الرئيسية المقالات حوارات هيكل: العالم العربي يعاني تجريفاً في الحياة السياسية
هيكل: العالم العربي يعاني تجريفاً في الحياة السياسية
الوحدوي نت - متابعات
الوحدوي نت - متابعات
الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل
حذر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل من الاستسلام العربي الكامل لما وصفه ب”الوهم الإسرائيلي الأمريكي” في ظل حالة التجريف السياسي التي تخيم على المشهد العربي حاليا، وقال الكاتب الكبير في الجزء الثاني من حواره مع “الجزيرة” إن العالم العربي بات يعاني من حالة اختناق تسببت في نهاية الأمر في حالة من الفراغ، مشيراً إلى أننا إذا أردنا تعبئة هذا الفراغ، فإن علينا أن نبدأ من جديد، بإعادة تأسيس دولنا ووضع دساتير حقيقية من جديد، لا يصنعها رجال، وإنما تكون بمثابة علاقة تعاقدية بين الأمة وعناصرها.وفى الجزء الثاني من حواره تعرض الكاتب الكبير إلى خسارة مصر معركة اليونسكو، والموقف العربي تجاه إيران، والعلاقات التركية العربية، قبل أن يختتم برأيه في المرشحين الذين يدور حولهم الحديث في مصر لخلافة الرئيس مبارك، الذين قال عنهم: “لا أحد منهم يصلح للرئاسة”.

 وتالياً الحوار:

* محمد كريشان: أستاذ هيكل هناك مسألة أشرتم إليها في حلقة الجزء الأول تتعلق بغياب الدولة الرائدة والقائدة، وليس سرا أن مصر هي التي كانت تقوم بهذا الدور تاريخيا ولفترات طويلة، الآن هناك حديث عن انكفاء هذا الدور أو تراجعه، ولكن المؤلم أنه ليست هناك قوة أخرى تقوم بأي دور، ففي فترة من الفترات كان هناك تداول لاسم العراق، الآن ليس هناك بديل، فهناك انتفاء للدور المصري الذي أصبح متراجعا، ولا شيء في مقابله؟

 هيكل: أنا لا أرغب كثير في الدخول في حديث يتعلق بالدولة الرائدة أو الدولة القائدة وهذه الأمور كلها، لكن ما أود قوله بلا جدال من غير مناقشة أن مصر في أزمة، شأنها شأن الدول العربية الأخرى، فهناك خيارات تم اتخاذها من قبل أولها أن 99% من الحل في أيدي الأمريكيين، وهو ما ترتب عليه ما ترتب.

والواقع فإن مصر كانت تلعب دورا مهما للغاية في العالم العربي، وقد اعتمد العالم العربي على هذا الدور في فترة من الفترات، الأمر الثاني الذي ننساه كثيرا أنه عندما خرجت مصر، فإنه قد خرج نصف العالم العربي، لأنه انعزل وهنا “إسرائيل” موجودة كعازل، وإن كان بعض الناس يتصورون أن الجغرافيا ليست موجودة، فهي موجودة، ولابد أن تكون فعلا متحركا، وليس مخبأ يختبئ فيه الناس.

ووقت أن تقول مصر: إن مصر أولا، فإن الآخرين يقولون أيضا نحن أولا، وإن كان هذا جيدا، إلا أننا حينما نقول إن مصر خرجت، فإن نصف العالم العربي كله يكون قد خرج، أي أن غرب سيناء كله قد خرج، ولم يعد مؤثرا أو فاعلا في موازين القوى، وعليه فإن الجزائر وليبيا والمغرب والسودان، جميعهم غير موجودين، وعلى الرغم من الاعتماد في السابق كان على مصر بالفعل، إلا أن هذا الاعتماد لم يعد موجودا.

أمر آخر وهو أننا فهمنا الدور بمعنى الوظيفة، وهذا خطر كبير، فالدور لنا بمقدار ما نؤديه ونتحمل تبعاته، وفي المقابل فإن الدور لا يكون لنا إذا تركناه، ولم نعد نرغب فيه، إما بسبب المشقة أو أننا لم نعد نتحمل عبأه.

ومن الأخطاء الكبرى التي حدثت أننا تصورنا أن مصر إذا اتخذت خيارا، فإنه أصبح على بقية العرب اختياره، وهذا ليس صحيحا، لكنه قد يكون صحيحا في حال كنا نمارس دورنا، وأن هذا الدور يلقى تأييدا جماهيريا واسعا خارج حدودنا، وله منطق ومعنى مبدئي يتصل بما يجري في العالم، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون لنا دور.

لقد خضنا معركة “اليونسكو”، وهنا أتكلم في مسالة أعرفها، وإن كنت لست خبيرا في “اليونسكو” لكن أزعم أنني قضيت شهرا كاملا في “اليونسكو” بتكليف من أحمد اومبو، حيث توليت رئاسة لجنة تبحث في العلاقة بين الثقافة والإعلام، وكان فيها عدد كبير، منهم اثنان من وزراء الإعلام، وثلاثة وزراء خارجية سابقون، وكان عددنا 25 شخصا.

ويومها تقدمنا بتقرير إلى أحمد اومبو ومن أهمية هذا التقرير أن أرسل لي خطابا، ومعي الملفات كاملة.

المنظمات الدولية الكبيرة ليست لنا

* كريشان: هذا النموذج معبر جدا عما نتحدث عنه.

 هيكل: معبر بالفعل، وأود القول إن المنظمات الدولية الكبيرة ليست لنا، فنحن كعرب دائما كنا بعيدين عن رئاسة هذا المنظمات الدولية، لأنه منذ أن نشأت الأمم المتحدة، ولدينا قناعة بعدم التعامل مع “إسرائيل”، وبما أنه ليست لنا رغبة في التعامل مع “إسرائيل”، فليست لنا نية في رئاسة المنظمات الدولية.

وأذكر أننا يوم أن دخلنا لرئاسة منظمة الأمم المتحدة من خلال د.بطرس غالي، لم نكن نحن الذين دفعنا بترشيحه، إذ كان ترشيح الأمين العام للأمم المتحدة بين الدول الدائمة لمجلس الأمن، وتوافق عليه هذه الدول وتتقدم به إلى الجمعية العامة لتقره.

ود.بطرس غالي كان مرشحا من جانب فرنسا، أي رشحته دولة من الدول الأعضاء بمجلس الأمن، على أساس أنه أدى خدمات إلى الدول الفرانكفونية، وقبلته أمريكا على أساس أنه ذهب مع الرئيس السادات إلى القدس، فضلا عن أن د.بطرس غالي رجل ذكي يتمتع بمزايا هائلة، إلا أنه مع ذلك لم يكن مرشحنا، حتى ترشح د.محمد البرادعي لوكالة الطاقة الذرية لم يكن مرشحا عن مصر، التي قاومت ترشيحه لأنه كان لديها مرشح آخر، وإن كان د.البرادعي رجل على مستوى عالٍ من الكفاءة، ولذلك دعمته دول أخرى.

وهذان النموذجان نجحا في الوصول إلى أعلى المناصب بالمنظمات الدولية، ليس بسببنا ولكنهما نجحا رغما عنا.

وفي حالة “اليونسكو” سبق أن فكرنا كعرب في رئاسة هذه المنظمة، وسبق أن جاء لسؤالي عن الترشح كل من د.غازي القصيبي ود.إسماعيل سراج الدين، وكلاهما ترشحا في دورة واحدة أمام المرشح الياباني “ما تسورا”، وأذكر أنه أثناء ترشح د.غازي القصيبي جاء لمقابلتي، والتقينا على كوب من الشاي في باريس، ويومها قلت له لن تنجح، ثم وجدته أخرج من جيبه كشفا قال من خلاله إن لدينا أكثر من تأييد دولي.

ونقل لي إن الأمير عبد الله، وكان وقتها وليا للعهد في السعودية، ذهب إلى اليابان وهددهم بأنه في حال عدم سحب مرشحهم فإنه لن يكون هناك بترول، وهنا أؤكد أن لليونسكو حسابات مختلفة تماما، وأذكر أن المرشح الآخر وهو د.سراج الدين التقيت به في “الريتز” بباريس حيث قبل دعوتي له للإفطار، وقلت له: يا د.إسماعيل إن مصر لا تؤيدك وترشحك لا يصلح، وأن الياباني المرشح سينجح مهما فعلتم.

وشرحت للدكتور إسماعيل أن لليونسكو حسابات معقدة للغاية، وأن مصر ستدعم د.غازي القصيبي، وهو ما ظهر في تصويتها له، ولكن على أي حال، وجدنا خسارة كل من د.غازي ود.سراج الدين لأسباب سبق أن شرحتها لهما.

ومن هذه الأسباب أنه يوم انسحبت أمريكا من “اليونسكو” للضغط على أحمد اومبو بسبب الدور الإفريقي، ودور العالم الثالث في “اليونسكو” في ذلك الوقت، وقتها تقدمت اليابان وقامت بتسديد حصة أمريكا في “اليونسكو”، وكانت لأول مرة تطلب مثل هذا المنصب، ولذلك كان من الطبيعي أن تحصل عليه، اما اليوم فقد ترشحت مصر، وتصورت أن “إسرائيل” لها قيمة في عملية التصويت والاختيار، ومن الغريب جدا أنه ضمن أخطائنا الواضحة أننا نتصور أن “إسرائيل” تملك أو تقدر، ولم نتنبه إلى أن “إسرائيل” لا تملك ولا تقدر.

وسبق أن جاء نتنياهو إلى مصر وقال إننا لن نعارض المرشح المصري، وكأن “إسرائيل” تملك، وهذا ليس صحيحا بالمرة، والحقيقة أننا قدمنا أمورا لم تكن مطلوبة، وعلى الرغم من أنها لم تكن بسوء نية، لكن كان بها فهم خاطئ.

وأذكر أنني كنت في برلين، وتقابلت مع شخص ألماني، ولا أود أن أصرح باسمه، لأن من أقول أسماءهم، يتعرضون بعد ذلك لعتاب أنني قابلتهم أو أنهم قابلوني، فبعض الناس يغضب من ذلك وإن كان هذا لا يزعجني، وعلى أية حال، فإن هذا الشخص وهو سياسي ألماني، قابلني وكنا نتحدث عن الدور “الإسرائيلي”، وفوجئت به يقول لي أمرا غريبا للغاية، لقد قال لي: “هل عندك مانع في أن تزور نصب الهولوكوست؟” فقلت له: ليس لدي مانع، فأنا أفرق بين اليهود و”إسرائيل” وما جرى لليهود وما جرى لغيرهم، لذلك لم يكن لدي مانع من زيارة نصب الهولوكوست، وبالفعل نزلنا معاً ومررنا من بوابة “براند برج” وسرنا تجاه اليسار، حيث “الهولوكوست”، ومررنا في نصب تذكاري عبارة عن توابيت.

وعندما رجعنا قال لي هذا الشخص: إنه بسبب رغبتكم في أن تخدمكم “إسرائيل” في “اليونسكو” فإنكم تركتم لها ما يساوي في حجم سعر الغاز حجم كل المساعدات الأمريكية التي تحصلون عليها.

وفي باريس، قال لي أحد الأشخاص: “ما الذي تفعلونه في موضوع “اليونسكو”؟ أقول ذلك لأن هناك وهماً كبيراً حول دور “إسرائيل”، والحقيقة أن هناك وهما بالعالم العربي يتعلق بدور “إسرائيل”، وأنا أعلم أن أحدا سوف يخرج وسيقوم بتكذيب هذا الكلام، وإن كنت موافقا على ذلك.

أنت تقول الدولة الرائدة والدولة القائدة، ونتحدث عن الدور، بينما الدور يؤدي وظيفته في هيبة وجوده دونما ضغط، وأود القول إن كل قيمة تفعل فعلها، من دون أن تتجاوز، ومن دون أن نتدخل.

وعلى سبيل المثال نحن لم نكن نرغب في أن يترشح مرشح عربي لليونسكو، وكان لدى المغرب سيدة مرشحة لكننا “قلبنا الدنيا عليها، إلى أن امتنعت”.

وقيل إن د.غسان سلامة، وهو وزير ثقافة سابق في لبنان سيرشح نفسه، وكان من نتيجة ذلك أننا جئنا في مفاوضات غاز مع لبنان، وبعد إتمام الاتفاق أعلن فؤاد السنيورة رئيس وزراء لبنان آنذاك أن الاتفاق تم إنهاؤه، إلى أن قيل له إن شخصا آخر سيقول لك أمرا آخر.

وقتها قيل له إن هذا الاتفاق سيكون نافذا، إذا لم يتقدم غسان سلامة للترشح لليونسكو، يومها قال فؤاد السنيورة إنه لن يترشح أحد، وإن مصر تطلب وإنه يجب أن تتم إجابتها من غير مقابل.

هنا عندما تغيب هيبة الدور وجلاله، فإننا نلجأ في تعويضه إلى أسباب منها تصورنا أن “إسرائيل” يمكنها أن تفعل شيئا، أو أن هناك ضغطا على الدول العربية، ونحن نتصور أن العالم كله في صداقات دولية بين رؤساء وهذا ليس صحيحا، وإذا قيل إن هناك صداقة بين رئيس ورئيس دولة آخر، وإن هذا يؤثر في السياسة، فإنني آسف لهذا الرأي وأعتبره غير صحيح.

ذلك لأن كل رئيس دولة في حالة تنافس مع الرئيس الآخر، لأن كليهما يريد أن يعضد مكاسبه، ويقلل ما يدفعه، فالعلاقة جدلية، وإن كان فيها تبادل مصالح، إلا أنه ليس بها صداقة شخصية، فهي علاقة شد وجذب.

وحقيقة أنا أندهش لما يقال من ان النفوذ الدولي للرئيس سوف يخدم مصر، لأن هذا الكلام ليس صحيحا، فلا يوجد رئيس أكبر من بلده، ومصر هي التي تفيض بأي رئيس فيها، وليس أي شخص آخر، ولكن المشكلة أننا نخلط الأمور، وإن كانت هناك أمور ينبغي أن نعقلها، منها الدور “الإسرائيلي” والوهم بأهمية هذا الدور، من دون إدراك أن “إسرائيل” في أزمة أكثر منا بشكل كبير.

ولدي هنا مجموعة من الكتب، منها كتاب صدر لي هذا العام، تناولت فيه حوارا مع اينشتاين، استغرق 10 صفحات من الكتاب، يقول فيه إن هناك قلقا على روح “إسرائيل” وأن هذا العنف الذي تمارسه، وهذا الضغط يفتح تناقضاً مع التاريخ، بين ما تمثله “إسرائيل” وبين المنطقة الموجودة بها، والتصرف الدموي الذي يؤذي الروح اليهودية ذاتها.

وهنا أعود للسياسي الألماني الذي طلب مني زيارة نصب الهولوكوست في برلين، وقد قلت له ليس عندي مانع، لكني أضفت: هل تستطيع أن تذهب إلى المكان الذي مات فيه “هتلر”، وقد رفض الرجل الذهاب وقال: لا أستطيع أن أذهب لزيارته.

أعود مرة أخرى إلى كلام اينشتاين وقوله: أرجوكم ترفقوا مع “إسرائيل” واعترفوا بها، لأني أخشى على روحها أن تتحول من الوطنية الضيقة إلى قوى عدوانية.

كما أعرض هنا كتابا آخر لمؤلفة انجليزية مهمة للغاية وهي “مارجريت بلين”، وصدر هذا العام وتقول فيه: إن موضوع الهولوكوست لم يبدأ إلا بعد العام ،1967 لأن “إسرائيل” راعها أن اليهود في العالم رأوها كقوة قادرة تعتمد على نفسها، وأنها بالغت في استعمال القوة بأكثر من اللازم، وأنها ليست بحاجة إلى عطف اليهود.

هذا الكتاب اسمه “استعمال وسوء استعمال التاريخ” وتقول فيه الكاتبة: إن “إسرائيل” اصطنعت بعد 67 التكبير والتهويل من الهولوكوست “المحرقة” لكي تبرر وتقنع يهود العالم بأن استعمالها الزائد للقوة مبرر، وأن التجربة هي 6 ملايين يهودي.

وعلى الرغم من أنهم ليسوا ستة ملايين يهودي، وهو موضوع بحاجة إلى مناقشة طويلة، إلا أننا نجد كاتباً آخر يتحدث عن “استغلال معاداة السامية”، وبعضهم أساتذة كبار يتحدثون عن الدور المخرب الذي يقوم به اللوبي اليهودي في أمريكا، وأنه معادٍ للمصالح “الإسرائيلية”.

ويصل الأمر إلى أن نتنياهو يوجه إساءات بالغة إلى كبار معاوني الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وعلى الرغم من أن أوباما لم يفعل شيئا، إلا أن تقرير “غولدستون” أحرجهم حرجا بالغا.

ونجد نتنياهو يهاجم صراحة “راحم عمانوئيل” وهو يهودي صهيوني خدم في الجيش “الإسرائيلي”، وأصبح اليوم مساعدا لأوباما ويصفه وغيره من اليهود من مساعدي أوباما بأنهم يهود يكرهون أنفسهم.

ومن هنا، فإنه ينبغي الالتفات إلى ظاهرة مهمة للغاية، وهي أن هناك يهودا أصبحوا يرون الإساءة البالغة التي تمارسها “إسرائيل” للروح اليهودية والفكر اليهودي، والدور التاريخي الذي قام به اليهود في العلوم والثقافة بدول العالم، ولا أحد ينكر هذا بالطبع، لأن “إسرائيل” كقوة إرهابية وكأداة عسكرية وكجنون عسكري جانح بهذه الدرجة أقلقت هؤلاء الناس من اليهود.

الدور التركي

* كريشان: في ظل حديثكم بإسهاب عن موضوع الدور المصري، وغياب الدولة القائدة أو الرائدة.

 هيكل مقاطعا: هذا رأيك، فلا تدخلني فيه.

 كريشان: نعم، رغم كل هذا الوضع هناك حديث متنامٍ عن دور تركي بارز وآخر إيراني بارز في المنطقة، والبعض يذهب إلى أنه لغياب الدور العربي برز هذان الدوران بهذا الشكل. بالنسبة للموضوع التركي، برز اتجاهان، يبدو أنها تبتعد عن “إسرائيل”، وهو ما قد يتم تصويره إعلاميا، مقابل اقترابها بالتوازي من الجيران العرب، واتفاقها مع سوريا، حتى إن بن عيزرا، أحد الوزراء “الإسرائيليين”، أشار إلى ضرورة التصرف بحساسية تجاه هذا الموضوع، حتى لا تتحقق ما سماه “التوقعات السوداء” في إشارة إلى أن تركيا قد تنقلب عليهم، فكيف تنظرون إلى الدور التركي، وخاصة فيما يتعلق بالتاريخ والجغرافيا وأن سوريا ابتعدت عن التاريخ، واقتربت من الجغرافيا، كما سبق وأشرتم؟

 هيكل: قبل أن أجيب عن ذلك، أتوقف مع ما ذكرته عن بن عيزرا الوزير “الإسرائيلي”، هذا الرجل جاء مع نتنياهو لزيارة مصر في مايو/(أيار) الماضي، أي الزيارة الأولى له بعد انتخابه، وهذا الرجل “بن عيزرا” محكوم عليه في محاكم مصرية كثيرة، وذلك لأنه هو الذي أمر بقتل أسرى الحرب المصريين، واستقباله في مصر من الأمور التي تضعف موقفنا للغاية نتيجة المبالغة، فهذا الرجل ارتكب جريمة في حق مصر، والرقم الحقيقي لقتلاه من أسرى جنود الحرب المصريين 65 ضابطاً وجندياً، وعندما كتبنا ذكرنا أن عددهم 6500 أسير، وقال البعض 65 ألفاً وهذه المبالغة تضعف حجتنا.

وفي الخطاب الذي وجهه نتنياهو، قال للمصريين إنني قادم إليكم ومعي صديق مصر وصديقكم “بن عيزرا”، وجاء به إلى مصر، وعندما رأيته وهو يزور مصر قلت هذه وقاحة.

لأن هذا الرجل محكوم عليه قضائيا في مصر، وظل ثلاثة أعوام لا يستطيع فيها زيارة مصر، إلى أن جاء مع نتنياهو في ظرف كنا نعيش فيه هذا الوهم المتعلق بالدور “الإسرائيلي” وما يمكن أن تفعله.

وهذا الرجل ليس صديق مصر، وليس صديق أي أحد آخر، ولكن الغريب للغاية أنه في ذلك الوقت كان رئيس أركان الجيش “الإسرائيلي” اشكنازي على وشك الهبوط، بعدما قيل له إنه مطلوب في جرائم حرب، وهذا الرجل “بن عيزرا” ارتكب جريمة حرب، ثم يقف نتنياهو يتبجح ويقول إنه صديقي وصديق مصر.

وعندما نتحدث عن تركيا أود الحديث في أمرين، يمكن أن يؤثرا فيما هو قادم، أنه في داخل كل بلد عربي حدث نوع من تجريف وتفريغ للحياة السياسية، فكل حالة سياسية في أي بلد تقوم على أمرين، الأول: حوار يرد عليه وتتم مناقشته بإثارة قضايا، والثاني: وعي يصل للناس، يجعلهم يتحدثون في المستقبل، وهذا هو فعل السياسة.

* كريشان مقاطعا: جميل عبارة “تجريف الحياة السياسية”، فهو تعبير جيد.

 هيكل: نعم هذا ما حدث في العالم العربي، فقد تم تجريف الحياة السياسية وأعتقد أن مستقبلنا معلق بمجهودات كثيرة في الداخل، وفي الخارج، ونتيجة الخيارات الخاطئة حدث تجريف وتفريغ للتاريخ، ولذلك بدأت الجغرافيا تقوم بدور عندما عز الفعل التاريخي للبشر، حيث أضحت طبائع الأرض والجوار تسحب وتؤثر.

تركيا بالنسبة لي مهمة، وقد كنت واحدا من الناس المعتقدين بأن هناك دورا تركيا قادما، لأن التجريف والتفريغ في العالم العربي كان واضحا أنه يلازمه دخول تركيا في تناقض مع “إسرائيل” وأذكر أنني ذكرت ذلك على شاشة “الجزيرة”، كما تفضلت أنت وذكرته في نشرة الأخبار، وما أود قوله إن العالم العربي آثر أن يهاجر التاريخ كله لأسباب مختلفة، وبدأت الجغرافيا تقوم بأدوار مختلفة.

وبالنسبة لسوريا، فقد كانت تنظر دائما إلى العراق ومصر بفعل التاريخ الثقافي بالدرجة الأولى، والاتصال الإنساني، إلى أن توقف ذلك، بعد أن دخلنا التسوية بمفردنا، إذا جاز لنا أن نقول إنها تسوية فهي ليست سلاما ولا شيئا أبدا.

وأنا لست مهتما بمناقشة إن كنا قد خضنا آخر الحروب أم لا، لكن ما أود قوله إن سوريا بقيت وحدها ولديها أرض محتلة، ولذلك كانت رؤيتها لتعزيز قوتها مع دول الجوار واتجاهها إلى إيران وتركيا.

وحقيقة أرحب بهذا لعدة أسباب، منها أن إيران نطاق آخر لأمننا ودفاعنا، ومعها تركيا، فهناك موروثات دينية وثقافية موجودة مع البلدين “تركيا وإيران”، تليهما باكستان، وهم يمثلون النطاق الشمالي للعرب.

وأعتقد أن تركيا حدث بها تغيير تاريخي توافق مع الاتجاه الجغرافي في العالم العربي، فتركيا لم تستطع القيام بدور في أوروبا، وأعتقد أن دورها الأوروبي محكوم عليه، لأن طبيعتها الإسلامية يجعلها تتجه جنوبا أكثر، وليس لأوروبا.

* كريشان: حتى وزير الخارجية التركي اعتبر أن سوريا بالنسبة لبلاده هي البوابة العربية.

 هيكل: حقيقة سمعت اليوم كلمة الرئيس البلغاري وهو يرحب بالرئيس المصري ويقول له: إنكم بوابة العبور لنا لإفريقيا، فنحن لا ينبغي أن نكون بوابات، ونتمنى أن نكون ساحات وليس بوابات.

أعود لتركيا، فالغرب بعيد عنها وهناك تغيير في دور الجيش بأنه أصبح مقلا في ظل خطوات الانضمام لأوروبا، وأصبح الجيش التركي حارسا للعلمانية بمقتضي الدستور.

الأمر الآخر، أن ثقافة تركيا قريبة من المنطقة العربية، وبها الإسلام عنصر من عناصرها، ولذلك فإن طبيعتها الإسلامية تجعلها قريبة أكثر للشرق الأوسط، وليس لأوروبا وهذا بحكم التاريخ، مقابل الذهاب إليها من جانب العرب كهاربين إليها بحكم الجغرافيا.

وبالنسبة لإيران، أعتقد أنه في مستقبل التاريخ، فإنه سيحاسبنا حسابا عسيرا للغاية لمن أضاع إيران، وأتحدث في هذا الموضوع بلا حساسية لسبب واحد، وهو أنني أعتقد أننا نرتكب تجاه إيران خطيئة كبرى تصل إلى حد الجرائم التاريخية، كما سبق وذكرت ذلك.

وهناك من يعتقد أن بيننا وبين إيران تناقضاً وقد يكون ذلك واردا، ولكن من المهم أن نفرق بين تناقض يؤدي إلى عداء، وبين تناقض يؤدي إلى حوار.

ومع إيران، بدأنا معها بعداء، وأعود لأتحدث عن مرحلة الوهم الأمريكي ومرحلة الاعتماد على أمريكا، ونحن وسط هذا “المخدر” وقعت الثورة الإيرانية، ونظرنا إليها بعداء، وذلك لأن شاه إيران كان ضمن الحلف المتخوف من توسع نصر أكتوبر، وأذكر أنني عندما قابلت الخميني في باريس آخر العام ،1979 كان يقول لي إن الأزهر يعاديني وأخرج لي فتاوى صادرة عن مشيخات كثيرة في مصر، كلها تلوم الخميني لأنه خارج عن طاعة ولي الأمر.

وإذا جاز لنا أن نتحدث عن إيران، فإنه لابد من الحديث عن كيفية وجود المؤسسة الشيعية بها، ونحن في زمن طويل للغاية، أي في مصر، تصدينا للعناصر الثائرة في إيران، ومنها المؤسسة الدينية في قم، ووقتها قال شاه إيران لجماهير الشعب في إيران، وهو يغلق المدرسة الفيضية في ذلك الوقت ويطبق على المؤسسة في قم، ما رأيكم في إمام ديني كبير يحصل على مساعدة من زعيم عربي، ويريد أن يسلمه بترول إيران؟ وهو هنا كان يتحدث عن جمال عبد الناصر.

ويومها رد عليه الخميني، وأريد أن يتذكر الناس ذلك، وقال له: إنه أخذ مساعدة من زعيم مصري مسلم لكي يواجه طغيان حاكم مسلم آخر.

المصيبة الكبرى أننا كنا نقول إن شاه إيران كان يعطينا بترولا، على الرغم من أنه لم يكن يعطينا بترولا على الإطلاق، وأتحدى أن يقدم لنا أحد اسم ناقلة وصلت إلى السويس من إيران حاملة بترول لمصر.

الموقف من إيران

* كريشان: بالنسبة لإيران، أستاذ هيكل، الآن بعدما يبدو أنه تسوية معينة لملفها، يشير البعض من كتاب خليجيين إلى أن أمريكا وإذا كانت قد اندفعت عسكريا نحو العراق عام ،2003 فقد سلمت العراق عمليا لإيران، الآن وهي تندفع سياسيا نحو إيران، قد تسلم منطقة الخليج للأمريكيين، وهناك خوف من أن صفقة ما يجري ترتيبها بين إيران والولايات المتحدة، حسب البعض، لذلك هل تعتقد أن إيران قادمة على ترتيب معين مع الولايات المتحدة، ليكون هناك دور كبير وبارز لها في المنطقة خلال المرحلة المقبلة؟

 هيكل: أنت تتحدث عن قضية مهمة للغاية، وخاصة بالعقل العربي، أحيانا نتصور أن أحدا لديه مفاتيح يمكن من خلالها توزيع المهمات والتحركات، فهذا لا يحدث. والواضح، أننا نرتب ما نكون نتصوره، ثم نرتب الوقائع على أساسه، لكن ما يجب أن نفعله هو أن نقرأ الوقائع، ثم ننظر إليها وليس العكس.

والواقع، فإن من يدعي أن أمريكا سلمت العراق لإيران هو قول ليس صحيحا بالمرة، وأتصور أن أسباب الاحتكاك بينهما هو هذا الأمر.

وموضوع إيران، أنه عندما انسحب العرب من التاريخ لأسبابهم، حدث نوع آخر هو الثورة الإسلامية، التي دخلت التجربة، والتي يمكن أن تواجهها أي أمة. ونحن نقول إن السلاح النووي الإيراني يقلقنا، ولست أدري لماذا يقلقنا، وأمامي إحصائيات هنا كثيرة للغاية، وعلى مستويات عالمية عن السلاح النووي “الإسرائيلي”. فما لدى “إسرائيل” أكثر مما لدى الهند وباكستان من قنابل نووية، وما لدى “إسرائيل” أكثر مما لدى فرنسا نوويا، وأكثر مما لدى انجلترا أيضا.

ولذلك يزعجني جدا من يردد أن إيران تجري مشروعا نوويا وتعد لقنبلة، مقابل ما لدى “إسرائيل” من قوى نووية أكثر بكثير للغاية من قوى دولية كبرى، دون أن نقلق نحن كعرب.

وهذا الأمر ضمن أفكارنا الخطيرة للغاية التي تصورنا فيها أمريكا، وتصورنا فيها “إسرائيل” وأن الحل في أيدي أمريكا.

ونحن لم نبادر إيران فقط بعداء، ولكننا حاولنا إجراء تخريب في إيران، أشهرها حادثة إنقاذ الرهائن الأمريكيين الذين تم احتجازهم في السفارة الأمريكية، وهو ما لا يتناسب مع مصر، وما ينبغي أن يكون عليه دورها، فليس هذا دورها.

واليوم هنا قلق “إسرائيلي” في أن تبرز دولة نووية في المنطقة، وحقيقة أنا مستعد على تحريض أن تكون إيران نووية، وأوافق أن تصبح تركيا نووية أيضا.

* كريشان: كلمة النهاية علينا أن نعود إلى المستوى القطري لإعادة البناء، أليس كذلك؟

 هيكل: ليس بهذه الصورة، فنحن بحاجة إلى بدء من جديد، ولا يمكن الهروب منه، وإذا كنت تسألني عن كلمة أخيرة، فانك يمكن أن تسألني عن جدوى ما أقوله وأنا لست أعتقد بوجود جدوى. ولدينا في العالم العربي هواية لست متحمسا لها وهي لعبة “الكاراتيه” فهناك في العالم العربي “كاراتيه” إعلامي وآخر أمني.

و”كاراتيه” لكيلا تنسى فهي لعبة أو رياضة، نشأت في تايوان، وهي الدفاع عن النفس، دون أن يكون لدى الشخص أسلحة، فيتم استعمال الأيدي بكل أجزاء الجسم، للقضاء على العدو من دون سلاح.

لذلك، فلا جدوى من الكلام، ولكن من الممكن أن نجد لعبة “كاراتيه” إعلامي، ليس لي شأن به.

من هنا فإن كل نقاش سياسي دائما ما ينتهي إلى لعبة “الكاراتيه” بوجود قوات أمنية تلعب “كاراتيه” تذبح الناس، أو “كاراتيه” إعلامي يمنع أو يقمع أي فكرة.

* كريشان: ربنا يحمينا من “الكاراتيه”

 هيكل: هل تلعب “الكاراتيه”؟

* كريشان: ليست لي علاقة به

عن الخليج الاماراتية

إقراء أيضا