Home Articles Orbits رسالة إلى الدكتور عصام العريان
رسالة إلى الدكتور عصام العريان
معن بشور
معن بشور

على منبر "السفير" التي تتصدّر كلمات جمال عبد الناصر صفحتها الأخيرة منذ انطلاقتها في مثل هذه الأيام منذ أربعين عاماً، نشرت مقالاً بعنوان "رسالة إلى الرئيس مبارك"، تتضمن اعتراضاً على اعتقال الدكتور عصام العريان نقيب أطباء مصر في أواسط التسعينات وتدعو إلى الإفراج عنه، وقد نوّهت بمزايا الدكتور العريان "الوحدوية" والعقلانية وحرصه على التلاقي بين تيارات الأمّة الرئيسية، الإسلامية واليسارية واليبرالية وطبعاً التيار القومي، الذي يشكّل التيار الناصري القلب منه.

ويومها أيضاً وقف محامون وإعلاميون ناصريون أمام القضاء، وفي المقدّمة منهم الراحل الكبير ضياء الدين داود رفيق عبد الناصر وأمين عام الحزب العربي الديمقراطي الناصري، وأمين عام المؤتمر القومي العربي سابقاً، والمشرف العام على جريدة "العربي" الناصرية، يدافعون عن العريان وإخوانه في تأكيد منهم على أن صراعات الماضي قد تمّ تجاوزها لصالح بناء كتلة تاريخية كبرى في الأمّة تلتقي حول مشروع نهضوي عربي جامع يشكّل رداً على التحديات الكبرى التي تواجهها.

وقبل اعتقال العريان بسنوات قليلة، تعاهدنا قوميون وإسلاميون على تشكيل مؤتمر للتحاور والتشاور بين ممثلين عن تيارات الأمّة حول برنامج لمواجهة الهجمة الاستعمارية الصهيونية على الأمّة، كما لمواجهة واقع الاستبداد والفساد الطاغي على حياة أبناء الأمّة، واشتركنا مع العريان يومها في التحضير لذلك المؤتمر القومي - الإسلامي، كما توافقنا، قوميون وإسلاميون، على اختياره منسقاً عاماً للمؤتمر رغم أنه كان ممنوعاً من السفر، ثم جرى اعتقاله طيلة مدّة ولايته، فيما لم نتوقف بالمقابل عن المطالبة بالإفراج عنه بشتّى الوسائل المتاحة لنا، على محدوديتها.

وكانت هذه المواقف والأطر الجامعة هي ترجمة لأجواء سادت أعمال "ندوة الحوار القومي – الديني" التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في أواخر أيلول/سبتمبر 1989، حيث قام القوميون والإسلاميون في عملية نقد ذاتي حضارية لأخطائهم في المرحلة السابقة، فانتقد الناصريون أخطاء رافقت تجربة حكمهم، كما انتقد الإسلاميون انزلاقهم في معارك قاسية مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

كانت القاعدة التي اعتمدنا عليها في تلك الأيام الجامعة أن لا نعكس صراعات الماضي على علاقات الحاضر، وكنّا نظن أننا افتتحنا عصراً جديداً من التعاون والتكامل بين كل التيارات النهضوية الفاعلة في الأمّة، إسلامية كانت أم يسارية وحدوية، أو ليبرالية وطنية، أو قومية، وكنا نظن أننا نؤسس لإرث من الرؤى المشتركة ندخل من خلالها مساحات الخلاف لنحاصرها بدلاً من أن ندخل إلى مساحات تجمعنا من نقاط نختلف عليها، فنعيد الأمّة إلى لحظات التناحر والانقسام التي دفعت ثمناً غالياً بسببها.

لم يكن يدر بخلدنا بعد كل هذه الإنجازات التي انعكست مؤتمرات وندوات وملتقيات ومؤسسات ومواقف مشتركة، أننا سنجد أنفسنا أمام قاعدة معاكسة لتلك القاعدة الحضارية، أي أن ننقل صراعات الحاضر إلى الماضي لنبش أحقاد لا تنعكس آثارها الضارة على مصر نفسها بل على امتداد الأمّة كلها.

ولا أغالي أنني فوجئت، كما كثيرين من إخواني، بالدكتور عصام العريان بالذات، يشن هجوماً قاسياً وغير موضوعي على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، مستحضراً صراعات الماضي الذي كنّا نظن أننا دفنا آثاره السلبية إلى غير رجعة.

ولا أنكر أنني كنت في السنتين الأخيرتين أحاول التماس أعذار لتصريحات متوترة ومتكرّرة للعريان في قضايا عدّة، وكنت أرد توتر تصريحاته، كما توتر تصريحات بعض الأخوة من التيار العروبي الناصري في مصر، إلى حدّة الصراع الدائر اليوم على أرض مصر، بل لقد سعينا في الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي خلال انعقادها في صنعاء قبل شهرين، وباقتراح من الأخوة الناصريين المصريين بالذات، إلى تشكيل لجنة مساعٍ حميدة تتوجه إلى مصر وتلتقي قيادات إسلامية وناصرية لإيجاد مخرج للأزمة المتفاقمة في مصر، وكانت اللجنة تضم كل من الأستاذ منير شفيق المنسق العام للمؤتمر القومي – الإسلامي، والدكتور إسماعيل الشطي الشخصية الكويتية التاريخية في الحركة الإسلامية، والكاتب والأديب محمد سعيد طيب ابن الجزيرة العربية الذي أمضى سنوات من عمره في السجون بسبب مواقفه ومجاهرته بالوفاء لجمال عبد الناصر، ولقد التقت اللجنة بالفعل المرشد العام للإخوان المسلمين ونائبه وعدد من قادة الجماعة، كما التقت الأستاذ حمدين صباحي وعدداً من زملائه الناصريين، ووضعت بين أيديهم جملة مقترحات تخرج مصر من أزمتها، وفي مقدمها تشكيل حكومة ائتلاف وطني تعيد رصّ صفوف القوى التي شاركت في الثورة.

غير أنني اليوم لا أجد أي تبرير لتهجم العريان على القائد التاريخي جمال عبد الناصر، إلاّ تغليب الاعتبارات الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية والقومية والإسلامية العليا.

والهجوم على جمال عبد الناصر اليوم، بعد كل ما شهدته مصر والأمّة منذ غيابه من ضعف وهوان وتخاذل واحتلالات واعتداءات، لا يستفزّ القوى الناصرية وحدها، ولا القوى القومية فقط، ولا حتى جيش مصر الذي خرج عبد الناصر من صفوفه ثائراً، كما خرج أحمد عرابي وأحمد عبد العزيز وعبد المنعم رياض، ومحمد فوزي، وسعد الدين الشاذلي وغيرهم من أبطال القوات المسلحة، بل أنه يستفز حقائق تاريخية ساطعة شهدتها مصر أولاً، والأمّة ثانياً، وحركة التحرر العالمية ثالثاً.

ولا يتسع المجال هنا لكي نُذكّر بما أنجزه جمال عبد الناصر، بما فيها قيامه بأكثر من عملية مراجعة نقدية لتجربته، وصلت إلى حدّ إعلان استقالته بعد حرب حزيران 1967، ولكن يكفي أن الملايين من عائلات مصر استطاعت تعليم ابنائها، وبينهم د. العريان ورئيس مصر الحالي بفضل ديمقراطية التعليم التي كرّسها عبد الناصر، وبفضل الإصلاح الزراعي الذي أعطى كل فلاح مصري "فدانين" من الأرض يزرعهما ويجني محصولهما دون أن ينازعه أحد فيه، وهو ما أقرّ به بصدق وعفوية سيد مرسي شقيق الرئيس مرسي لتلفزيون الحياة المصري قائلاً: "لدينا فدانين من الأرض منحهما لنا الرئيس عبد الناصر ولن نتخلى عنهما".

فهل يجوز أن يتهجّم العريان على عبد الناصر فيما نرى زعيماً تحررياً كالرئيس الفنزويلي الراحل هيوغو تشافيز يعلن أكثر من مرّة أنه "ناصري" يهتدي بنهج ناصر الذي لم يكن قائداً في حركة التحرر العالمية فحسب، أو في حركة عدم الانحياز التي كان وراء تأسيسها فقط، بل كان زعيماً منحازاً لفقراء شعبه وقائداً لتنمية مستقلّة نجحت، رغم كل أشكال الحصار، في أن تمنع الجوع عن ملايين المصريين الذين يفتقد أبناؤهم اليوم رغيف العيش كما يفتقدون الإحساس بالكرامة الذي عزّزه ناصر في شعبه وأمّته حين قال: "ارفع رأسك يا أخي.. فقد ولّى عهد الاستعباد"، وهو شعار استلهم منه ثوار 25 يناير شعارهم الخالد "ارفع رأسك أنت مصري".

وهل يجوز للدكتور العريان وهو القيادي في حزب يحكم مصر حالياً أن يجرح مشاعر الملايين من أبناء شعبهم، توجهوا قبل أشهر إلى صناديق الاقتراع لينتخبوا "الناصري" حمدين صباحي رئيساً لأنهم رأوا في سيرته، كما في برنامجه، استمراراً لنهج جمال عبد الناصر.

وبدلاً من أن يكون الدكتور العريان، كما عرفناه سابقاً، حاملاً للواء الحوار بين المصريين وفي المقدّمة منهم الإسلاميين والناصريين، نراه يشهر سيفاً يهدّد كل ما تمّ بناؤه من عرى التواصل والتعاون بين القوى المصرية والعربية، وهي عرى يحتاجها المصريون اليوم أكثر من أي وقت مضى لإغلاق الجراح المفتوحة في بلدهم على غير مستوى.

وهل يمكن إخراج مصر مما تتعرض إليه اليوم، وتحصينها بوجه كل المخاطر المحيطة، بمثل هذا الخطاب الانقسامي الذي يستحضر صراعات الماضي في وقت يكفي المصريون ما يعانونه من صراعات الحاضر.

وكما رفضنا بالأمس اعتقال الدكتور العريان وإخوانه ودافعنا عنهم ودعونا إلى الإفراج عنهم من قبل رئيس النظام السابق، نرفض اليوم تصريحاته المخالفة لكل ما قام بيننا من عهود ومواثيق وتفاهمات، وندعو المنسق العام للمؤتمر القومي – الإسلامي السابق إلى التراجع عنها، فالتراجع عن الخطأ فضيلة.

أما جمال عبد الناصر فيكفيه أن نستعيد فيه قول الشاعر الفرزدق في ردّه على هشام بن عبد الملك حين سأل "من هو هذا الرجل" الذي يتحلّق حوله الناس في مكّة، وكان يقصد الإمام زين العابدين بن الحسين بن علي (ر):

"ما قولُك من هذا بضائره العرب تَعرفُ من أنكرتَ والعجمُ"