تتعدد المبادرات وتبقى الأزمة .. هكذا غدا واقع الحال في اليمن الذي يشهد منذ نحو ثلاثة شهور ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام ورحيل صالح عن السلطة. وفي ظل تصلب المواقف من قبل أطراف الأزمة تبدو أروقة السياسة ومخرجاتها كما لو أنها قد عجزت عن التوصل لاتفاق يرضي الفرقاء ويضع حدا للاحتقان الحاصل في البلد الذي يزداد خطورة يوما بعد أخر.
وفضلاً عن فشل الوساطة الخليجية في جمع السلطة والمعارضة في اليمن على طاولة حوار واحدة فان ما خرجت به مؤخرا من مقترحات لإنهاء الأزمة بعد أن التقت طرفيها كلاً على حدة في الرياض وأبو ظبي لم يحقق أي جديد يذكر.
وبعد أن عدلت مبادرتها الأولى ببيان يخدم النظام الحاكم جاءت المبادرة الخليجية المطورة بنسختها الثالثة كما لو أنها عدت في دار الرئاسة بصنعاء للالتفاف على ثورة الشعب.. وان كانت دول الخليج تبرر التعديلات المستمرة في مبادراتها بمحاولة إرضاء الطرفين، إلا أن بنودها لا تحتاج إلى كثير من التمعن لاكتشاف خطورة تفاصيلها التي قد تعمل على إفراغ الثورة من مضامينها، بل وإصابتها بانتكاسة من خلال خطة حيكت بعناية وترجمتها المبادرة الخليجية التي يبدو أن للسعودية اليد الطولى فيها خاصة وهي ترى في التظاهرات والاعتصامات الشعبية ممارسة محرمة شرعا.
وتضمنت المبادرة الخليجية التي حملها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني إلى صنعاء الخميس الماضي تسليم صالح صلاحياته إلى نائبه وتقديم استقالته إلى البرلمان خلال ثلاثين يوما، يسبقها تشكيل حكومة وحدة وطنية ترأسها المعارضة، مهمتها الأولى إنهاء الاعتصامات في العاصمة ومختلف المحافظات وعودة الحياة إلى طبيعتها ومن ثم الإعداد لإجراء انتخابات رئاسية خلال ستين يوما، كما تتضمن المبادرة أيضا إنهاء منح الحصانة لصالح وأقربائه وفريق عمله من أي ملاحقات قانونية.
صالح وان بدا منتشيا بما حملته مبادرة دول الخليج والتي توفر له ثغرات كبيرة يستطيع عبرها إطالة أمد بقاءه في السلطة والتملص عنها بأساليب وحجج عدة، إلا انه يحاول الظهور بصورة الرافض للمبادرة لتسارع المعارضة والشارع إلى القبول بالمبادرة.
ولا يبدو أن صالح ينتوي التنحي وترك السلطة على المستوى القريب، وهو ما أعلنه عشية وصول وفد مجلس التعاون الخليجي حين قال أمام حشد من مؤيديه انه لن يتنحى قبل العام 2013 وان من يريد السلطة فعليه المنافسة عبر صناديق الاقتراع وانه لن يقبل ما اسماه بالتأمر والانقلاب، وهي العبارات ذاتها التي كررها الجمعة.
وان كان الرجل قال بعد ذلك انه يرحب بالمبادرة الخليجية بصيغتها الكاملة إلا انه عاد ليقول في حوار مع قناة الـ بي بي سي الأحد انه لن يسلم السلطة إلا عبر انتخابات وليس عبر الانقلاب كما وصفه مثلما وصف بصورة مبطنة الوساطات الخليجية بالدعم الخارجي للانقلاب على الشرعية .
حالة التناقض والضبابية التي تخلفها خطابات صالح وأحاديثه حيرت وسائل الإعلام الخارجية التي لم يستطع مراسلوها تحديد ما إذا كان صالح قد وافق بالمبادرة أو رفضها كونه يبدي الاثنين معا وفي أن واحد.
ولم يجد عدد من المراقبين والمحليين تبرير هذا التناقض والغرابة أحيانا في تصريحات صالح سوى وصفه بالإفلاس السياسي خاصة حين اتجه لاتهام المعسكرات المنشقة عنه بأنها تظم خلايا لتنظيم القاعدة.
المعارضة .. حنكة التعامل
رد فعل اللقاء المشترك وشركاؤه إزاء المبادرة الخليجية بنسختها الأخيرة اتسم بالكثير من الحنكة السياسية رغم الضغوط التي مورست عليها من قبل موفد مجلس التعاون وطلبه الحصول على موافقة كاملة للمبادرة أو رفض كامل لها قبل مغادرته صنعاء مساء الخميس.
ومنذ القراءة الأولى لبنود المبادرة أدركت أحزاب المشترك وشركائها في اللجنة التحضيرية للحوار الوطني أنها تتضمن نصوصا غاية في الخطورة وأنها قد تمنح صالح الاستمرار في السلطة.
وتتعزز هذه المخاوف بالتسلسل الزمني لتنفيذ بنود المبادرة التي اشترطت أن تقوم الحكومة المشكلة بـ"العمل على توفير الأجواء المناسبة لتحقيق الوفاق الوطنى وإزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا" ، قبل أن يتوجه صالح إلى مجلس النواب لتقديم استقالته. ما يعني أن صالح سيظل في كرسي الرئاسة حتى تزيل حكومة المعارضة عناصر التوتر سياسيا وامنيا والتي تفسر برفع الاعتصامات في العاصمة صنعاء ومختلف المحافظات اليمنية، وبالتالي فان صالح يستطيع وبسهولة الالتفاف على بند تقديم الاستقالة للبرلمان خاصة وان الدستور اليمني يشترط موافقة ثلثي المجلس على استقالة رئيس الجمهورية، لذا فان صالح قد يطلب من نواب الحزب الحاكم عدم الموافقة على طلب الاستقالة ليعود إلى كرسي الرئاسة متمسكا بنصوص الدستور، بعد أن تكون الثورة قد أفرغت من مضامينها.
هناك نقطة أخرى تتحفظ عليها المعارضة وتتعلق بحصص المقاعد الوزارية حيث نصت المبادرة أن يكون للحزب الحاكم نصف الحقائب الوزارية في الحكومة المشكلة التي سيكون عليها تأدية القسم أمام صالح على اعتبار انه لا يزال رئيسا للجمهورية لمدة 30 يوما بل وهو من يكلف رئيس الوزراء بتشكيل الحكومة، لتبدو المعارضة كما لو أنها تعترف بشرعية صالح وتظهر بصورة عارية تماما أمام الشعب الذي تطالبها المبادرة باخلاءه من الساحات، وهو ما لا تستطيع المعارضة الإقدام عليه وان فعلت فستدخل في مواجهة مباشرة مع الثوار ويكون صالح في موقف المتفرج من على متكئ هانئ في مكتبه بدار الرئاسة يمد قدميه ويريح أعصابه مبتسما بل ومبتهجا بانتصاره بعد ثلاثة شهور من العمل الشاق والمرهق والمنعطف الأخطر الذي مر به طيلة حياته على الإطلاق.
وهو ما تنبهت له المعارضة جيدا، فكان ردها القبول بالمبادرة الخليجية مع التنازل عن حقها في تشكيل حكومة وحدة وطنية لصالح الحزب الحاكم الذي بإمكانه تشكيل حكومة أو الحفاظ على حكومة تصريف الأعمال لحين تقديم صالح استقالته، ومقابل هذا التنازل طلبت المعارضة إلغاء ما يتعلق من قريب او بعيد بسحب الاعتصامات من الشارع كونها لا قدرة لها بذلك ولان الاعتصامات حق دستوري لا يمكن التعدي عليه.
أما ما يرفضه الشارع بتاتا وما لا تستطيع المعارضة القطع به هو البند المتعلق بإيجاد ضمانات بعدم ملاحقة صالح وأقربائه وفريق عمله، غير أن عدم مناقشة هذا البند في الوقت الراهن أفضل من الخوض فيه.
المجتمع الدولي ... موقف متردد
دولياً فشل مجلس الأمن في الخروج بقرار واضح تجاه الوضع في اليمن في جلسة عقدها بهذا الخصوص الثلاثاء قبل الماضي. وبعد نحو ثلاثة شهور على اندلاع الاحتجاجات في اليمن وسقوط مئات القتلى والآلاف الجرحى خرج المجتمع الدولي بدعوة أطراف الأزمة في اليمن إلى ضبط النفس واعتماد الحوار.
و يبدو أن القلق الذي أبدته بعض الدول كألمانيا من التطورات الجارية في اليمن وضرورة تدخل مجلس الأمن للضغط على صالح، قوبل بقلق آخر من تداعيات دموية لأي قرار صارم قد يخرج به مجلس الأمن تجاه النظام اليمني الذي قد يلجأ للسيناريو الليبي، خاصة في ظل التطورات المخيفة التي يعيشها المشهد الليبي اليوم وهو ما طرحته روسيا والصين اللتين وقفتا ضد خروج الاجتماع بإعلان تجاه الوضع في اليمن واعتبرته تدخلا في الشؤون الداخلية للدول.
خلف الكواليس والأبواب المغلقة يبدو أن أطراف في المجتمع الدولي لا تزال حتى اللحظة تخشى من سقوط نظام صالح، لأسباب ربما تعود لعدم توفر رؤية واضحة لما يجري في اليمن، في ظل ما تروج له بعض وسائل الإعلام الغربية عن النشاط المتنامي لتنظيم القاعدة في اليمن، فضلا عن الوجود الشيعي المتمثل بالحوثيين في شمال الشمال الذي يزعج الرياض كثيرا، ولكل طرف مخاوفه من القادم وفق حسابات سياسية وأمنية واقتصادية أيضا.
المخاوف الدولية تمتد – وفق الرؤية المغلوطة لازمة اليمن – إلى احتمالات انزلاق البلد إلى أتون الحرب الأهلية وتحول اليمن إلى دولة فاشلة بعد سقوط نظام الرئيس صالح على غرار ما حصل في الصومال عقب سقوط نظام الرئيس سياد بري، وتتعزز هذه المخاوف بانتشار السلاح بكثافة بين اليمنيين واختلاف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والقبلية وهو ما قد يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الدولي وإمدادات النفط كون اليمن يقع بالقرب من اهمم ممر بحري يزود العالم بنحو 10 ملايين برميل نفط يوميا، ناهيك عن المخاوف الناشئة من تأثير الاضطرابات في اليمن على الجارة السعودية كأكبر بلد لتصدير النفط في العالم.
وبعيداً عن ما تمخض به اجتماع مجلس الأمن إلا أن دخوله على خط الأزمة في اليمن يؤكد مدى خطورة الأوضاع في البلد التي بدأ المجتمع الدولي يشعر بها، وهي رسالة قوية لنظام صالح بان مجلس الأمن قد يعقد جلسة أخرى وقد يتخذ قرارات رادعة وصارمة في حال تم جر البلد نحو العنف.
الانقسام في الموقف الدولي تجاه أزمة اليمن لم يتجلى فقط في أروقة مجلس الأمن بين دول وأخرى، وإنما حضر بقوة داخل الإدارة الأمريكية ومؤسساتها. وفي الوقت الذي تبدو فيه الخارجية الأمريكية اقرب إلى مطالب الشارع اليمني،كما يتضح من تصريحات الوزيرة هيلاري كلينتون، تبرز مواقف البنتاجون اقرب إلى النظام وأجهزته الأمنية منها إلى الشعب، ولعل موقف وزارة الدفاع الأمريكية ينبع من نظرتها الأمنية ومستقبل حربها مع ما تسميه بالإرهاب خاصة وأنها أبرمت طيلة سنوات عدة خلت اتفاقات بهذا الخصوص مع الأجهزة الأمنية اليمنية وبإشراف مباشر من الرئيس صالح الذي منح الأمريكيين تسهيلات عدة، بل ووفر لهم غطاء سياسي لتنفيذ عمليات داخل الأراضي اليمنية بطائرات أمريكية دون طيار.
وبين موقف الخارجية الأمريكية والبنتاجون يبقى البيت الأبيض هو من يتخذ القرار في النهاية، والواضح أن هذا الأخير وصل إلى قناعة بان الرئيس صالح راحل لا محالة وبالتالي فان الإدارة الأمريكية تبحث له عن رحيل هادئ وآمن وتحاول في نفس الوقت الاقتراب من البديل المحتمل وإقامة علاقات طيبة معه.
سيناريو الحرب الأهلية
ما لا يعرفه المجتمع الدولي أو أطراف فيه أن مخاوفهم من انهيار الأوضاع في اليمن ونزوح البلد نحو الحرب الأهلية، يمكن تحققها في حالة ظل صالح على سدة الحكم ضد رغبة غالبية اليمنيين.
ويبدو أن جهود التسوية الخليجية تسير نحو طريق مسدود حيث تقف معوقات عدة دون ترجمتها إلى خارطة طريق عملية حتى وان حضت هذه المبادرة بمباركة من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي الذين وافقا على التوقيع عليها كشاهدان وضامنان إلى جانب مجلس التعاون الخليجي بعد توقيع أطرافها الذين حددتهم المبادرة بصالح كطرف أول والمشترك وشركاؤه كطرف ثاني.
وما يمكن تأكيده هنا انه في حال عدم ممارسة المجتمع الدولي ضغوط صارمة على صالح لدفعه للتنحي الفوري، فان الرجل سيستمر في مراوغاته التي قد تنتهي بجر البلد نحو حرب أهلية وهو ما يتجه نحوه صالح في الوقت الراهن خاصة في ظل قيام مقربون منه بتوزيع أسلحة وأموال على مجاميع تتبع النظام في العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات.
والجمعة الماضية قال صالح انه سيقابل التحدي بالتحدي قبل أن يستدرك خطورة ما قاله ليعقب "ولكن دون سفك دماء" . ولعل صالح حسم أمره بعد المصير الذي آل إليه الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك وهو على ما يبدو يفضل السير على خطى القذافي من أن يواجه وأولاده السجن والمحاكمات كما حصل إبان الثورة المصرية.
على الطرف الآخر تبدو أحزاب المعارضة والقوى السياسية الحية مصرة على المضي في سبيل انتصار الثورة.
أما الشارع فهو الأكثر حماسا وإصرارا على إسقاط النظام ووضع حدا لمراوغات الساسة وجدل المفاوضات التي قال إنها لا تعنيه.
وفي توجه لحسم المعركة أطلق شباب الثورة اسم الفرصة الأخيرة على الجمعة الماضية التي نقل الثوار صلاتها من ساحة التغيير أمام جامعة صنعاء إلى شارع الستين الممتد نحو القصر الرئاسي.
المسمى والموقع يوحيان بتوجه حقيقي وجاد نحو الزحف إلى دار الرئاسة وعدد من المرافق الهامة في العاصمة صنعاء كما لوح بذلك قيادي في ائتلاف شباب الثورة.
ويحضر النظام لمواجهة الشارع الثائر بشارع آخر غالبيته من الحرس الجمهوري والأمن المركزي، خصص له ساحات وميادين للاعتصام . حيث حول النظام الحاكم ملعب الثورة الرياضي بالعاصمة صنعاء إلى معسكر للبلاطجة تم تزويدهم بالأسلحة البيضاء والنارية لمواجهة اي توجه جماهيري نحو مبنى التلفزيون، واعد شارع آخر على طريق القصر الجمهوري وكذلك الحال بدار الرئاسة.
وبالتالي فان زحف الثوار إلى أي من هذه الجهات سيواجه ببلاطجة وجنود بزي مدني، وبالطبع فان مصادمات من هذا النوع ستكون مصبوغة بألوان الدماء وجثث القتلى، وهو اقرب السيناريوهات التي يحضر لها نظام صالح ليوهم العالم أن العنف بين مواطنين مؤيدين وآخرين معارضين ، قبل الحديث عن أي صدامات عسكرية يمكنها أن تعقب ضرب الشارع بالشارع، وانزلاق البلد إلى أتون حرب أهلية يرى فيها صالح آخر الحلول ضمن أجندة بقاءه في السلطة.