Home Articles Orbits للكلمة مفعولها، ولو بعد حين
للكلمة مفعولها، ولو بعد حين
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

لم أشعر يوماً بالعجز عن تحريك القلم، كما أشعر به الآن. ماذا يمكن أن يُكتب، أكثرمما  كُتب؟ وماذا يمكن أن يُقال أبلغ مما قيل؟ ما أكثر الأقلام وما أكثر الكُتَّاب وما أكثر المتحدثين والخطباء وما أكثر المؤتمرات والندوات. ولكن كل هذا لم يستطع أن يرتقي بالكلمة إلى مستوى التأثير المطلوب في الأحداث الدائرة اليوم. ولم يستطع أن يحول دون إزهاق الأرواح، التي تُزهق دونما ثمن، وأن يوقف نزيف الدماء، التي تُسفح دونما هدف وطني، يستحق أن تُسفح من أجله. لقد عجزت الكلمة عن وضع حد لهذه الحالة العبثية، التي يذبح فيها الأخ أخاه، ولم تستطع أن تغير من بشاعة الواقع الذي نعيشه أو توقف التدهور الذي نعاني منه في حياتنا اليومية. فما قيمة الكتابة وما قيمة الكلام، وماقيمة الندوات والمنتديات, التي يتحدث المثقفون فيها كثيراً ويحلُّون مشاكل العالم ومشاكل مجتمعهم. ثم يصحون بعد أن ينفض الجمع ليواصلوا حياتهم العادية، متكيفين مع الأوضاع نفسها، التي استنكروها وناقشوها ووضعوا التصورات النظرية لتجاوزها.

لقد تحولت كتاباتنا وكلماتنا إلى ضرب من العبث, يضاف إلى مظاهر العبث الأخرى, التي تبلغ ذروة مأساويتها بالقتل وسفك الدماء, المنذر بالتقسيم والتفتيت. فأعلى من صوت الكلمة المهدورة يتصاعد الفعل المدمر على الأرض, ضارباً بكل مايُكتب عرض الحائط. فعل تمارسه القوى المؤثرة في الأحداث. وهي القوى المدججة بالسلاح، التي لم تنجح الثورة السلمية, في لجمها, ولم ينجح مؤتمر الحوار الوطني في تطويعها. إنها قوى تمتلك اليوم الكلمة المسموعة، التي تنطلق من فوهات المدافع وترتفع مع زخات الرصاص ودوي القصف والتدمير. وستزداد هذه القوى سطوة ونفوذاً، كلما استمر عجز السلطة عن إيجاد الحلول العاجلة لمشاكل الناس المتفاقمة، وعلى رأسها مشاكل الأمن والكهرباء والمشتقات النفطية. فحالة العجز، التي اتسم بها أداء السلطة حتى الآن، إذا استمرت على هذا النحو، الذي نعاني من آثاره في حياتنا اليومية، فإن النتيجة هي يأس الناس من السلطة وأجهزتها. وفي حالة اليأس قد يبحثون عن خيارات أخرى، أسوأها، وإن لم يكن أبعدها، الإلتحاق بإحدى الجماعات المسلحة الموجودة حالياً، أو التي يمكن أن توجد، أملاً في أن يتحقق على يديها ما عجزت السلطة عن تحقيقه.   

وبموازاة القوى المسلحة، وحملة الأقلام، المحاربون بالكلمة غير المسموعة، تقف الغالبية الصامتة من المواطنين، الذين عقد المشهد المأساوي ألسنتهم وأربك تفكيرهم وضاعف من حدة همومهم اللحظية، هموم الأمن والكهرباء والنفط وتأمين لقمة العيش الجافة والبحث عن ملجأ آمن يعصمهم من الخوف ويحميهم من نيران الحروب.

ومع هؤلاء الصامتين، تتعايش الأحزاب السياسية المرتبكة، المنتمية (ولو نظرياً) إلى المشروع التحديثي، الذي لاتدري ماهو. وهي أحزاب زادتها الأحداث الدامية ارتباكاً، وأضافت مزيداً من المعاناة، إلى معاناتها الخاصة وأوضاعها الداخلية، التي جعلتها مشلولة عاجزة عن ممارسة الفعل المؤثر في الأحداث، مما قد يفقدها مبرر وجودها ويؤذن بإفلاسها وتحللها، إذا لم تسارع إلى إعادة ترتيب أوضاعها وتغيير منهجها في العمل.

لقد أصبح من الواضح أن من يملكون اليوم اللغة البليغة والكلمة المؤثرة، ليسوا الأحزاب السياسية، المنهكة بمشاكلها الخاصة، ولا حملة الأقلام ورافعي الشعارات ومطلقي التنظيرات، بل مطلقي الرصاص والقذائف. هؤلاء هم سادة اليمن اليوم وحكامه الحقيقيون، المختلفون المتقاتلون، الذين يتنافسون على الغلبة، ويتقاتلون على مناطق النفوذ، ويسعى كل منهم إلى الحسم العسكري، لينفرد بالهيمنة على الآخرين، والسيطرة على السلطة ومغانمها، مطمع الطامعين وحلم الحالمين.

وتتمثل القوى المتصارعة بطرفي النظام، الذي اصطلح بعضنا على تسميته ب (النظام السابق)، وهي تسمية ليس لها حظ من الصحة، فهو نظام مايزال يحكم، بشخوصه وأساليبه، وإن كان قد انقسم على نفسه إلى طرفين: موالاة ومعارضة، بحسب التعبير اللبناني. وهو انقسام غير موضوعي، على أية حال، وليس له حظ من هاتين التسميتين. فكلاهما مايزال يحكم، وكلاهما يمارس دور المعارض، في الوقت نفسه. ونقصد بطرفي (النظام السابق): رأس النظام (السابق) وامتداداته العسكرية وتحالفاته القبلية. ثم الطرف المضاد له، شريكه بالأمس، المتمثل بالتحالف العسكري، الإصلاحي، القبلي. ويضاف إلى هذين الطرفين مليشيات الحوثيين وحلفاؤهم القبليون، والقاعدة، عابرة البلدان والقارات. هذه هي القوى الأربع الضاربة، التي تمتلك السلاح والفعل المؤثر واللغة المسموعة. ومن ورائها تقف القوى الإقليمية والدولية، التي جعلت من اليمن ميداناً لتنافسها، وساحة لاقتتالها، ولكن ليس بجنودها وأبنائها، بل بأبناء اليمن، الذين يقتل بعضهم بعضاً، في سبيل أهداف تتجاوز أهدافهم، وخدمة لمصالح تتجاوز مصالحهم. 

ويحار العقل أمام هذا الإقتتال المريع. ماذا تريد القوى المتقاتلة؟ هل نحن وبلدنا إرث يتنازعون عليه؟ ألاتفرض عليهم القيم الدينية، ومعظمهم يتدثر بالغطاء الديني، ألا تفرض عليهم صون دمائهم ودماء إخوانهم في الطرف الآخر ودماء الأبرياء من أبناء شعبهم، الذين لاناقة لهم ولاجمل في هذا الصراع الدموي؟ إلى أين هم ماضون، وأي قوى إقليمية ودولية يخدمون؟ إن دماءهم وأرواحهم عزيزة علينا، فكلهم إخوان لنا. وكل الأهداف المتوهمة في أذهانهم، لاتساوي قطرة دم تنزف من أي منهم، بغض النظر عن الخندق الذي يقف فيه. فلم تعد الخنادق المتباينة حيناً والمتداخلة حيناً آخر، لم تعد تهمنا. فنحن ندرك، أن القتل الذي يمارسونه والدم الذي يسفكونه هو ضرب من العبث. ولكنه عبث مكلف، ثمنه أرواح عزيزة نفقدها ودماء غالية ننزفها، وتدمير مادي ونفسي يلحق بنا وببلدنا، وربما خارطة جديدة لليمن، يرسمونها بحرابهم، مدركين ذلك أو غير مدركين. 

لقد قلنا في مقال، بعنوان (الرهان الثالث)، نشرناه في ست حلقات، بصحيفة الوسط، إبتداءً من 6 يونيو 2007م، قلنا: "لايهمنا من يجلس على كرسي الحكم ولا من أي منطقة أو طائفة أو عشيرة أو أسرة يمنية أتى، بل يهمنا كيف يحكم". وتأكيداً لذلك، قلنا مجدداً، في مقال بعنوان (دولة النظام والقانون والعدل، الضمان الحقيقي لبقاء الوحدة)، نشرناه في ثلاث حلقات، بصحيفة الثوري، إبتداءً من 13 أغسطس 2009م، قلنا: "لايهمنا من يحكم، بل يهمنا كيف يحكم. فسياسات السلطة وممارساتها هي مايجب أن يتركز عليه اهتمامنا، أما شخص الحاكم فهو أمر ثانوي، تحسمه آليات الإنتخاب. فاسمه اليوم (فلان) وغداً يأتي (فلان) آخر، والدوام لله وحده". (أُعيد نشر المقالين في كتابنا الرهان الثالث، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2012م).

واليوم نؤكد هذا القول، المحمَّل بمعاني، زادتها الأيام جلاءً، وأضحت تعبر عما في ضمير معظم اليمنيين، إن لم يكن جميعهم. فنحن، بعد كل ماعانينا ونعاني، نقول: إن اليمن لم يعد يقبل حكماً فردياً استبدادياً فاسداً. ولا حكماً فئوياً ضيقاً، يلغي الآخرين ويهمش أدوارهم ويجمد قدراتهم، ويحول دون الإستفادة من إمكانياتهم، وكأنهم لايملكون حقوق المواطنة، كغيرهم من أصحاب الحضوة والإمتيازات. ولا حكماً يُنصِّب أشخاصاً لايتمتعون بالكفاءه والنزاهة، لمجرد أنهم من الأبناء والأصهار والأقارب والمقربين. إننا نريد حكماً وطنياً رشيداً، مؤهلاً لبناء الدولة الحديثة، يملك مشروعاً نهضوياً واضح المعالم، يحشد حوله كل المواطنين، دون استبعاد أو إقصاء أو تهميش، حكماً قادراً على إحلال الأمن والإستقرار وتطبيق القانون على الجميع، دون استثناء، وإقامة العدل والمساواة بين أبناء اليمن، وتحسين ظروف الحياة، وصون كرامة المواطن وحقوقه، وضمان تكافؤ الفرص أمام اليمنيين جميعهم، في التعليم والعلاج والتوظيف، وفي تسنم المواقع العليا في أجهزة الدولة. هذا هو الحكم الذي نريده، والذي سنقف معه، وما عداه لن نقبله، وسنقاومه بالوسائل السلمية الممكنة، ومنها وسيلتنا، التي اخترناها بوعي ومسؤلية، وهي (الكلمة)، حتى وإن لم تُسمع اليوم، فسيكون لها تأثيرها غداً.  

إننا نعرف تماماً أن الكلمات، التي كُتبت أو قيلت عبر سنوات طويلة، والتي تُكتب وتقال اليوم، كلها لاقيمة لها، في نظر من يحتكمون إلى السلاح، لقهر منافسيهم، في مناخ مشحون بالتوتر، مشبع بروائح البارود. إن العيون المقاتلة، المصوَّبة نحو خنادق الأخوة الأعداء، أصبحت عاجزة عن قراءة الكلمة، قراءة صحيحة، وأصبح العقل عاجزاً عن استيعاب معانيها. فالإصبع الموضوعة على الزناد، تستحوذ على التفكير وتعطل وظيفة العقل وتميت المشاعر الأخوية. ومع ذلك فإن الحالمين بوطن يتسع لجميع أبنائه، وبحكم يؤسس على العدل، قد اختاروا أن يحملوا القلم بدلاً عن البندقية، والحب بدلاً عن الحقد، والفكرة بدلاً عن التشنج والتعصب. فهم لايملكون إلا أن يناضلوا بالكلمة، ويصارعوا بها الشر المزروع في النفوس والكراهية المتغلغلة في الأعماق، ويرفعوا أصواتهم، التي يعرفون أنها لاتُسمع الآن، وسط أزيز الرصاص ودوي المدافع. ولكن عدم سماع أصواتهم، لن يصرفهم عن رفعها. فلعل أصواتهم تُسمع ذات يوم وكلماتهم تعطي مفعولها، ولو بعد حين.