عبدالله السويجي
مصطلح العروبة، وما يحمله من انتماء وامتداد وتاريخ، يعيش معضلة حقيقية منذ سنوات، هذه حقيقة يلمسها ويتلمسها العامة والنخبة وأصحاب القرار والمفكرون، ويدركها جيداً غير العرب ولا سيما أعداء العرب، وهذه المعضلة ليست وليدة الساعة أو السنة أو العقد أو القرن، إنها فكرة يتداخل فيها الشخصي بالعام، والعائلة بالدولة، والحضارة بالتخلف، والمدني بالقروي، والسياسي بالاقتصادي، والديني بالقومي، والمذهبي بالطائفي، والذكري بالأنثوي، والقانون بالعرف، واللهجات باللغات، والتاريخ بالجغرافيا .
هي فكرة لم تنضج حتى في ذروة امتدادها، ولم تتحقق حتى في أشد اللحظات حلكة، ولم يتم اللجوء إليها حتى في أكبر الهزائم والنكبات، ولم يتقدم إليها أحد حتى في ظل أكبر التراجعات، وهي فكرة بدأت بالحلم وانتهت بالكوابيس، وتستحق من المثقفين والمفكرين والسياسيين أن يتوقفوا عندها كثيرا، فمن دونها، سيتحول العالم الناطق بالعربية إلى دويلات منقسمة، وإمارات صغيرة، وإقطاعيات وبلديات وحارات، فالفردانية تتأصل، والشخصانية تسود، والانفصالية تتحكم، والذاتية تستبد، والفكرة تبقى فكرة على ورق، أو في الضمائر، أو في النوايا، في وقت لا يحكم التاريخ بالعاطفة، ولا تتطور البلدان بالنوايا، ولا تتحقق المعجزات بالأحلام .
كانت الفكرة إلى ما قبل عشرين عاما حية، تظهر في مكان هنا ومكان هناك، يطلقها البعض كوسيلة للنجاة، والبعض الآخر كمظهر للعزة، وبعد ذلك، تراكم الغرق والغرقى، وتلاشت العزة في الهزيمة، وباتت الفردانية والمصلحة الشخصية والشوفينية والقطرية والمذهبية مفردات ومصطلحات بديلة، يحتمي بها البعض، ويتمركز خلفها البعض الآخر، حتى صارت فكرة العروبة موضع استهزاء لكل من يتفوه بها، ويطرحها كقارب نجاة، أو كواحة انتماء، أو كأداة للقوة، وامتد هذا الإحساس القوي إلى الشعوب، فانكفأت على ذاتها، وتقوقعت، وصار التمييز وأحياناً العنصرية تتجلى في صور شتى، ابتداء من الحدود البرية والجوية، وصولا إلى التعاملات الخاصة والعامة، مروراً بالنظام الاجتماعي والأحوال الشخصية، حتى صارت القطرية أقرب إلى الديانة التي لا يسمح المساس بها، لها شعائرها الداخلية، وطقوسها الخاصة، ومن هذا الباب دخل الآخر، متسلحا بعزلتنا، وبتعرينا، وبانفرادنا، وتشرذمنا، ونظرتنا الضيقة لكل فكرة واسعة، ونظرتنا الواسعة حد الضياع لكل أمر مهم، فضاع ما ضاع، إلى درجة لم يتبق ما نبحث عنه .
الصورة تشاؤمية أكثر من هذا الوصف، وقبيحة أكثر، وخطيرة أكثر، بل تدعو لاستنفار الطاقات كلها من دون استثناء، وإعادة النظر في السياق العام الذي تسير فيه السياسات ذات الصلة بمناحي الحياة جميعها، إعادة النظر وفق الواقع الحالي بكل أبعاده، ووفق الصورة المستقبلية التي تنتظرنا، إذا لم نتوقف قليلا لنسأل: أين نحن، وإلى أين ذاهبون؟
وفي أدبيات الكتابة، صرنا نخشى استخدام مصطلحات مثل: الوطن العربي، والسياسة العربية، والثقافة العربية، والاقتصاد العربي، إلى أن وصلنا إلى المصطلح الأخطر والمخيف وهو: الانتماء العربي، على الرغم من أن دستور كل دولة عربية يؤكد على الامتداد العربي لها، وأنها جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، أما في الواقع، فهذا الكلام يحتاج إلى تدقيق كبير وصادق . وبمقارنة بين العالم العربي والاتحاد الأوروبي (على الرغم من عدم اتحادهم في دولة واحدة)، نجد أن الاتحاد الأوروبي حقق وحدة عظيمة أهم من أن تكون أوروبا متحدة سياسياً، فهي متحدة جغرافيا واقتصاديا ونقديا، وهذا يكفي ويزيد، والمواطن الأوروبي، يستطيع أن يتجول ويعمل في أي دولة أوروبية، بل إن من زاروا أوروبا يقولون أن لا حدود بين أعضاء المجموعة الأوروبية، لا نقطة حدود، ولا موظفين يختمون أختام الدخول أو الخروج، ولا من يفتش الحقائب باحثا عن ممنوعات، ولا من يحدق في الوجوه بحثا عن ملامح في ذهنه فقط، بل إن كل من يحمل تأشيرة دخول أوروبية وتسمى (شينغن)، يستطيع التجول بكل راحة وحرية بين كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي .
أليس هذا كافياً لإرضاء الشعوب؟ وفي المقابل، كل دولة لها استقلاليتها، وسياساتها وقوانينها في كل منحى من مناحي الحياة، وأنظمة الحكم فيها متنوعة، هنالك الملكيات والجمهوريات وغيرها، وهنالك الدول المتقدمة والأكثر تقدماً وهنالك الدول المتخلفة أيضاً، ومنها بعض الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي المنحل أو المنهار، وهنالك أمر آخر، إذ تتكون بعض الدول الأوروبية من مقاطعات تتمتع بحكم ذاتي تقريبا، لها لغتها وقوانينها واقتصادها ومحاكمها، إلا أن مرجعيتها العليا للدولة الأم، التي لا تمارس مركزية مقيتة، وإنما مركزية مرنة، تدرك معنى اختلاف الأصول واللغات، والثقافات، ومن هنا، كان التعايش فيها إيجابياً ما أدى إلى هذه التجربة الوحدوية، التي لم يشهد التاريخ الحديث لها مثيلا . فهل وجدنا مسافرا عربيا يجوب العالم العربي من دون 23 تأشيرة، بينما تجوب الجنسيات الأمريكية والأوروبية والكندية والأسترالية العالم العربي من دون تأشيرة، وفي أي مكان تتجه إليه تواجَه بتعبير واحد “
yes sir
”، وحين تتقدم هذه الجنسيات لوظيفة، فإنها تفاوض بثقة، ولا تقبل شروط السوق ولا امتيازات أهل البلد .
أوروبا قارة كبيرة وعظيمة وفيها عرقيات وأجناس وديانات ولغات ولهجات كثيرة، والفرد الأوروبي مسؤولية الدولة منذ ولادته حتى تخرجه في الجامعة إلى أن يعمل، وأوروبا ليس لها أعداء يطمحون إلى تفتيتها ونهب خيراتها، والعالم العربي ثري وشاسع وفيه خيرات لا تتوفر في اوروبا، ويتحدث لغة واحدة، وغالبيته يؤمن بدين واحد، ويتمتع بجغرافيا متداخلة لا يفصل بينها شيء، وتاريخه متشابه إلى حد بعيد، وله عدو يتربص به، ويتحيّن الفرصة للانقضاض عليه، ونهب خيراته، بل ويحتل بلدا من بلدانه، يقع في قلبه، ويمنع تواصله في المجالات جميعها، وعلى الرغم من ذلك، تكثر الحدود، وتنأى اللغات والثقافات، وتتضارب المصالح، وتتعدد العملات، وتزداد الأمية والجهل، ويتراكم التخلف، ويضمر كلٌ للآخر نوايا عجيبة، والأعجب من ذلك، انتقال هذا الأمر إلى رجل الشارع، الذي بدأ يتغذى على الانكفاء، والذاتية، والشوفينية، والعنصرية، وهنا تكمن المعضلة، التي تحتاج إلى حل جريء وتاريخي وحقيقي وصادق، فالمستقبل مبني على الحاضر، وكلما ترهل الحاضر تداعى المستقبل .
لن نتحدث عن جامعة الدول العربية، التي لا حول لها ولا قوة، لأن ميثاقها يكرس هذا الضعف، فلا صلاحيات لها، وكل دولة عضو حرة في أن تقيم تحالفات وترسم سياسات وغير ذلك من التشجيع على الانفصال والتغريد بعيداً عن السرب، ولن نطالب بتحديثها، وإنما بهدمها وبناء مؤسسة أخرى على أنقاضها، تعيد للمواطن العربي كرامته، وصوته، وتبعث فيه الحياة من جديد، وهنا، لا بد من أن يُسمح للمثقفين والمفكرين القيام بدور أكبر في تقديم تصوراتهم وطروحاتهم، ولا يبقى الأمر بأيدي وزراء الخارجية الذين يحضرون للقمم بطريقة لا تسمن ولا تغني من جوع . . حفظ الله للأمة العربية عزتها وكرامتها والله المستعان .
عن الخليج