الرئيسية المقالات مدارات ويكيليكس: البريسترويكا الأميريكية
ويكيليكس: البريسترويكا الأميريكية
عبد الباسط الحبيشي
عبد الباسط الحبيشي

من منا لا يتذكر سياسة البريسترويكا والجلاسنوست (إعادة البناء والشفافية) التي تبناها الرئيس السابق ميخائيل جورباتشوف قبل إنهيار الإتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي والتي أدت إلى هدم جدار برلين وإنهيار المنظومة الإشتراكية؟

لكن هذا الأمر لم يحل المشكلة ، ولم تنته الحرب الكونية بعد نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي السابق ، بل أندلعت حروب أخرى عديدة ومازالت أسوار كثيرة عتيدة ينبغي هدمها ، وتحديات كبيرة لابد للأنسانية الإنتصار عليها إذا كانت بغيتها أمن وإستقرار العالم. وكما جاء في مقال بعنوان "أسوار أخرى لم تسقط بعد" لرئيس الإتحاد السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف في شهر نوفمبر من السنة الماضية أنقله بالنص وبالحرف الواحد:

(الأمر لا يقتصر على سور واحد لابد وأن يسقط ، بل هناك العديد من الأسوار. فهناك سور بين الدول الصناعية وتلك التي لا تريد أن يعوقها شيء عن تنمية اقتصادها. وهناك سور بين البلدان التي تسببت في تغير المناخ والبلدان التي تعاني الآن من العواقب. وهناك سور بين هؤلاء الذين يصغون إلى الأدلة العلمية وأولئك الذين يعملون كقوادين لأصحاب المصالح الخاصة. وهناك سور بين المواطنين الحريصين على تغيير سلوكياتهم والراغبين في عمل عالمي قوي، وبين القادة والزعماء الذين خذلوهم حتى الآن. 

لقد شهد عام 1989 تغيرات هائلة كانت تُـعَد قبل سنوات فقط في حكم المستحيل. ولكن ما حدث في ذلك العام لم يكن من قبيل المصادفة. إذ أن تلك التغيرات كانت متوافقة مع آمال وطموحات الشعوب في ذلك الوقت، فاستجاب القادة والزعماء لها. لقد أسقطنا سور برلين ونحن على اقتناع تام بأن الأجيال القادمة سوف تكون قادرة على مواجهة التحديات. واليوم حين أنظر إلى الهوة الغائرة بين الأغنياء والفقراء ، وانعدام الشعور بالمسؤولية الذي قادنا إلى الأزمة المالية، والاستجابات الضعيفة والمنقسمة في مواجهة تغير المناخ ، فإنني أشعر بغصة مريرة في حلقي. فقد أصبحنا على وشك إهدار الفرصة السانحة لبناء عالم أكثر أمناً وعدلاً واتحاداً. ولا أملك الآن إلا أن أتذكر الطلب الذي وجهه إليّ صديقي وشريكي الراحل الرئيس رونالد ريجان حين قال لي: "اهدموا ذلك السور". وأنا اليوم أوجه نفس الكلمة إلى السيد أوباما ، والسيد هو جين تاو ، والسيد مانموهان سينغ ، وفي برلين السيدة ميركيل ونظرائها الأوروبيين: "اهدموا ذلك السور، فهذه هي لحظتكم الحاسمة، ولا يجوز لكم أن تسدوا آذانكم كي لا يصل نداء التاريخ إلى أسماعكم) أنتهى النص.

مايحدث اليوم من تسريبات لمئات الآلاف من الوثائق السرية الأمريكية والتي قد تصل إلى ملايين من الوثائق في القريب ، لا يمكن بأي حال أن يكون عملاً فردياُ ، كما لا يمكن أن يكون أيضاً عملاً إعتباطياً أو طائشاً بل لا شك أنه عمل جماعي ومنظم من قبل جماعات تنسق مع بعضها بشكل محكم ولها علاقات في الدوائر الخاصة بصناعة القرار الدولي المعارضة لظروف وأحوال العالم اليوم ومن الصعب إيقافها.

صحيح أن التسريبات لم تظهر شئياً جديداً حتى الآن لكنها تؤكد على وقائع وحقائق يعرفها كثير من الناس ، وهذه الحقائق حدثت بالفعل بغض النظر عن أسباب أو أوقات حدوثها سواءاً أكانت سياسية أم غيرها ، مقصودة أم غير مقصودة ، مغرضة أم مدسوسة ، المهم أنها حدثت في إطار سياق عام ممنهج من الممارسات العملية في العلاقات الدولية.

الجميع يعرف بأن هناك صراعات سياسية محتدمة تدور رحاها في أروقة المؤسسات الدولية الإقتصادية الكبرى ، وهناك صراعات سياسية أميريكية ـ أميريكية ربما تكون قد وصلت إلى ذروتها بين طرفين رئيسيين في الحكم بالولايات المتحدة الأميريكية: القوى اليمينية المتطرفة التي تمثل وتملك كبرى المؤسسات الرأسمالية العابرة للقارات من جهة وقوى التغيير التي تم أحباطها لاسيما بعد فوز الحزب الجمهوري في الإنتخابات النصفية الأخيرة للكونجرس مما من شأنه التعطيل لأي تقدم في سياسيات أوباما الإصلاحية ، التي لم يُسمح لها أن تصلح شيئاً.

السياسة الخارجية الأميريكية المعروفة بإزدواجية معاييرها هي الهدف هذه المرة من حملة التسريبات للوثائق السرية وليس القادة والزعماء العرب بشكل أساسي أو غيرهم كما يذهب البعض رغم أنهم جزء من المشكلة الدولية وأساس المشكلة العربية والإسلامية. الهدف من حملة التسريبات؛ هي الإزدواجية بين الإعلانات الوهمية في نشر الديموقراطية والتعاطي مع الديكتاتوريات المتسلطة في آن واحد ، الهدف من هذه التسريبات هي الإزدواجية بين إفتعال سياسة الشفافية وممارسة التعتيم الفعلي والإحتفاظ بالملفات السرية الخاصة بعمليات القرصنة الدولية بأنواعها ، والهدف من هذه التسريبات هي إزدواجية الكذب بالتبشير بنشر العدل والمساواة بين الناس وبإسمها ممارسة سياسات قمع الحريات والظلم والتعذيب اللاإخلاقي واللاإنساني والقتل الفردي والجماعي خارج القانون وتشجيع الإرهاب المنظم والفساد المنظم الدوليين ضد الأغلبية العظمى من البشر.

هذه هي في إعتقادي ما تهدف إليها تسريبات ويكيليكس ؛ إزالة الأقنعة التي يختفي خلفها جميع المتدثرين بألبسة الإنفتاح والشفافية والقانون الدولي والإنساني لبسط سطوتهم. ينظر البعض إلى تسريبات ويكيليس بانها مقدمات لثورة عالمية يقوم بها المدافعون عن الحقوق الإنسانية بشموليتها ضد قلة من الذين يسعون إلى السيطرة على العالم وثرواته. فهل ستهدم هذه التسريبات بقية الجدران الرابضة بوجه إنعتاق الإنسانية وحريتها وتكون بمثابة النسخة الأمريكية لثورة البريسترويكا السوفيتية ومكملةً لها لتقوم قوى إخلاقية جديدة تعترف بسيادة وحق الإنسان في الحياة والعيش بكرامه؟ ...وإن غداً لناظره قريب.  [email protected]

إقراء أيضا