الرئيسية المقالات تقارير التصوف عنوان التسامح
التصوف عنوان التسامح
محمد شمسان
محمد شمسان

مـدخــل :
جاء الدين الإسلامي الحنيف ليعزز من دور الفضيلة التي أمرت بها الأديان السابقة وعمل على إحيائها وتفعيلها من خلال زرعها في قلوب ونفوس المؤمنين لتنعكس ايجابياً من خلال معاملات الناس واحتكاكه م ببعضهم البعض لينتج عن ذلك مجتمع فضائلي بالدرجة ا لأولى.
ولأن التسامح بين أفراد المجتمع من ضروريات انسجام ذلك المجتمع وتعايشه فكان لا بد أن يكون التسامح إحدى ثمار ذلك المجتمع الفضائلي.
وفي القرآن الكريم والسنة النبوية ما يؤكد على أن التسامح من الركائز الأساسية التي يستند إليها المجتمع المسلم في معاملاته سواء بين أفراده أو بينه وبين المجتمعات الأخرى ففي القرآن الكريم وردت آيات كثيرة تحث على إحياء وتفعيل فضيلة التسامح.
قال تعالى : (( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)). آل عمران 134.
وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم وهو يعض ابنه :
(( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)). سورة لقمان.
وقال تعالى : (( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)) الشورى 43.
وفي السنة النبوية المطهرة وردت أحاديث تحت على ذلك أيضاً ومنها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
وقال صلى الله عليه وسلم (( رحم الله امرأ سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى)).
وقال صلى الله عليه وسلم (( إن الله عزوجل يحب العفو ثم قرأ قوله تعالى ((وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)). رواه الطبراني واللفظ لأبي نعيم.
إذاً ليس اعتباطاً أن يقول الإنسان المسلم بأن دينه هو من أكثر الأديان تسامحاً وذلك لأنه جاء ليعزز من القيم والأخلاق التي جاءت بها الأديان السابقة بل ويزيد عليها ويأمر بتفعيلها لتتحقق قيم المحبة والتعايش بين بني البشر.

التصوف مدرسة التسامح:
أولاً ما يجب التأكيد عليه هنا أن التصوف كفكر وجد مع وجود الإنسان على هذه الأرض مما يعني أنه سبق الأديان السماوية( ) لذا فقد صاحب التصوف جميع الأديان التي وجدت على هذه الأرض ولما جاء الإسلام كان التصوف هو جوهرة وحقيقته.
لذا يعد التصوف من أهم المدارس الإسلامية واكثرها اهتماماً بالإنسان فهو يرى الإنسان نفحة الله في هذه الحياة وهو مظهر تجليات الحق بصوره وصفاته كما أنه محل تنزلات أنوار الحق وأسراره.
ومن هنا ترى الصوفية أن على الإنسان السير إلى الله من خلال استكشاف تلك الأنوار وتلك الأسرار والتفاعل مع تلك الصور والصفات الربانية التي تحلو بها الحياة وتطيب بها القلوب وتتزكى بها النفوس.
ومن أجل الوصول إلى ذلك يعتمد الفكر الصوفي على أساسيات معينة ينبغي على الإنسان التدرج من خلالها وهي ما تسمى في المدرسة الصوفية اليوم بالمقامات.
ونذكر هنا أهم المقامات المتعلقة بموضوع هذه الورقة:
أ‌- مقام مجاهدة النفس واصلاحها:
اجمع الكثير من العلماء والفلاسفة والباحثين في هذا الفكر أن علم التصوف من أهم العلوم اهتماماً بتزكية النفس ومعالجة أمراض الباطن.
قال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال
(أن للتصوف دور كبير في مداوات أمراض القلوب والنفوس).
وقال الحارث النحاسي ( أن الله كشف لنا أدوية نشفي بها أمراض نفوسنا ونفوس الآخرين ونواسي بها قلوب المحزونين من الخلق) ( ).
ويقول أبو مغيث الحلاج (الصوفي يكشف عيوب نفسه ليعالجها في نفسه وفي غيره ويرتفع بمستوى حياة الروح ليجعل منها نموذجاً يحتذى به ليس فقط في أصحابه في الطريق بل وسائر الأمة) ( ).
ومن هنا يكتشف الباحث أن للنفس فلسفة خاصة لدى المتصوفة فالصوفي يرى في النفس أنها مدعاة للأنا والأنا بحسب الدراسات النفسية لبعض المتصوفه تجلب للإنسان الكثير من الرذائل التي تحجبه عن غايته الحقيقية في هذا الوجود وهو ما يرى الصوفي أن عليه ازالة تلك الحجب التي تتعلق بالأنا لكي يتسنى له الاتصال بمحبوبه وقد قيل قديماً ((من قال أنا ذاق العنا)).
إذاً الصوفي يعمل على تهذيب نفسه من خلال مخالفتها فلا يوافقها قط فيما تهواه قال الإمام عبدالوهاب الشعراني: إن رأس مال المريد مخالفة نفسه ومن أطلق عنان نفسه فيما تهواه فقد اهلكها وأهلكته( ).
وقال أيضاً (إنما عمل المريد الدائم في تنظيف باطنه وظاهره عن الصفات التي تمنعه من دخول حضرة الله عزوجل كالغضب وعزة النفس والكبر والعُجب والحسد( ).
قال الشاعر:
تهذب أ خلاق الندامى فيهتدي  بها لطريق العزم من لا له عزم
ويكرم من لم يعرف الجود كفه  ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
ب- مقام الحب:
تميزت المدرسة الصوفية بالحب والمحبة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولجميع المخلوقات. فالصوفي يحب كل مخلوق لله سبحانه وتعالى على هذه الأرض ويتقرب بهذا الحب إلى محبوبه الأعلى.
قال الشيخ الأكبر العارف بالله محي الدين بن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان وكعبة طائف  وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت  ركائبه فالحب ديني وإيماني

وقال حجة الإسلام الغزالي (( من ادعى حب الجنة ولم يعمل بالطاعة فهو كذاب ومن ادعى حب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحب العلماء والفقراء فهو كذاب ومن ادعى حب الله وشكا البلوى فهو كذاب)).
وقالت رابعة العدوية رضي الله عنها :
 تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
 لو كان حبك صادقاً لأطعته  إن المحب لمن يحب مطيع
وقال الشبلي رضي الله عنه:
أهل المحبة شربوا بكأس الوداد فضاقت عليهم الأرض والبلاد وعرفوا الله حق معرفته وتاهوا في عظمته وتحيروا في قدرته وغرقوا في بحر أنسه وتلذذوا بمناجاته. ثم أنشد:
 ذكر المحبة يا مولاي أسكرني وهل رأيت محباً غير سكرانا( )
وسئل إبراهيم الخواص عن المحبة فقال:
هي محو الإرادات وإحراق جميع الصفات والحاجات وإغراق النفس في بحر الإشارات( ).

ج- مقام الصبر والرضاء:-
الصبر والرضاء من المقامات التي يتدرج عليها السالك في طريق القوم وهما من الصفات التي أمر بها الله عزوجل عبادة التحلي بها ومن أهم الصفات التي اتصف بها نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم وربى صحابته الكرام عليها ولذا اعتبر مشائخ الطرق الصوفية الصبر من أهم المقامات التي تنهض بهمة السالك وتدفعه إلى الوصول والاتصال بحر الملك العلام.
قال الدكتور : حسن عاصي في كتابه التصوف الإسلامي:
الصبر هو المقام الخامس وعرفه أنه انتضار الفرج من الله وهو أفضل الخدمة وأعلاها.
وقال أيضاً نقلاً عن عوارف المعارف الصابرون ثلاثة:
متصبر وهو من صبر من الله فمرة يصبر ومرة يجزع.
صبار وهو من يصبر من الله ولله فلا يجزع.
صبار وهو من كان صبره من الله ولله وبالله.
وقال الشبلي:
إن صوت المحب من ألم الشوق وخوف الفراق يورث ضرا
 صابرا العبد فاستعلت به الصبر فصاح المحب للصبر صبر
وقال العارف بالله أحمد بن علوان:
 محب سرى محبوبه في فؤاده فياحبذا ذاك الحبيب إذا يسري
 فعانقه سراً أسير بجسمه  وقال حبيبي هل أفك من الأسري
 فقال له اصبر إنني لك مؤنس وإن مفاتيح الرغائب بالصبري
 فقال حبيبي كيف اصبر والهوى قريني ونفسي والموسوس في الصدر
 وكلاً إلى ما يشتهيه يقودني  فعمري كركبان السفينة في البحري
د- مقام التسامح:
قد يتسائل الكثير هنا ما علاقت ما ذكر سابقاً بموضوع التسامح الذي هو محور هذه الندوة؟ وكيف كانت المدرسة الصوفية هي مدرسة التسامح والمسامحة؟
أقول كان لا بد لأي باحث في الفكر الإسلامي الصوفي وهو يبحث في موضوع التسامح أن يمر على تلك المقامات وغيرها من المقامات التي يتدرج عليها المريد أو السالك لتصنع منه رجل سموماً بامتياز.
إذ كيف للطبيب أو المهندس أو للمعلم أن يصل إلى ما وصل إليه دون أن يمر بمستوى المراحل الدراسية المطلوبة للوصول إلى تخصص.
وهو الحال نفسه مع الصوفي المتسامح الذي لا يرى لنفسه وجود مع وجود الحق ومن لا وجود له هل يمكن له أن يفكر في الثأر لنفسه أو يغضب لنفسه أو هل له أن يعمل على معاقبة الآخرين وهو لا يرى فيهم سوى صور الحق وصفاته وأسراره وأنوار. إذاً التصوف هو المدرسة الحقيقية التي ينبغي على جميع الخلائق أن تتعلم منه التسامح والمسامحة.
والتصوف الذي جعل السيده رابعة العدوية تتسامح مع الرجل الذي كان يملكها ويعمل على تعذيبها وتجويعها هو نفسه التصوف الذي جعل الحلاج يدعو لمن حكموا عليه بالصلب والشنق بقوله اللهم اغفر لقومي فإنهم يقتلونني غيرة على دينك.
وأخيراً اختتم ورقتي هذه برواية وردت في الأثر وهي أن أحد العارفين كان له مريد يتتلمذ أو يتربى على يديه فأراد الشيخ أن يختبر مريده هذا فأخذه معه إلى السوق وكان الشيخ والمريد في حالة شديد من الجوع والعطش.
وعند مرورهما في السوق جاء إليهما رحلاً يحمل معه الخبز والحلوى واللبن فاعطاهم فأكلوا حتى شبعوا فحمد الله تعالى على ذلك وفي اليوم الثاني مرر على نفس المكان فاصطدما الشيخ بنفس الرجل الذي اعطاهم الحلو فوقع ما كان يحمله فستدار الرجل وأخذ يضرب الشيخ حتى أدماه لكن الشيخ لم يرد وبعد انصراف الرجل قال الشيخ الحمد لله والشكر لله.
فقال له المريد كيف تحمد الله يا شيخ وقد ادماك الرجل.
قال الشيخ يا بني أن من أدماني اليوم هو نفسه من اعطاني الخبز والحلوى بالأمس فله الحمد وله الشكر.
قال الشيخ أحمد بن علوان قدس الله سره وهو يصف خطاب المحبوب للمحب:
أيها القلب الذي جن بنا    اصطبر تبلغ بالصبر المنى
انت لنا اليوم ومن كان لنا   كان مشغولاً عن الخلق بنا
أنت لنا اليوم ومن كان لنا   لم يقل مفتخراً قط أنا
أنت لنا اليوم ومن كان لنا  كان منا وإلينا وبنا
أنت لنا اليوم ومن كان لنا  كان فينا فانياً قبل الفناء
أنت لنا اليوم ومن كان لنا  كان محبوباً لطيفاً فطنا
فاتخذ هذا سبيلاً وليكن  عندنا روحك والجسم هنا
____
ورقــة عمل قدمت



لنـــدوة ثقافة وسؤال التسامح



التي عقدت في مركز الدراسات والبحوث بصنعاء



الأربعاء 28/10/2009م



  

إقراء أيضا