Home Articles Orbits الانفصام بين القول والفعل
الانفصام بين القول والفعل
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

تبرز في حياتنا العربية ظاهرة الإنفصام بين القول والفعل، بصورة جلية، على كل المستويات الشعبية والرسمية. وهي على المستويات الرسمية أكثر وضوحاً وتكراراً، حتى لتكاد أن تكون لازمة من لوازم الحكم، وشهادة مؤهِّلة لصاحبها، لممارسة مهام عمله، ممارسة ناجحة. إن ظاهرة الإنفصام هذه، أي الإكتفاء بالقول دون الفعل أو الإتيان بفعل يناقض القول، تؤثر تأثيراً سلبياً على مجمل الحياة والعلاقات الإنسانية، وتضعف درجة الثقة، الضرورية للتعامل السوي بين الناس، وبين الشعب وحكامه .

ولنتبين حجم هذه الظاهرة وخطورتها في حياتنا العربية، يكفي أن نشير إلى الوعود والتعهدات السخية، التي تجود بها الحكومات العربية على مواطنيها، تبشرهم فيها بحياة أفضل، ثم لا تعتبر نفسها بعد ذلك ملزمة بتحقيق شيء مما بشرت ووعدت به، بل تزداد الأمور سوءاً كل يوم، وتزداد الأنظمة فساداً واستبداداً، والنهابون الشرعيون ثراءاً، والمواطنون المستضعفون ضعفاً وفقراً وإحباطاً. كما تغدو الإرادة الوطنية أكثر استسلاماً، للقوى الخارجية المهيمنة، وأكثر طواعية للبنك الدولي وبرامجه المثيرة للجدل، التي يعيش اليمن هذه الأيام إحدى تجلياتها المزعجة، المتمثلة برفع الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية، وهو إجراء كنا في غنى عنه، لو تمت معالجة الفساد المالي والإداري وتوقف المسؤولون عن إنفاقهم العبثي لموارد الدولة، في أغراضهم الخاصة، وفي الهبات المجانية لشخصيات وجهات طفيلية غير منتجة، وفي التأثيث المتكرر، غير الضروري، لمكاتب المسؤولين، وفي شراء السيارات الفارهة لكل وافد جديد إلى مواقع السلطة، مع الإنفاق الكامل على تشغيلها وصيانتها، من خزينة الدولة، إلى غير ذلك من أوجه الصرف العبثي المعروفة للجميع. وهي قضية تحدثنا عنها مراراً، منذ تسعينيات القرن الماضي، ولم يعد هناك حاجة لمزيد من القول. ولكن هناك بالتأكيد حاجة إلى الفعل، الذي يؤكد صدقنا في مانقول، وعزمنا على إنجاز مانعد به .   

إذاً فهذه الظاهرة موجودة عندنا نحن العرب. وهي ظاهرة قديمة لدينا. ولعل الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالاتفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالاتفعلون) تسند هذا التأكيد. فهي ظاهرة متأصلة، إلى الحد الذي يجعل الخطاب الإلهي يتوجه إلى المؤمنيين خاصَّة، وليس فقط إلى عامَّة المسلمين. يتوجه إليهم باللوم والتقريع الشديد، على النحو الواضح في هذه الآية الكريمة. ويبدو أن هذا التقريع لم يعط مفعوله. والدليل على ذلك استمرار هذه الظاهرة عبر الأجيال، وحتى يوم الناس هذا .

وقد قرأت مؤخراً كتاباً، لباحث غربي، تحدث فيه عن الإنفصام في حياة العرب بين القول والفعل، مرجعاً جذوره إلى التربية العربية، وإلى مايطلقه الوالدان من تهديدات لأطفالهما، لايعنيانها، ومن وعود، لايفيان بها. فينشأ الأطفال على نهج آبائهم، يرون أن إطلاق الوعد والوعيد، دون التزام بالتنفيذ، أمر عادي. ولعل هذا فعلاً هو أحد جذور الإنفصام بين مانقوله ومانفعله، بين مانعد أو نتوعد به، وبين ماننفذه .  

ولكن ألا نتجاوز الحقيقة، عندما نخص بهذه الصفة السلبية الشخصية العربية وحدها، كما ذهب إلى ذلك الباحث المشار إليه؟ هل نحن وحدنا، من بين أمم الأرض، من لانحسن الربط بين القول والفعل؟ إذا كان الأمر كذلك، ودون أن يُفهم من كلامي ميلاً إلى تبرير هذه الظاهرة المشينة، التي تطبع حياتنا بطابعها، والتي نعترف بها دائماً ودون حرج، وينكر سوانا وجودها لديهم، إذا كان الأمر كذلك، فماذا يمكن أن يقال عن ساسة الغرب الإستعماري وحكامه، الذين ابتلوا بهذه الظاهرة، بلاءً أعظم وأشد ضرراً على البشرية، مما ابتلينا به؟ فنحن، على الأقل، نعترف بعيوبنا ولانتنطح. وسلبياتنا تضرنا نحن ولاتلحق الأذى بغيرنا من شعوب الأرض. إننا أكثر تواضعاً وأقل مكابرة. فهم يتحدثون ليل نهار، ودون كلل، عن العدل والمساواة والإخاء وحرية الشعوب وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة وحماية الطفولة والعالم الحر ...إلخ، ثم يسحقون هذه القيم بنعالهم، عندما يتعلق الأمر بالآخرين. وكأنما يقصدون بها أنفسهم فحسب. فالحقوق التي يتحدثون عنها، لايعنون بها سوى حقوقهم في استعباد الشعوب ونهب ثرواتها والتحكم بمصائرها، والحرية لايعنون بها سوى حريتهم في أن يفعلوا مايشاؤون، دون أن يحق لأحد أن يعترض على مشيئتهم... وقس على ذلك .

إنهم ـ وأقصد هنا حكام وساسة (الغرب الإستعماري)، ولا أقصد (الغرب الصديق) الذي تحدثت عنه مراراً في مقالات سابقة ـ إنهم ينثرون أشلاء البشر بأيديهم أو بواسطة وكلائهم، ويهدمون البيوت والمدن والقرى على رؤوس سكانها، ولاتتحرك مشاعرهم الإنسانية، رغم ثرثراتهم وادعاءاتهم، لاتتحرك لمرأى القتلى والمشردين وروائح الأجساد المحترقة والجثث المتعفنة، والأطفال الرضع، الذين يُحشرون، أو تُحشر بقايا أوصالهم الممزقة، في ثلاجات الطعام، لازدحام ثلاجات الموتى في المستشفيات، كما يحدث في غزة المنكوبة، التي لم يكتف أولئك الساسة والحكام الغربيون بالمشاهدة الحيادية لما يجري فيها، بل سارعوا إلى مد المعتدي الإسرائيلي المتوحش بالسلاح والذخائر والمال والدعم الإعلامي والتدخل السياسي في المحافل الدولية، لعرقلة أي قرار، مجرد قرار لفظي، يدين العدوان .

  لقد سمعنا عتاة الإرهابيين الرسميين في الغرب الإستعماري، دعاة الحرية وحقوق الإنسان، وهم يصرخون دون خجل، بأن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها. فأين غابت القيم الإنسانية، التي يسوِّقونها للعالم، ولايلتزمون بمعانيها؟ ألا يسألون أنفسهم الآثمة: في وجه من تدافع إسرائيل عن نفسها؟؟!! في وجه شعب فقير محاصر مطحون، محدود القدرات الإقتصادية والسياسية والعسكرية، ينهش الغريب والقريب في جسده الواهن. لم نسمع من حكام الغرب الإستعماري كلمة واحدة منصفة، تعطي الحق للفلسطينيين أيضاً في الدفاع عن أنفسهم، حتى ولو بالحجارة. هذا هو عالمهم الحر، الذي يتغنون به ليل نهار، والذي يؤكد لنا كل يوم، بأنه عالم كريه ممقوت، وأننا لن نعرف مذاق الحياة الإنسانية الكريمة، إذا لم نتخلص من شروره ومن جبروته وطغيانه واستغلاله ونفاقه وازدواج معاييره وانفصام شخصيته. فإذا نجحنا في تحقيق ذلك، فإننا نكون قد خطونا الخطوة الأهم في حياتنا، باتجاه ربط القول بالفعل وتحويل خطاباتنا وتصريحاتنا وخططنا ووعودنا ووعيدنا إلى أعمال، تغير واقعنا المتردي وتنقلنا إلى حياة إنسانية كريمة، تستحق أن تعاش .