تجربتي في صحيفة الوحدوي هي واحدة من تلك المحطات التي لا تمحى من ذاكرتي، التي تشكلت فيها هويتي المهنية، وتوطدت فيها علاقات إنسانية ومهنية شكلت جزءا لا يتجزأ من مسيرتي الصحفية. لم تكن مجرد سنوات من العمل، بل كانت مدرسة حقيقية في النضال، الصحافة الحرة، والتحدي المستمر في وجه السلطات. وإن كنت سأعود بذاكرتي لتلك الأيام، فإنني أجد أن صحيفة الوحدوي لم تكن مجرد وسيلة إعلامية، بل كانت منبرا حرا يعبّر عن تطلعات الناس، آمالهم، ومطالبهم بالحرية والعدالة.
التحاقي بـ صحيفة الوحدوي
عندما انضممت إلى صحيفة الوحدوي، كانت الأجواء مفعمة بالتحديات السياسية والاجتماعية. كانت البلاد تعيش في ظل تحولات كبرى، وكانت الصحافة تقف في قلب تلك التحولات، تراقب، تنقد، وتدافع عن حقوق الناس. وكنت أنا، رغم أنني كنت عضواً في الحزب الاشتراكي، أعمل في صحيفة تمثل التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري. كان ذلك في حد ذاته تحديا يعكس مدى تقبل "الوحدوي" للأفكار المتنوعة والانتماءات المختلفة، مما جعلها تمثل فسيفساء حقيقية للعمل الوطني المشترك.
طوال السنوات التي عملت فيها في الصحيفة، كنت محررا ثقافيا، مسؤولا عن تحرير صفحتين كاملتين كل أسبوع. رغم أن الصحيفة كانت تنتمي إلى تيار سياسي محدد، إلا أنني لم أشعر قط بأي ضغوط لتوجيه محتواي نحو أجندات سياسية محددة. بالعكس، كانت الوحدوي ساحة حرة للنقاش والتعبير، وفي هذا المناخ التحرري نشأت وتعلمت أصول الصحافة الملتزمة، تلك الصحافة التي لا تعرف الخنوع أو المساومة.
الزميل فايز عبده: العمود الفقري في مسيرتي الصحفية.
*'في الصورة أدناه التى تجمعنا معا ذات مقيل في الصحيفة من العام ٢٠٠١م.. وأنا اتامل الصورة اكاد ان ادمع على تلك الأيام وأنا اتذكر تفاصيل وراء تفاصيل"..
في هذا السياق، لا يمكنني أن أتحدث عن تجربتي في صحيفة الوحدوي دون أن أذكر زميلي وصديقي التاريخي فايز عبده، الذي كان آنذاك المصحح اللغوي للصحيفة، شخصيا.. أعتبره أهم مصحح لغوي عرفته الصحافة اليمنية بعد عام 2000. كان فايز عبده يتمتع بقدرة فائقة على التدقيق اللغوي، وكان يتمتع بحس صحفي حاد وبعيون ترى أدق التفاصيل، وهو ما جعله من أهم الشخصيات التي أثرت في مسيرتي الصحفية.صدقوني كان فايز عبده يطور من قدرات كتاب مرموقين بل إن منهم من كانوا رؤساء تحرير يكتبون أعمدة صحفية في الوحدوي.
عندما أعود بذاكرتي لتلك الفترة، أجد أن العمل مع فايز عبده كان إضافة كبيرة لي وللمؤسسة التي عملنا فيها. كنا نعمل معا كفريق، كل منا يساهم في بناء تلك الصحيفة التي كانت بمثابة صوت حر يعبّر عن آمال الناس وتطلعاتهم. وكانت تجربتنا المشتركة في الصحف الأخرى مثل الأسـبوع والنداء تأكيدا على عمق العلاقة المهنية التي تربطنا.
كانت الوحدوي واحدة من أهم الصحف المعارضة في اليمن في تلك الفترة. كانت تجرأت على رفع سقف الحريات، وكانت السباقة في تقديم محتوى يعبر عن هموم الناس ويطرح تساؤلاتهم بجرأة وشجاعة.حتى قبل صحيفتي الثوري والشورى الحزبيتين.
و ليس من الغريب أن الكثير من الصحفيين البارزين في اليمن اليوم تخرجوا من هذه المدرسة. فمن حمدي البكاري الذي عمل في قناة الجزيرة، إلى محمد الغباري الذي أصبح مراسلاً لوكالة رويترز في اليمن إلى الصحفية الحرة سامية الاغبري، إلى سامي غالب الذي أصبح مدير تحرير صحيفة الأسبوع ثم أسس صحيفة النداء،إلى جلال الشرعبي اصغر مدير تحرير صحيفة باللغة الإنجليزية يمن تايمز ثم عملنا معا في الأسبوع والنداء إلى نايف حسان الذي صار رئيس تحرير صحيفة الشارع.ووصولا إلى الأستاذ الجليل القدير علي السقاف والاستاذ الفنان التشكيلي والمخرج الصحفي الكبير عبد الله المجاهد ابو سهيل رحمة الله عليه.والدكتور احمد سعيد ناصر الذي كان امين عام ادارة الصحيفة.والزميل وهيب النصاري الذي صار رئيس تحرير منصة المشاهد. وليس انتهاء بالزميل اشرف الريفي الذي صار سكرتير لجنة الحريات والحقوق في نقابة الصحفيين اليمنيين.
هؤلاء جميعا كانوا زملائي في الوحدوي، وتعلمنا معا كيف نكون أصواتا مستقلة ومهنية في مجتمع كان يواجه تحديات سياسية واجتماعية ضخمة.
لم يكن الأمر سهلا، فقد تعرضنا لكثير من المضايقات من السلطة. كانت الوحدوي دائما مستهدفة بسبب مواقفها الجريئة ورفضها للتسويات السياسية التي قد تمس بمصالح الشعب. كانت السلطة تحاول عرقلة عملنا بطرق شتى، سواء من خلال الضغوط المباشرة أو التضييق على حرية التعبير. ومع ذلك، لم نتراجع، وكنا نواصل عملنا بشرف وإصرار، إيمانا منا برسالتنا الصحفية وبالحق في التعبير الحر.
رغم أنني عملت في العديد من الصحف بعد الوحدوي، مثل التجمع والنداء ورأي والجمهورية والأسبوع والثوري حتى صرت سكرتير تحرير صحيفة الثوري لسان حال الحزب الاشتراكي اليمني ورئيس تحرير منصة انزياحات الثقافية الاجتماعية السياسية المستقلة، إلا أن الوحدوي كانت وستظل قطعة من روحي. كانت الصحيفة التي منحتني الفرصة لأكون جزءا من حركة صحفية حقيقية تسعى للتغيير، للدفاع عن حقوق الناس، وللتعبير عن آمالهم وآلامهم.
كانت الوحدوي هي التي تجرأت في مواجهة السلطة، قبل حتى أن تقوم صحف أخرى مثل الثوري أو الشورى بهذه المهمة. كانت الصحيفة التي ترفع سقف الحريات وتدافع عن حقوق الناس دون خوف أو تردد. وكانت دائماً ما تكون في قلب الأحداث، ترصد التحولات، تنقد السياسات، وتدافع عن المبادئ.
من خلال تجربتي في الوحدوي، تعلمت أن الصحافة الحرة ليست مجرد مهنة، بل هي مسؤولية كبيرة وشرف لا يُقدّر بثمن. الصحافة الحقيقية هي تلك التي تبحث عن الحقيقة وتلتزم بنقلها للناس بأمانة وصدق. الصحفي الملتزم هو الذي يرفض أن يكون بوقا لأي جهة كانت، ولا يقبل أن يُستخدم لأغراض سياسية أو دعائية. الصحافة هي صوت الناس، وعندما نفقد هذا الصوت، نفقد جزءا من روحنا.
أتذكر دائما أن الوحدوي كانت تلك المساحة التي ناضلنا فيها معا من أجل الحقيقة، من أجل العدالة، ومن أجل حق الناس في معرفة ما يجري من حولهم. كانت تلك التجربة جزءاً من تكويني المهني والشخصي، وهي التي منحتني القوة لأواصل عملي الصحفي حتى اليوم.
ختاما: تحية إلى زملائي في الوحدوي
أكتب هذه الكلمات الآن، وأنا أشعر بفيض من المشاعر، بل أكاد أن ادمع. فهذه الصحيفة ليست مجرد ذكرى، بل هي جزء من تاريخي، وجزء من نضال طويل من أجل الصحافة الحرة في اليمن. أوجه تحية خاصة إلى زميلي وصديقي التاريخي فايز عبده،االذي كان ولا يزال نموذجاً للمصحح اللغوي المبدع والمجتهد. وأوجه أيضا تحية إلى جميع زملائي الذين عملوا معي في الوحدوي، وكل من ساهم في بناء هذا الصرح الصحفي العظيم. كذلك اشكرك على الصورة لأنها جعلتني انثال بهذه التداعيات. التداعيات التي كان لابد منها.
إن الصحافة الحرة ليست مجرد مهنة،هكذا علمتنا الوحدوي بل هي رسالة وشرف، وأشعر بفخر كبير بأنني كنت جزءا من هذه الرسالة عبر صحيفة الوحدوي، تلك المدرسة التي علّمتني الكثير وما زلت أستمد منها الكثير من القيم حتى اليوم.