة" و"قدسية العائلة".

تاريخ الاستبداد المدون بأقلام المنتصر وكتبته البائسين، تاريخ مزيف يتعرى امام حفريات المعرفة واستكشافات الوعي ،القادر على اعادة تجسيم الصورة المهتوكة لـ "القائد الضرورة" ،بوصفه موهبة لإنتاج الاستبداد ليس الا، وان تسويق صورة "العائلة المقدسة"من بوابة الوطنية والاستقلال والاصطفاء، ليس اكثر من فعل تهريجي فاضح، لا يصمد امام النقد الواعي، الذي يتحول بمرور الوقت وتراكماته، الى الخطوة الاولى في طريق الحرية الطويل والشاق.

في اليمن ،على سبيل المثال،لم يتبق من تاريخ الاستبداد والانغلاق الطويل(1918ـ1962)،غير صورة الحاكم المستبد المتعالي الشحيح، الذي لم ير البحر يوما والذي رفض " حين ضربت البلاد احدى المجاعات مطلع اربعينيات القرن الماضي واكل الناس الشجر و الحيوانات النافقة والقطط والكلاب فتح مدافن الحبوب للجوعى، معتبرا كل ميت جوع شهيد، وكل ناج منه عتيق حسب مقولته ذائعة الصيت.

او ابنه المهوس بالدم، الذي ظن بقدرته على اخضاع الجميع لمشيئته، فكرس في اذهان العامة انه الظل الفاعل في الارض ،وكل شيء يمشي وفق ارادة تربطه بالسماء، فاعمل السيف في رقاب المعارضين السياسيين والمتنورين، حتى لاتهب انسام الحرية على البلد الفقير، فهبت رياح الثورة العاتية التي اجتثت حكم السلالة.

وما الذي تبقى من "ثلث قرن " الحاكم الفرد (1978ـ 2011) ؟!الذي ظل مهجوسا بالتأبيد والخلود، فشيد الاجهزة والحرس لحمايته، لا لحماية البلاد ومواطنيها.الحاكم الذي استثمر في التجهيل والتعصب والتطرف وبيع التراب،فأوصل البلاد الى النفق المظلم .لهذا حينما تعرى بعد عصف 2011بانقسام نظامه،كرس كل ادواته وامكاناته ومهاراته الشيطانية للانتقام من الجميع، فادخل البلاد في ورطة الدم والتذرر ،لأنه لم يكن يوما ابنا لمشروع الوطن او منشغلا به ولأجله ، قدر انشغاله بمشروع العائلة ،وتوريثها المجال العام للبلاد ،اقتصادا وامنا وجيش.

ماالذي تبقى من سيرة الاحزاب الدينية وشيوخها الافاكين، الخارجين من عباءة السلطة والسياسة ؟! غير صورة المتاجرة البشعة بالدين،وتحويله من دين عبادات وتسامح، وتمرد على الظلم والخرافة، الى ادوات قهر وتطرف، وافساد اقتصادي، يبرر للحاكم ومتنفذيه افعالهم الفاسدة، للتغطية على فساد رموزه، من المشائخ القبليين والدينيين والقادة العسكريين وفقهاء السياسة الذين كانوا جزء اصيل من بنية النظام وفساده.

والان ما الذي سيتبقى من سيرة المستبدين الجدد ومسيرتهم !؟الذي سيتبقى انهم سيختزلون الصور الثلاث البائسة في انموذج واحد.

فهم بحكم تعصبهم السلالي، يعيدون احياء الامامة كسلطة تسري في حياة الناس، وينتجون صورة الامام الشحيح الذي امات الناس جوعاً ومخازنه ملاء بالحبوب،او ابنه الذي قهر معارضيه واطفا صوتهم بالتغييب والتشريد .

ويعيدون انتاج سلوك الحاكم الذي استثمر في التجهيل والتعصب،لإنتاج محاربين عميان لحماية العائلة المقدسة ومصالحها التي بدأت تتعاظم بفعل سلطة الامر الواقع عوضا عن دمج هؤلاء المحاربينفي المجتمع كأبناء منتجين، تشغر وقتهم الحقول والمصانع والجامعات، و لا تقصف اعمارهم الجبهات، وتتعطر جثثهم بالبارود.

واخيرا يعيدون انتاج صورة الاستبداد للحزب الديني ،بتحويل الصراع على السلطة الى صراع بين فئتين "ناجية وباغية"،وتحويل الكثير من قادة المسيرة والمزاودين باسمها الى شبكة فاعلة من النافذين ،الذين استطاعوا خلال فترة الحرب انتاج افتصاد ظل، يكبر ويتقوى من المتاجرة بمواد الاغاثة والمشتقات وسوق العملة وتبييض الاموال واستقطاعات المجهود الحربي وتبرعات دعم البنك الى آخر المسميات.

صورة الاستبداد واحدة، حتى وهي تشتغل على تنويعات الخطاب وادواته، واستحضاراته التاريخية، لأنها في خلاصتها"سلطة" تستخدم كل ما تستطيع في سبيل ديمومتها في حياة الناس. وتحاول في كل منعطف تاريخي ،وفي سبيل اكساب نفسها شرعية ما، التعامل مع التاريخ بوصفه لوحاسود يمكن الكتابة عليه، بعد محو ما كتبه الاخرون . غير ان التاريخ بمكره،وحفرياته في الوعي، له اقوالاخرى ومشيئة خاصة في التدوين، القادرة ان تقول لهؤلاء:

 لستم انتم سوى استبداديين عابرين، في حياة هذا الشعب المنكوب.

إقراء أيضا