الرئيسية المقالات مدارات مقطع من المشهد اليمني
مقطع من المشهد اليمني
نبيل البكيري
نبيل البكيري

دعيت أخيرا لإلقاء محاضرة عن الثقافة اليمنية أمام اتحاد الطلاب اليمنيين في تركيا، ضمن أحد أنشطته الثقافية والفكرية، في هذا الصيف، وهالني حجم الحضور الكبير للشباب اليمني في تركيا التي تعد واحدة من الجهات المفضلة والمسهلة للطلاب اليمنيين الجامعيين في الخارج، وذهلت، في الوقت نفسه، من حجم "الأمية" الثقافي التي يعانيها الشباب اليمني اليوم، على الرغم من طبيعة اليمني المسيس والمثقف معا.
صحيحٌ أن المؤتمر الذي انتظمت المحاضرة ضمنه كان ثقافيا بحتا، إلا أن مضمونه كان ضبابيا في عناوينه ومحاوره، ويخلط الثقافة بالتنمية البشرية بكيفية غير منطقية، ما عكس حالة توهان حقيقية يعانيها الشباب اليمني اليوم، ما ينعكس على جوانب حياتية له، مقارنة بالأجيال السابقة من اليمنيين الذين قدموا الكثير ثقافيا وعلميا وفكريا، وكانت المهاجر الأفريقية والآسيوية والعربية، والتي أسهمت نخبها اليمنية المهاجرة في مسيرات النضال الوطني والتحرير من الكهنوت والاستعمار في منتصف القرن الماضي. أما اليوم، فعلى الرغم من أعداد اليمنيين الكبيرة في الخارج، طلابا ونخبا ومثقفين، إلا أن نتاجهم الثقافي أقل بكثير من المطلوب منهم في هذه المرحلة، على الرغم من توفر المعرفة وشيوعها وإتاحتها للجميع، فما الذي أصاب هذه النخب، وما الذي اعترى الثقافة والمثقف اليمني، وكيف يمكن الخروج من هذا المأزق، وحالة الجمود الثقافي القاتل الذي يعانيه المشهد الثقافي، اليمني خصوصا، والعربي عموما
لا يختلف المشهد الثقافي اليمني كثيرا عن المشهد الثقافي العربي ككل، باعتبار المشتركات اللغوية والثقافية والفكرية والاجتماعية والتاريخية والدينية والسياسية أيضاً التي تربط بينهما. ومع ذلك، لكل مشهد خصوصيته المحلية، الناتجة عن ظروفه وبيئته الخاصة. ومن ثم، ربما يميز المشهد الثقافي اليمني عن غيره خصوصيته، وهذا ما تمثل في المعارك الفكرية والثقافية التي عاشها اليمن، منذ أبو محمد الحسن الهمداني مرورا بنشوان بن سعيد الحميري والمقبلي والجلال والمطرفية، فضلا عن جهود الدولة الرسولية العلمية والكبيرة التي فاقت كثيرا من
مثيلاتها ثقافيا، وليس انتهاءً بأعلام الفكر والثقافة الذين تحمّلوا على عاتقهم التنوير الفكري والثقافي الذي انبثقت منه ثورات اليمنيين طوال العقود والقرون الماضية، وفي مقدمتهم أعلام مدرسة الحكمة وروادها، ومدرسة المهجر وفي صدارتهم الشيخ عبد الله علي الحكيمي غربا، وعلي أحمد باكثير شرقا ومحمد عبد الولي وغيرهم. ومسار الثقافة اليمنية قديما وحديثا يتجلى فيها السياسي كثيراً، بحكم العلاقة الجدلية بين الثقافي والسياسي. ولهذا كان كتاب "الإكليل" للهمداني يمنيا بمثابة مقدمة ابن خلدون في التاريخ والاجتماع، لما مثّله من تدشين لمرحلة نقاش فكري وثقافي وسياسي كبير، مؤشّرا إلى حجم الصراع الثقافي اليمني حينها والمستمر.
هذا النقاش الثقافي في اليمن، بجوانبه الأدبية والفكرية والمذهبية والاجتماعية، كلها كان يسهم في مسار الثقافه والفكر، ويعمل على إثراء البيئة الثقافية بكل ما هي عليه من جدل ونقاش وصراع، يصل إلى حد الصراع المسلح. ومن هنا، التداخل بين السياسي والثقافي بحيث لا يمكن بأي حال الفصل بينهما، وهذا ما تجلى في كل أعمال الكبار وكتاباتهم شعرا ونثرا، فالمتأمل لكتابات عبد الله البردوني مثلا يجد هذا التداخل الكبير، وعدم الفصل بين ما هو ثقافي وما هو سياسي، وتجلى ذلك في كتبه "اليمن الجمهوري" و"أشتات" و"الثقافة والثورة في اليمن"، وكل دواوين شعره، وكذلك كتابات مطهر بن علي الأرياني شعرا ونثرا. ومثل تجليات البردوني، وتداخلات الثقافي بالسياسي بالأدبي، تجده في أهم مؤلفات القاضي إسماعيل بن علي الأكوع، وسفره العظيم "هجر العلم ومعاقله في اليمن"، والذي يعد من أهم الكتب المؤلفة في تاريخ اليمن، بعد "الإكليل" للهمداني الذي استغرق تأليفه 25 عاما، دوّن فيه كل ما له علاقة بالتأريخ الثقافي لليمن، فقد تجلى في كتاب الأكوع كل ما له علاقة باعتمالات اليمنيين الثقافية والسياسية والمذهبية والعلمية، وتداخل الثقافي بالسياسي بالتاريخي، في مؤشّرٍ ودلالة مهمة على أن الثقافة هي كل ما يحيط بك، ويجري من حولك، وأن المثقف هو صاحب البيان والموقف الواضح من الظلم والقهر والاستبداد ومصالح الناس وحقوقهم وحرياتهم وآمالهم وطموحاتهم.
تجلى مثل هذا الحضور الثقافي النضالي والرسالي معا في مدرسة مجلة الحكمة اليمانية (1938-1941م) في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، وما قدمه روادها، كأحمد عبد الوهاب الوريث وعبد الله العزب وزيد الموشكي وغيرهم، تلك المجلة التي كانت بمثابة التأسيس الفكري الأول للتغيير والثورة، والتي استأنف صدورها مرة أخرى، وبرداء وتوجه آخرين، من نخبة من المثقفين اليمنيين، في مقدمتهم عمر الجاوي ويوسف الشحاري وغيرهم في ثمانينيات القرن الماضي.
لا يمكن أن يغفل المراقب للمشهد اليمني ثفافيا حالة الضمور الثقافي الذي عانت منه الساحة اليمنية على مدى سنوات ما بعد الثورة، بفعل حالة الصراع السياسي الأيديولوجي بين التيارات السياسية اليمنية، وبفعل اللوبي الإمامي الذي اخترق كل تلك التيارات، وتموضع داخل المؤسسات اليمنية الثقافية والسياسية، وعمل على ضربها من الداخل، وأحدث البلبلة والصراعات بين تلك التيارات ثقافيا وسياسيا. وقد انعكس هذا كله بشكل سلبي على مسار الثقافة اليمنية المعاصرة، ورأينا حالة الجمود الثقافي الذي أصاب المشهد، مع بعض النشاط الخجول طوال فترة الثمانينات، والتي تحمل عبئها مركز الدراسات والبحوث اليمني، بقيادة عبد العزيز المقالح الذي مثل حينها أهم ركيزة ثقافية يمنية، من خلال عمله الإبداعي ونتاجه الأدبي والبحثي ورئاسته مركز الدراسات والبحوثي وجامعة صنعاء. وفي الشق الآخر كان لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، بقيادة عمر الجاوي ويوسف الشحاري اللذين عملا على بقاء الاتحاد موحدا، على الرغم من التشطير، وساهما في إعادة دور مجلة الحكمة اليمنية ثقافيا، مع بعض لمسات يسارية على عمل الاتحاد. ولكن يحسب لهما أنهما كانا وحدويين في زمن التشطير، وساهما في تعزيز حالة إبداعية ثقافية تمثلت في تعميق الهوية الوطنية الجمهورية اليمنية بشكل كبير، بعكس المشهد الديماغوجي الراهن للمثقف الانتهازي.
تبقى إشكالية أنه تم تنميط الثقافة اليمنية، حزبيا وأيديولوجيا، فبقي لكل تيار سياسي مساره
الثقافي الخاص والمؤدلج، ما أثر سلبا على الإبداع والتثاقف ضمن كل تيار، فحاول التيار الإسلامي جاهدا في أسلمة الثقافة من منظور إسلامي، نابذا كل حالة إبداعية وطنية، كما ارتكب اليساريون الأخطاء نفسها، وكذلك فعل القوميون أيضاً، ناصريين وبعثيين، وتسرب من هذه الثغرات الميراث الإمامي في تفتيت الهوية الوطنية اليمنية، وضربها ثقافيا بإشعال معارك جانبية بين خصوم الأيديولوجيات.
لم تنتج الأدلجة الثقافية سوى صراعات مدمرة للهوية الوطنية، ولد فراغا كبيرا تسللت من بين ثناياه المشاريع الصغيرة الإمامية والانفصالية، وارتكس المثقفون اليمنيون ارتكاسة كبيرة (مع استثناءات قليلة ممن ظلوا مدركين خطورة الوضع، وواضحين في رؤيتهم للمشهد والقضية الوطنية عموما)، فكان اليمن على موعد مع اختبار حقيقي لمثقفيه وسياسييه وحزبييه، من خلال انتكاسة 21 سبتمبر/ أيلول 2014 التي كشفت ادعاءات زائفة كثيرة في المشهد، وكانت بمثابة اختبار حقيقي للمثقف قبل غيره.
ومن هنا، يحتاج اليمنيون لوقفه حقيقية أمام هذا المشهد الثقافي، وإعادة تقييم الخلل الثقافي الذي أوصلهم إلى هذا الواقع المر، فقد كان المثقف اليمني صانعا رئيسيا لهذا المصير، بوجهه الثقافي أو السياسي، بفعل تحول المثقف إلى مريض بالأيديولوجيا، وغياب المثقف الحقيقي من المشهد، المثقف صاحب الموقف الوطني الواضح تجاه كل هذه الارتكاسة الكبيرة التي أصابت اليمن، وطنا وإنسانا وحاضرا ومستقبلا، في مقتل.


مقال للكاتب في العربي الجديد

إقراء أيضا

وليد أبو حاتم
وليد أبو حاتم
إبراهيم العشماوي
إبراهيم العشماوي