الرئيسية المقالات مدارات وعد الربيع الآتي
وعد الربيع الآتي
عبد الباري طاهر
عبد الباري طاهر

أسس صالح و«المؤتمر الشعبي العام» ميدان السبعين في مواجهة ميدان الستين. ميدان الستين كان يومها 11 فبراير 2011، الميدان الذي انطلق منه الإحتجاج المدني السلمي في ثورة الربيع العربي. يومها، احتكر صالح ميدان التحرير تاركاً إياه لـ«البلاطجة»، ولكن الإعتماد الحقيقي كان على ميدان السبعين.

شباب الثورة وشاباتها كان رهانهم الأساس على الاحتجاج المدني السلمي، بينما كانت قيادات الأحزاب الكبيرة ومحازبوهم رهانهم الأساس على القوة، خصوصاً بعد انشقاق رجل صالح في كل الحروب، علي محسن، ونزوله إلى ميدان الستين لـ«حماية الثورة»!. بعدها أصبحت المواجهة ذات طابع عسكري ومواجهات دامية، وقسمت صنعاء إلى ميدانين لهما طابع عسكري، وهي بداية الإنحراف في الاحتجاج المدني السلمي (ثورة الربيع العربي في اليمن)، والعودة إلى مسيرة الحروب والعنف والدماء. وتشارك «الإصلاح» و«المؤتمر الشعبي العام» في جريرة العودة باليمن إلى حكم الغلبة، وفي أحسن الأحوال الإقتسام، وحسب المثل القبلي: «جِيْد يسلم جِيْد»، وبالتالي اقتسام الحكم «قسمة أخوة»، وهو ما حصل في حكومة «الوفاق» بمباركة مبادرة التعاون الخليجي التي منحت صالح الحصانة، وأعادت إنتاج النظام، واشتركت كل أحزاب «المشترك» في اللعبة.

أُبقي التوافق على اللعبة السياسية، وجرى تأسيس الحوار الوطني الشامل، ومُثلت فيه كل الأطراف السياسية والشباب والمرأة، وجرى سن مشروع دستور من أرقى دساتير العالم. جاء انقلاب صالح و«أنصار الله» ليس ضد «الوفاق» فحسب، وإنما ضد اللعبة السياسية برمتها، وأساساً ضد ثورة الربيع العربي التي أطاحت بـ«الزعيم». ومن جديد يسود حكم القوة العريانة، وتفرض الحرب على اليمن كلها.

بعد ثلاثة أعوام من الحرب، وحرب داخلية طرفاها: «المؤتمر الشعبي العام» بجيشه وأمنه وولاءاته القبلية والحزبية إلى جانب مليشيات «أنصار الله»، وفي الجانب الآخر «التجمع اليمني للإصلاح» والموالون للرئيس عبد ربه منصور هادي إلى جانب التحالف العشري وركنيه الأساسيين: العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، استطاعت قوات الحراك في الجنوب مسنودة بالقوات الإماراتية المكونة من قوات سودانية وقوات أخرى دحر قوات صالح و«أنصار الله» التي اجتاحت الجنوب كالإعصار، ليقذفها الجنوب في مدى زمني قصير بسبب الرفض الشعبي لها في كل محافظات الجنوب. أما في الشمال، فقد أطبقت حصاراً جائراً ضداً على تعز، وتواجه مقاومة في غير منطقة، في حين يسيطر «التجمع اليمني للإصلاح» عبر تحالفاته القبلية المدعومة بالسعودية على مأرب ومناطق عديدة في الجوف وبعض أرياف صنعاء.

الحرب حالة مد وجزر، ولا يمكن لأي طرف من الأطراف أن يحقق نصراً حاسماً حتى لو تحقق تفوق عسكري هنا أو هناك. الحل السياسي هو الحل الوحيد والممكن، وهو ما لا تريده كل الأطراف المتحاربة رغم تزايد شعورها بالعجز. والأطراف الخارجية الآن هي التي تمسك بالأوراق، والأطراف الداخلية يضعف دورها باطراد، وترتهن أكثر فأكثر للأطراف الخارجية التي تعمد إلى مزيد من تفكيك الداخل الضعيف والهش والمطحون بالمجاعة التي تطال أكثر من 80% من السكان، وأكثر من مليون طفل جائع، وتصيب الكوليرا حتى اليوم - بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية - نصف مليون شخص، يبلغ القتلى منهم ألفين، والمصابون يومياً خمسة آلاف، وتمثل اليمن اليوم أسوأ بلد في العديد من مجالات الحياة. هناك الآن حالة تململ في الداخل اليمني المدمر بالحرب، والمنكوب بكوارث المجاعة والأزمات العامة والأوبئة الفتاكة. لا تزال خلافات الشمال والجنوب حاضرة وبقوة بسبب عدم احترام إرادة الجنوبيين في تقرير مصيرهم

دعوة صالح للنزول للسبعين توجه رسائل لأكثر من اتجاه. ربما أنه الأكثر استشعاراً للمأزق الذي قاد نفسه وحزبه وشعبه إليه؛ فهو بدافع الإنتقام والثأر سلم رأسه وحزبه والبلد للمليشيات، وجر الوطن إلى الحرب، ويحاول الآن الخروج بعد أن طالته الكارثة. هل يتساوق النزول مع جهود داخلية وخارجية للأطراف المختلفة؟ وهل يستشعر الجميع الحالة العامة التي وصل إليها بلد مهدد بالانهيار الشامل؟ ندرك أن إحساس هؤلاء المتقاتلين غير سوي، وأن ضمائرهم مسكونة بالعدوان والاستعلاء، ولكن المؤمل فقط أن يكونوا قد بدأوا يدركون الدمار الذي يلحقونه ببلدانهم وشعوب أمتهم وأمنهم، وسيطالهم حتماً، فالمنطقة كلها وحكامها في مهب الريح!

إنطفاء نيران الحرب في الوطن العربي والجنوح للسلم قوي. بتفكيك حلقات الحرب الجهنمية نلحظ أن الشرعية هي الحلقة الأضعف (الضحية الأولى)، وتكون الحلقات الأخرى الداخلية والخارجية جلادين وضحايا في آن. نزول السبعين يتزامن مع رفض عام للحرب حتى داخل قيادات «المؤتمر الشعبي العام» سواء من هم في الداخل أو الخارج. التململ واستشعار الخطورة المحيقة قد أفزعت الجميع بما في ذلك النواب «شبه الأموات»، والنخب البعيدة عن المعركة وقادة الحروب الأشاوس. هناك تكتل حزبي يضم «الناصري» و«الاشتراكي» و«البعث» و«العدالة والبناء»، وهو تكتل يضم الأحزاب التي تنوس بين دعوات السلام ورفض الحرب، وبين دعاة السلام وقادة الحرب، وهي الأكثر استشعاراً لخطورة الأوضاع؛ لطبيعتها المدنية، واقترابها من المزاج الشعبي العام.

وتمايز مواقف دعاة السلام والضالعين في الحرب خطوة أولى ضرورية ومهمة، فهل تمتد لتشمل العديد من مؤسسات المجتمع المدني والشباب والمرأة (عماد الثورة الشعبية السلمية)، وأن تتسع للشخصيات العامة ولكل الرافضين قولاً وفعلاً للحرب من كل الإتجاهات بدون استثناء، ولدعاة السلام في مختلف مناطق اليمن على كثرتهم؟ دعوات للتحاور ما بين «المؤتمر» و«الإصلاح»، وبين «الإصلاح» و«أنصار الله» أطراف الحرب، وهي دعوات لا تزال ضعيفة وخافتة، ولكنها مهمة جداً، وتعبر عن موقف صائب، ويقظة ضمير، وينبغي أن تشجع وتسهم في تقارب مواقف «المؤتمر الشعبي» في الداخل والخارج، وممثلي مجلس النواب الموزع بين صالح والشرعية؛ فتقارب «الإصلاح» و«المؤتمر» و«أنصار الله»، كقوى يمنية تتصارع على حكم يمن مهدد بالانهيار، مهم، والمؤمل أن تضغط قواعد هذه الأحزاب والقادة لإدراك خطورة الأوضاع في بلدهم ومحيطهم للعودة للسلام والاحتكام للحوار والتصالح، والتخلي وإلى الأبد عن نهج الغلبة والقوة، وأن يدركوا أن القوى الإقليمية الوارطة في الحرب لا تريد الخير لهم أو لبلدهم.

في الجنوب، يبدو أن الأوضاع ما تزال متعثرة، فرغم كسر قوات صالح ومليشيات «أنصار الله» إلا أن التيارات السلفية المتشددة هي التي تتسيد المشهد، مصادِرة الحريات العامة والديمقراطية في مدينة كعدن، عرفت التنوع والتعدد في الأعراق والأديان والملل والنحل قبل الجزيرة كلها، ونشرت حرية التعبير والاستنارة في المنطقة، ومثلت عبر عقود عديدة مدينة الحرية والتفتح والتسامح. هذه المدينة يجري فيها قمع الحريات، واغتيال الشباب الداعي للحرية والتسامح، واعتقالات كيفية، ونشر الكراهية والتعصب والمناطقية البغيضة بين أبناء الوطن الواحد، وتتشارك في هذه الأساليب القمعية قوى عديدة مدعومة بالحراك المسلح وقوات الإمارات المسنودة من الأمريكان.

لا تزال خلافات الشمال والجنوب حاضرة وبقوة بسبب عدم احترام إرادة الجنوبيين في تقرير مصيرهم، ومزاج الإنفصال لدى البعض، والمهم إيجاد مصالحة وطنية ومجتمعية في الجنوب وبين الجنوب والشمال. وقضية القضايا أنه لا يمكن حل قضية الجنوب بمعزل عن الشمال، والعكس صحيح؛ فقضايا اليمن شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً متداخلة ومترابطة، ولكن الحل لن يكون بعودة الفرع إلى الأصل، وإنما باحترام إرادة الجنوب في تقرير مصيره، والتشارك بندية وعلى قدم المساواة، وإعادة الإعتبار له، واحترام إرادة أبنائه.

خلافات دول مجلس التعاون الخليجي قد تسهم في تعقيد الأمور أكثر، وقد تسهم في نقل خلافاتها إلى اليمن المفكك والقابل للمزيد من التفكك إذا ما استمرت الحرب. فالتفكك سمة عامة ومشتركة في اليمن وشبه الجزيرة والمنطقة العربية كلها.

لا شك أن الرهان الحقيقي في المنطقة العربية كلها لا يزال قائماً على الاحتجاج المدني (ثورة الربيع العربي)، وهي الآن مضمرة، وفي حالة كمون، ولكنها كما يقول الشاعر العظيم البردوني:

تحت الرماد شرارة مشبوبة... ومن الشرارة شعلة وتوقد

هل تندلع الشرارة في فلسطين؟ هل تندلع في بلد عربي ما؛ لتغمر الأمة العربية كلها من الماء إلى الماء؟

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي