الرئيسية المقالات مدارات الرحيل المباغت
الرحيل المباغت
عبد الباري طاهر
عبد الباري طاهر

في أزمنة الحزن المتسلسلة والمتناسلة نُباغتُ برحيل رفيق عزيز ومناضل مخلص وصادق، إنه المهندس والمفكر والعالم الذي يعمل أكثر مما يتكلم، إنه الأستاذ الجليل المهندس القاضي محمد عبد الوهاب الخراساني.

حياة "القاضي" الاسم الذي يحب رفاقه وأصدقاؤه تلقيبه أو تسميته به حياة علم وعمل.

منذ الطفولة في ستينيات القرن الماضي غادر قرى تعز باكرا؛ ليتعلم في عدن والقاهرة التي أخذ منها الثانوية العامة. ذهب في منحة إلى المجر، وصولا إلى نيل الدكتوراه، كان مخلصا للدراسة والبحث والالتزام الحزبي، حركة القوميين العرب أولا، ثم اتحاد الشعب الديمقراطي (التيار الماركسي في الحركة الوطنية اليمنية). خلال بضعة أعوام كان الطالب المجد والمجتهد نجما في سماء الشباب والطلاب في أوربا الشرقية كلها، مَثَّل شبيبة السلفي (الشبيبة الديمقراطية فيما بعد)، وكان سفير اليمن شمالا وجنوبا، يدأب على حل مشاكل زملائه الطلاب والوافدين، ويتواصل بدأب ومثابرة على الحركات السياسية والفكرية، ويقوم بالتنسيق بين مختلف الأنشطة التي يحتاجها أو يقوم بها الشباب، ويلعب أدوارا رائعة في حوارات الشباب؛ مبتعدا عن الصراعات الزائفة والبائسة؛ مما أهله لأن يكون محل حب واحترام بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية والحزبية .

بعد التخرج منتصف الثمانينات انخرط في ممارسة تخصصه كمهنس زراعي. أتذكر عمله في مزرعة قريبه في باجل؛ فخلال زمن قياسي جعل من هذه المزرعة أنموذجا للمزارع في تهامة كلها، ووصلت ثمارها وخيراتها إلى العديد من مناطق اليمن والسعودية.

إخلاص ودأب القاضي هو سر نجاح هذا المناضل المتواضع الذي يحترق كالشمعة ليضيء كل ما حوله للآخرين.

اكتسب ود واحترام فلاحي المنطقة في باجل ووادي سردد، ونسج علاقات مائزة مع العديد من عمال مصنع الإسمنت .

كان الضمير المستتر في الحزب الاشتراكي. ورغم ملاحظاته وانتقاداته الكاثرة لنهج وممارسات بعض القيادات الحزبية إلا أنه ظل وفيا أمينا وصادقا للانتماء اليساري. أفنى زهرة شبابه وعمره في نفع الآخرين والدفاع عن القضية الوطنية التي أخلص لها. عاش حياة الكفاح والزهد مبتعدا عن إغراء الوجاهات والظهور أو التطلع إلى المناصب والمال.

القاضي مثال للطهر الثوري والصدق الإنساني التي دعت إليه الفلسفات العظيمة والفكر الإنساني والجوانب المضيئة في القيم الإنسانية والإرث البشري المجيد .

انخرط الزاهد العظيم والمناضل اليساري في النزول الميداني للشباب من أول يوم؛ رافعا معهم وبهم شعار: " الشعب يريد إسقاط النظام". مرددا بصوته الوقور: " إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلابد أن يستجيب القدر ".وذلك ما كان يدعو إليه القاضي سرا وعلانية .

اكتسب ثقة الشباب الثائر فالتفوا من حوله. تحولت شقته المستأجرة في الزقاق المتفرع من شارع العدل إلى ساحة وميدان احتجاج، وغرفة عمليات للساحة الكبرى في الستين.

تقاطرنا جميعا إلى غرفة عمليات المهندس الذي كرس شقته وعائلته لخدمة الساحة، وإنجاح الثورة، وعلى حسابه ودخله المحدود وبجهود أبنائه كان يطبع المنشورات، ويعد البيانات، ويوثق للعمل الثوري العظيم .

الفقيد المناضل الكبير ضمير مستتر في الحزب الاشتراكي، ومستتر أيضا في ثورة الربيع العربي في اليمن.

لم يكن في حياته كلها من دعاة العنف الثوري، وكان أكثر انتقاداته للجملة الثورية الفارغة.

ابتعد عن الزحام على اقتسام فتات الوظائف والشهرة الكاذبة.

في ظل صمت مطبق غدر السرطان بجسد أحد رموز ثورة الربيع العربي في اليمن، كما غدر سرطان الثورة المضادة بالثورة نفسها، ورحل بغتة كرحيل ثورة الربيع العربي .

(أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ). ( الرعد :17).

سيل الثورة المضادة يرمي الآن بجفائه في الأرض اليمنية كلها شمالا وجنوبا، وهي- أي الثورة المضادة- الآن في صدارة الحروب على اقتسام الفيد والغنائم وفتات موائد أعداء الشعب اليمني والأمة العربية كلها وربيعة العربي .

أما أنت يا محمد أيها الماشي على الأرض هونا؛ فلك الخلود ولثورة شعبك الشعبية السلمية: الانتصار، والتجدد، والخلود.

إقراء أيضا