Home Articles Orbits التحالفات المتغيِّرة، إلى أين ستقود؟
التحالفات المتغيِّرة، إلى أين ستقود؟
د. أحمد قايد الصايدي
د. أحمد قايد الصايدي

إنطلقت الثورة الشعبية، التي عرفت بثورة الشباب، إنطلقت في ساحات المدن الرئيسية، تطالب بإسقاط النظام. وكانت أصوات الإصلاح ومنافسه، الحركة الحوثية، من أكثر الأصوات ارتفاعاً في الساحات، لاسيما في ساحة صنعاء. وكلاهما كانا مصطفين في خندق المعارضة للرئيس السابق. الإصلاح كان لوقت طويل حليفاً وجزءاً من نظامه، ثم انتقل إلى صفوف المعارضة وتولى قيادتها. والحوثيون وضعهم الرئيس نفسه في مواجهة التيار السلفي في صعده، ثم شن عليهم ستة حروب متوالية، دون سبب مفهوم.

تنحى الرئيس ولم يسقط نظامه. بل ظل يشارك في إدارة السلطة، إدارة مباشرة، عبر رجاله في مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس الشورى، وفي أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية. كما يدير، في الوقت نفسه، معارضة ساخنة ضد الرئاسة الجديدة، رغم أنها استمرت تسير على نهجه، وضد حكومة الوفاق، التي يمتلك نصف مقاعدها. وبدت خارطة التحالفات على شكل اصطفافات متحركة، غير ثابتة: الرئيس السابق وأجهزة السلطة، التي يديرها رجاله، وحلفاؤه من الأحزاب والمشيخات القبلية، في جهة، والإصلاح وحلفاؤه من عسكريين ومشيخات قبلية، في الجهة المقابلة. وبدا الحوثيون لبعض الوقت، بعيدين عن المعسكر الأول (معسكر الرئيس السابق)، وغير مندمجين في المعسكر الثاني (معسكر الإصلاح وحلفاؤه)، يسعون إلى تعزيز معسكرهم الخاص، الذي يضم بعض القوى القبلية. وكان، ومايزال، لكل معسكر، من هذه المعسكرات الثلاثة، سند خارجي، له أجندته الخاصة، المؤثرة في مايدور في الداخل اليمني من أحداث. 

ولما احتدمت المواجهات المسلحة بين الإصلاح وحلفائه العسكريين والقبليين، وبين الحوثيين وحلفائهم القبليين، في أكثر من منطقة، فُتحت ثغرة في صفوف المعارضة، التي ضمتها ساحات التغيير. أتاحت للرئيس السابق أن ينسج علاقات خاصة بأعداء الأمس، الحوثيين، لمواجهة شركاء الأمس، الإصلاحيين.

على هذا النحو بدأت خارطة جديدة للتحالفات تتشكل. وفي اعتقادي أن هذه الخارطة سوف تتبلور، في عملية استقطاب ميداني، إذا استمرت المواجهات واتسعت. فقد تتقارب وتلتحم كل التيارات، التي ولدت في رحم حركة الإخوان المسلمين. كما ستلتحم كل التيارات، التي تنتمي إلى الزيدية أو إلى التيارات الشيعية الأخرى، المناقضة بالأصل، فكرياً وتاريخياً للزيدية، ستلتحم تحت لواء الحوثيين، إن لم يكن بدفع من جهات إقليمية ودولية، فبدفع من الدعاية المضادة لهم، التي تأخذ، مع الأسف، طابع التحريض الطائفي والعنصري.

إن التحريض الطائفي والعنصري، الذي نسمعه ونشهده، منذ سنوات، هو تحريض خطر. لأنه يتعارض مع الخيارات الوطنية ويدفع إلى خيارات طائفية وعنصرية. فالكثيرون ممن ينتمون إلى الطائفه والعنصر، المستهدفين بالتحريض، سيجدون أنفسهم مدفوعين، تحت مشاعر القلق والخوف، اللذين تولدهما عملية التحريض، سيجدون أنفسهم مدفوعين إلى الإلتصاق بالطائفة والعنصر، رغم أنهم كانوا قد تحللوا منهما، واستبدلوهما بالإنتماء الوطني العام. ونحن نعرف أن قادة، ينتمون، بحكم المولد، إلى الطائفة والعنصر، اللذين يحرض البعض ضدهما اليوم، وقفوا في الصف الأول ضد النظام الإمامي وضد الإمتيازات السلالية، التي كانت سائدة في ظل الإمامة، ودفعوا رؤوسهم ثمناً لمواقفهم الوطنية، وكان لهم دور مشهود في قيادة الثورات اليمنية المتعاقبة، لاسيما ثورتي سبتمبر وأكتوبر، واحتلوا مواقع متقدمة في قيادات الأحزاب الوطنية، بمختلف مشاربها. إن التحريض الطائفي والعنصري، يمثل غباءً سياسياً، إذا لم نقل يمثل عملاً مشبوهاً. لأنه يهدد السلم الإجتماعي ويعمق الشرخ، بين أبناء الوطن الواحد، وينذر بحروب أهلية، ذات نزعة طائفية، تمهد لتقسيم اليمن إلى دول طائفية، تقضي على كل أحلامنا الوطنية.  

ومع رفضنا لهذا التحريض الطائفي والعنصري، جملة وتفصيلاً، لابد أن نسلم بأن بعض الملامح في الحركة الحوثية، تساعد على الشحن الطائفي ضدها. وأبرز هذه الملامح استعادة لقبي (السيِّد) و (سِيْدي)، اللذين تجاوزتهما ثورة سبتمبر، وحاول الشهيد إبراهيم الحمدي محو أثرهما الباقي، في قراره الشهير، باستبدال لقب (السيِّد) بلقب (الأخ)، في المخاطبات الرسمية، وفي وسائل الإعلام. وقد تكون استعادتهما من قبيل التشبه ببلدان كإيران والعراق ولبنان، دون التنبه إلى أن التاريخ اليمني الخاص قد أضاف إلى هذه الألقاب معاني وإيحاءات لاتحملها في تلك البلدان. أما لقب (سِيْدي)، على وجه التحديد، فلم تعرفه مجتمعاتها لفظاً، ولم تعرفه بمضامينه اليمنية الخاصة. ولعل هذا يشكل واحداً من الأسباب، التي تسوغ الحديث عن سعي الحوثيين لإعادة النظام الإمامي، رغم تأكيدات الحوثيين أنفسهم، بأنهم متمسكون بالنظام الجمهوري. ونحن نصدقهم في مايؤكدونه، لأن النظام الإمامي تجاوزه الزمن، وأصبح من الماضي، ولايمكن لعاقل أن يسعى إلى استعادته. حتى وإن كنا قد أخفقنا، إلى الآن، في إيجاد النظام الجمهوري الحق، الذي حلمنا به، ومانزال نحلم به، ونؤمن بإمكانية تحقيقه.  

وبعد هذا الإستطراد، الذي وجدته ضرورياً، نعود إلى خارطة التحالفات المتغيرة. حيث نجد، الرئيس السابق، كما أشرنا، يحاول استثمار الصراع الدائر، لتصفية الحساب مع شركاء الأمس، المتمثلين بالتحالف الإصلاحي العسكري القبلي، وذلك بدعمه للحوثيين، أعداء الأمس، في معركتهم، التي إذا ماانتصروا فيها وتمكنوا من إضعاف خصومهم، فقد يجدون أنفسهم في مواجهة جديدة مع الرئيس السابق نفسه، لانعدام القواسم المشتركة بينهم وبينه. وإذا حصل هذا، فإن الصراعات ستتواصل وعجلة العنف ستستمر في الدوران، لتسحق في طريقها أحلام اليمنيين في الإستقرار والأمن والعيش الكريم. 

هكذا تتشكل التحالفات وتتغير، بتغير الأحداث والوقائع. ولكن أين الوطن في كل هذا، وأين الشعب، الذي يتحدث باسمه كل المتحالفين والمتصارعين؟ من يمثله حقيقة، ومن يحق له أن يتحدث باسمه؟ وأين رئاسة الدولة، وأين الأحزاب ذات الأفق الوطني العام، من كل هذا ؟ 

إن دور الرئاسة دور حاسم في هذه المرحلة المضطربة. فعلى عاتقها تقع مهمة نزع فتيل الأزمة وإنهاء مسببات الصراع وتعزيز قوة الدولة، التي ستشكل ضامناً لسلامة الجميع ومرجعية عليا، لكل المتخاصمين والمختلفين. وفي هذا السياق، لابد أن نُثْني على موقف الرئيس ورفضه الإنزلاق مع طرف من طرفي الصراع ضد الطرف الآخر. فهذا موقف يُحمد له. ونحن نعرف أن اتخاذ هذا الموقف ليس بالأمر السهل، نظراً للضغوط، التي تمارس عليه، من قبل من يعتبرون أنفسهم موالين له، من جهة، وللإحراج المتواصل، الذي تسببه له نشاطات الحوثيين، من جهة أخرى. إن ثبات الرئيس على موقفه، كرئيس لجميع اليمنيين، ورفضه الإنزلاق إلى تأييد طرف ضد طرف، أمر يجب تشجيعه، لاسيما من قبل الحوثيين أنفسهم، باتخاذهم مواقف إيجابية منه، تمكن الرئيس من إدارة الأزمة، إدارة ناجحة، لصالح اليمن كله. ويكفيهم إنجازاً أنهم نجحوا في تحريك المياه الراكدة، ودفعوا الجميع إلى إعادة التفكير في سياساتهم وممارساتهم، كما أعادوا الرئاسة إلى دائرة، الشراكة الوطنية، في رسم مستقبل اليمن، وعدم الإنفراد في اتخاذ القرارات المصيرية، دون مشاركة القوى الوطنية الفاعلة. أما إذا اندفعوا في تصعيد المواجهة إلى الصدام المسلح، فسيكون الخاسر الأكبر الوطن والشعب، الذي يتحدثون باسمه، وسيخسرون هم أيضاً، ويفقدون مابدأوا يكسبونه من تقدير في الشارع اليمني.   

أما الأحزاب، ذات الأفق الوطني العام، التي تقف خارج الصراع، ولاتميز في فكرها وبنيتها التنظيمية، بين مذهب ومذهب، وبين سلالة وسلالة أو منطقة ومنطقة أو عشيرة وعشيرة؟ وفي طليعتها الحزبين الكبيرين: الحزب الإشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، ومعهما البعث، بمجاميعه المتناثرة، والأحزاب الصغيرة الأخرى، فإن دورها الهامشي لم يعد مقبولاً، ولامتناسباً مع تاريخها الوطني، ولامع ماينتظره الشعب اليمني منها. إننا ننتظر منها فعلاً مؤثراً، يعبر عن أفقها الوطني المعروف، ويسند مشروع بناء الدولة، بالحوار مع رأس الدولة، أو بالضغط عليه شعبياً، إذا لزم الأمر، مع دعمه، دعماً قوياً، إذا هو حسم أمره، وغير نهجه في الحكم، ومضى بالجدية اللازمة، في طريق بناء الدولة، القادرة على الإمساك بزمام الموقف وإنهاء ظاهرة الصراع والإقتتال، بين أطراف، يجب أن تنضوي كلها تحت سلطة الدولة القوية العادلة، لتأمن جميعها، ويأمن الشعب معها، من شرور الصراعات، ومن أضرار التحالفات المتغيرة.