هو إضعاف مدار ومخطط له يقزم الدولة ويبجل المشاريع الصغيرة والاقطاعيات غير الوطنية التي تقاسمت اليمن في الماضي وتسعى جاهدة لبسط حضورها على المستقبل.
هكذا يبدو الأمر ونحن نتمعن في مسلسل الإضعاف المقصود للدولة ولمؤسساتها خصوصا الأمنية والعسكرية حتى تبقى خيوط اللعبة ومفاتيح الحل بيد مراكز النفوذ القديمة التي كانت تحكم على مدار ثلاثة عقود ونيف .
لست مع تهويل وتضخيم بقايا الفلول وايادي صالح في المؤسسات الأمنية ورمي تهمة هذا الضعف عليها ، لأنها لا تستطيع أن تحدث كل هذا الانفلات الأمني المخزي في كل البلاد وحتى جوار منزل رئيس الجمهورية نفسه.
ثمة احتمال كبير يفرض نفسه على المشهد مفاده وجود إدارة لهذا الوضع الأمني الهش ولا نستطيع أن نعفي وزيري الداخلية والدفاع وجنرالات الحرب التي لاتزال حاضرة في المشهد اليوم ، وكذا مراكز القوى سواء القبلية أو السياسية من وقوفها وراء هذا الضعف المنظم لدور السلطات الامنية والعسكرية في البلد لتبقى هي المرجعية إمعاناً في استحضار الأنا المسلوبة سابقاً وحفاظاً على مصالحها وبقائها الضروري للمساعدة في تهدئة الأوضاع التي هي في الأصل من صنعها.
غابت الدولة فحضرت أذرع القاعدة المختلفة وبدأ كل طرف بتحريك قاعدته ، وبرز الوجه القبيح للقبيلة المدججة بالسلاح والمعتاشة على التقطعات والحروب وإثارة الفوضى والخراب.
غابت الدولة فتحركت الأذرع الداخلية للشقيقة التي تضخ الأموال لا لشيئ سوى زعزعة الوحدة الوطنية والامن العام لتتمكن من فرض أجندتها التي تريد.
غابت الدولة فبدت اليمن كبقرة ميتة تتصارع عليها الوحوش الاقليمية والدولية والجرذان المحلية المعتاشة على الفتات.
غابت الدولة فأشعل فتيل الحرب في صعدة ليس بدافع الخلاف الطائفي وإنما بدافع سياسي ربما يقضي على مؤتمر الحوار الوطني الذي سيكون وجوده بحكم العدم لو استمرت الحرب في صعدة وتوسعت لاقدر الله.
ذئاب الحروب تعوي على مخرجات الحوار الوطني والتزاماته ،كي تقضي على فرصة اليمن التاريخية في التأسيس لدولة مدنية حديثة يسودها النظام القانون والمواطنة المتساوية.
بدأ هذا الاضعاف من قبل هذه المراكز المشكوك في وطنيتها من أجل فرض مصالحها في إطار التسوية السياسية والمرحلة الانتقالية وكذا فرض اجندتها في مؤتمر الحوار ، وعندما شارف هذا المؤتمر الذي عول عليه اليمنيون آمالاً عريضة لنقل اليمن إلى حقبة جديدة مشرقة أمعنت هذه القوى في محاولات منع تحقيق مثل هذه الآمال العريضة.
لاتزال مراكز القوى تريد أن تبقى القبيلة بسلاحها وغطرستها بدلا من السلام والوئام والمليشيات بدلا عن الجيش والأمن ، رغم تسويقاتهم القديمة بتوقهم للدولة المدنية والدولة القوية بمؤسساتها الوطنية التي تحقق العدل وتساوي بين الناس .
هذا الإضعاف للدولة التي يقف على رأسها الرئيس هادي يهدف الى جعلها تستعين بالشيخ أو الجنرال بدلا عن مؤسساتها العسكرية والامنية والخدمية والادارية.
لا أتصور مثلا ان الحلول الامنية المتعددة لاستتباب الامن في البلد فوق طاقة وزارة الداخلية ، وهي التي لا نلمس منها حتى الاجراءات الامنية الاعتيادية لأي قوات أمن في الدنيا تسعى لتوفير الامن في البلد.
لا أرى مبررا للأداء السلبي لأجهزة المخابرات والتي يشعر المواطن وسط هذه الفوضى أنها غارقة في النوم أو أنها متناومة.
على اليمنيين اليوم أن يعو أن أطراف الصراع التي اختلفت في الأمس اتفقت اليوم على اضعاف الدولة حتى تبقى هي قوية ومؤثرة لا يمكن الاستغناء عنها. وعليهم أيضا أن لا ينساقوا وراء دعوات الحروب والانشقاقات التي بدأت تظهر وستزداد خلال الفترة المقبلة لأنها في الأخير لا تعيش إلا في ظل هذا الصراع غير الاخلاقي ولا تعتاش إلا على خراب الوطن وتدميره.
مؤشرات القادم المأساوية التي يريد البعض ان يسوقنا إليها مرغمين تجعل من الضرورة على اليمنيين التشبت بالحوار الوطني ودعم مخرجاته. لأن الصراع اليوم هو بين يمن مشرق وزاهي يأمله كل اليمنيين وبين أعداء اليمن الداخليين والخارجيين الذين اعتادوا على نهب الثروات وتدمير المقدرات الوطنية والالتزام بتقزيم اليمن الارض والانسان .
ولأن عجلة التغيير تحركت واثبت الشعب اليمني توقه للتغيير وللعيش الكريم وللدولة المدنية الحديثة فإن أعداء هذا الحلم اليوم في حالة ضراوة ووحشية تنسج خيوط مؤامراتها الخبيثة لزعزعة الوحدة الوطنية واثارة الشقاق وتمزيق المجتمع ، وإرعاب المواطنين سعيا لخلق حالة من الارتداد لدى اليمنيين عن حلمهم المنشود في إيجاد دولة مدنية حديثة .
الساطع كالشمس في رابعة النهار أن اليمن تمر بمرحلة خطيرة لغياب الدولة المدبر ، وحضور الإرادة والادارة المنظمة للفوضى في مختلف المحافظات ، بأدواتها المتمثلة بتجار الأوطان وأمراء الحروب .
هذا الوضع الرخو سيشكل عائقا كبيرا امام مخرجات الحوار الوطني لأن المؤسسات المعول عليها ضمان تطبيق هذه المخرجات في حالة يرثى لها وتدار بآلية المصالح ووعي لاوطني وكما يريد اولئك التجار والامراء.
البغيض في الأمر أن أولئك التجار والأمراء هم شركاء في السلطة اليوم وبدلا من تخليهم عن ممارستهم السابقة والتكفير عن جرائمهم بحق الوطن ، اتفقوا في فهمهم للشراكة على إضعاف الدولة لتستمر تجارتهم وامارتهم.
أسوأ ما جلبته لنا الاقدار أن أطراف خراب اليمن ومشاكله هم من رمت المبادرة الخليجية والتسوية السياسية اليهم مهمة إيجاد حلول لمشاكل اليمن ، ضداً على القاعدة المعروفة القائلة: إن الدواء لا يأتي من الداء.
ما يجب التحشيد الشعبي له اليوم ليس حربا في صعدة أو البيضاء وأبين ، وإنما الحشد بحثاً عن الدولة القوية ومساندتها ودعم مساعي حضورها ، وتعرية أعدائها.
ما يؤمل من القوى السياسية اليوم أن تنتصر لقيمة الدولة وتتخلى عن الاصطفافات المعادية لوجودها ، كون تلك الاصطفافات في الواقع معادية لبيئة سياسية حزبية فاعلة في البلد.
وما يريده اليمنيون من الرئيس عدم الخضوع لهذه الضغوطات والعمل للإيفاء بخطابه الأول بعد انتخابه والذي حدد فيه ملامح دولة يتوق لها كل اليمنيين.
على الرئيس هادي أن يحلحل هذه الاقطاعيات ويقلص مهام تجار الحروب وأمرائها وأن لا يخضع لضغوطهم وأن يصارح الشعب اليمني بحقيقة الوضع الخطير حتى يقف الشعب معه في مواجهة الشر وردم بؤرة المتفجرة في أكثر من مكان.