مـدخــل :
جاء الدين الإسلامي الحنيف ليعزز من دور الفضيلة التي أمرت بها الأديان السابقة وعمل على إحيائها وتفعيلها من خلال زرعها في قلوب ونفوس المؤمنين لتنعكس ايجابياً من خلال معاملات الناس واحتكاكه
م ببعضهم البعض لينتج عن ذلك مجتمع فضائلي بالدرجة ا لأولى.
ولأن التسامح بين أفراد المجتمع من ضروريات انسجام ذلك المجتمع وتعايشه فكان لا بد أن يكون التسامح إحدى ثمار ذلك المجتمع الفضائلي.
وفي القرآن الكريم والسنة النبوية ما يؤكد على أن التسامح من الركائز الأساسية التي يستند إليها المجتمع المسلم في معاملاته سواء بين أفراده أو بينه وبين المجتمعات الأخرى ففي القرآن الكريم وردت آيات كثيرة تحث على إحياء وتفعيل فضيلة التسامح.
قال تعالى : (( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)). آل عمران 134.
وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم وهو يعض ابنه :
(( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)). سورة لقمان.
وقال تعالى : (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)) الشورى 43.
وفي السنة النبوية المطهرة وردت أحاديث تحت على ذلك أيضاً ومنها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
وقال صلى الله عليه وسلم (( رحم الله امرأ سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى)).
وقال صلى الله عليه وسلم (( إن الله عزوجل يحب العفو ثم قرأ قوله تعالى ((وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)). رواه الطبراني واللفظ لأبي نعيم.
إذاً ليس اعتباطاً أن يقول الإنسان المسلم بأن دينه هو من أكثر الأديان تسامحاً وذلك لأنه جاء ليعزز من القيم والأخلاق التي جاءت بها الأديان السابقة بل ويزيد عليها ويأمر بتفعيلها لتتحقق قيم المحبة والتعايش بين بني البشر.
التصوف مدرسة التسامح:
أولاً ما يجب التأكيد عليه هنا أن التصوف كفكر وجد مع وجود الإنسان على هذه الأرض مما يعني أنه سبق الأديان السماوية( ) لذا فقد صاحب التصوف جميع الأديان التي وجدت على هذه الأرض ولما جاء الإسلام كان التصوف هو جوهرة وحقيقته.
لذا يعد التصوف من أهم المدارس الإسلامية واكثرها اهتماماً بالإنسان فهو يرى الإنسان نفحة الله في هذه الحياة وهو مظهر تجليات الحق بصوره وصفاته كما أنه محل تنزلات أنوار الحق وأسراره.
ومن هنا ترى الصوفية أن على الإنسان السير إلى الله من خلال استكشاف تلك الأنوار وتلك الأسرار والتفاعل مع تلك الصور والصفات الربانية التي تحلو بها الحياة وتطيب بها القلوب وتتزكى بها النفوس.
ومن أجل الوصول إلى ذلك يعتمد الفكر الصوفي على أساسيات معينة ينبغي على الإنسان التدرج من خلالها وهي ما تسمى في المدرسة الصوفية اليوم بالمقامات.
ونذكر هنا أهم المقامات المتعلقة بموضوع هذه الورقة:
أ- مقام مجاهدة النفس واصلاحها:
اجمع الكثير من العلماء والفلاسفة والباحثين في هذا الفكر أن علم التصوف من أهم العلوم اهتماماً بتزكية النفس ومعالجة أمراض الباطن.
قال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال
(أن للتصوف دور كبير في مداوات أمراض القلوب والنفوس).
وقال الحارث النحاسي ( أن الله كشف لنا أدوية نشفي بها أمراض نفوسنا ونفوس الآخرين ونواسي بها قلوب المحزونين من الخلق) ( ).
ويقول أبو مغيث الحلاج (الصوفي يكشف عيوب نفسه ليعالجها في نفسه وفي غيره ويرتفع بمستوى حياة الروح ليجعل منها نموذجاً يحتذى به ليس فقط في أصحابه في الطريق بل وسائر الأمة) ( ).
ومن هنا يكتشف الباحث أن للنفس فلسفة خاصة لدى المتصوفة فالصوفي يرى في النفس أنها مدعاة للأنا والأنا بحسب الدراسات النفسية لبعض المتصوفه تجلب للإنسان الكثير من الرذائل التي تحجبه عن غايته الحقيقية في هذا الوجود وهو ما يرى الصوفي أن عليه ازالة تلك الحجب التي تتعلق بالأنا لكي يتسنى له الاتصال بمحبوبه وقد قيل قديماً ((من قال أنا ذاق العنا)).
إذاً الصوفي يعمل على تهذيب نفسه من خلال مخالفتها فلا يوافقها قط فيما تهواه قال الإمام عبدالوهاب الشعراني: إن رأس مال المريد مخالفة نفسه ومن أطلق عنان نفسه فيما تهواه فقد اهلكها وأهلكته( ).
وقال أيضاً (إنما عمل المريد الدائم في تنظيف باطنه وظاهره عن الصفات التي تمنعه من دخول حضرة الله عزوجل كالغضب وعزة النفس والكبر والعُجب والحسد( ).
قال الشاعر:
تهذب أ خلاق الندامى فيهتدي بها لطريق العزم من لا له عزم
ويكرم من لم يعرف الجود كفه ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
ب- مقام الحب:
تميزت المدرسة الصوفية بالحب والمحبة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع المخلوقات. فالصوفي يحب كل مخلوق لله سبحانه وتعالى على هذه الأرض ويتقرب بهذا الحب إلى محبوبه الأعلى.
قال الشيخ الأكبر العارف بالله محي الدين بن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقال حجة الإسلام الغزالي (( من ادعى حب الجنة ولم يعمل بالطاعة فهو كذاب ومن ادعى حب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحب العلماء والفقراء فهو كذاب ومن ادعى حب الله وشكا البلوى فهو كذاب)).
وقالت رابعة العدوية رضي الله عنها :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وقال الشبلي رضي الله عنه:
أهل المحبة شربوا بكأس الوداد فضاقت عليهم الأرض والبلاد وعرفوا الله حق معرفته وتاهوا في عظمته وتحيروا في قدرته وغرقوا في بحر أنسه وتلذذوا بمناجاته. ثم أنشد:
ذكر المحبة يا مولاي أسكرني وهل رأيت محباً غير سكرانا( )
وسئل إبراهيم الخواص عن المحبة فقال:
هي محو الإرادات وإحراق جميع الصفات والحاجات وإغراق النفس في بحر الإشارات( ).