Home Articles Orbits الديمقراطية والرصاص
الديمقراطية والرصاص
عبدالله السناوي
عبدالله السناوي

بكلمة واحدة علق الرئيس «حسنى مبارك» على التصريحات المثيرة وردود الأفعال الصاخبة حولها: «يشرب»!.. كان الصخب السياسى والإعلامى قد أخذ مداه بعد أن صرح الدكتور «مصطفى الفقي» سكرتير الرئيس السابق للمعلومات أن دوراً أمريكياً وإسرائيلياً سوف يكون مؤثراً ونافذاً عند اختيار رئيس الجمهورية المقبل. لم يكن التصريح ـ بذاته ـ كشفاً جديداً فى حسابات القوى والنفوذ الفاعلة فى النظام السياسى المصرى بعد توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، أو قبلها بسنوات عندما ارتبطت السياسات المصرية بنوع من التحالف مع الاستراتيجيات الأمريكية فى المنطقة، والذى صاحبه إعادة هيكلة الاقتصاد المصرى بصورة أدت إلى ارتفاع منسوب الدور الخارجى فى تقرير الشأن الداخلى بصورة خطيرة.. 
ولكن الجديد أن هذا الكلام المتواتر عن دور أمريكي، وراءه حسابات إسرائيلية، فى هذا الملف السيادى والحساس، صدر عن رجل اقترب من السلطة وكواليسها، الأمر الذى دعا الأستاذ «محمد حسنين هيكل» إلى وصف هذا التصريح المثير بأنه يصدر عن «شاهد ملك» شاهد وعاين بنفسه.. وفى غمرة ردود الأفعال الصاخبة، وبعضها من أصدقاء مقربين تربطهم به علاقات إنسانية ممتدة رغم اختلافات الأفكار والتوجهات والرؤي، بدا الدكتور «مصطفى الفقي» فى وضع حرج للغاية، فأقلام الحكومة تهاجمه بضراوة، وأقلام المعارضة تستشهد بما قال لتأكيد ما هو ثابت من تغول الدور الأمريكى فى الداخل المصري، وبعبارة «الفقي» نفسه: «لقد تحولت إلى تبة ضرب نار لأهداف متعارضة»، ولكنه بصورة أو أخرى تمكن من أن «يطفو» بعد أن ظن الجميع أنه قد غرق لا محالة، وهذه موهبة «مصطفى الفقي» المثيرة للدهشة والجدل، وربما الأسى على مواهبه الأخري، التى كانت ترشحه لأدوار أفضل وأكبر بكثير. فى تعليق «مبارك» المقتضب للغاية تبدت تعقيدات شخصية، «هيكل» طرفا جوهريا فيها، ولكن غابت عنه بصورة فادحة القضية ذاتها ـ ارتهان المستقبل المصرى لإرادات ومصالح أخرى من خارج الحدود.. والارتهان لا يفك عناصره سوى رد الأمر إلى صاحبه الأصلى ـ الشعب المصري.. بإصلاح سياسى ودستورى شامل والانتقال إلى عصر جديد ونظام جديد يستند على ديمقراطية حقيقية. 
هذه القضية تضغط ـ الآن ـ على الأعصاب السياسية فى مصر، فلا أحد يدرى ما قد يحدث غداً، ولا توجد قواعد تتوافر فيها شرعية القبول العام لانتقال آمن وسلمى للسلطة بعد الرئيس «مبارك»، كل شيء معلق على مجهول، أو تدافع الأحداث فى اللحظات الأخيرة، وبسبب هذه الأجواء ـ بالذات ـ انفلتت العبارات فى الاجتماع المشترك للجنتى الدفاع والأمن القومى وحقوق الإنسان فى مجلس الشعب إلى حدود تقارب الجنون، فلا يوجد نظام لديه قدر يسير من الرشد يقبل أن يدعو بعض نواب البرلمان المحسوبين عليه إلى إطلاق الرصاص على المتظاهرين، واتهام وزير الداخلية اللواء «حبيب العادلي» بـ «الحنية» مع من أسموهم بـ « العملاء والخونة الذين يمولون من الخارج!»، إذ أن هذه العبارات فيها تحريض على القتل، وفيها تحريض آخر للشباب الغاضب على العنف والإرهاب، فإذا كانت الشرطة سوف تطلق نيرانها على متظاهرين سلميين، فإن هناك من سوف يدعو ـ بالمقابل ـ إلى مبادلة العنف بالعنف والقتل بالقتل، كأن نواب الحكومة يدعون من تحت قبة البرلمان إلى دهس ما تبقى من دولة القانون، والانقضاض على أية دعوات للإصلاح السياسى والدستوري، وإفساح المجال واسعاً للاغتيالات السياسية، والكلام كله جرائم ضد الديمقراطية وضد القانون وضد المعارضة.. بل وضد النظام ذاته، إذ أن مثل هذا الكلام يجعل ممكناً مقاربة الوضع السياسى المصرى المتأزم بالوضع السياسى فى «قرغيزيا»، الذى استبق الانقضاض على نظام الحكم فيها، أو مقاربة بين الرئيس المصرى «مبارك» والرئيس القرغيزى السابق «باكييف»، الذى أمر قوات الأمن بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وكانت النتائج فادحة على نظامه وشخصه.. وهى مقاربة مزعجة للرئيس «مبارك» قبل أى شخص آخر، فما جرى جنون سياسى فى أعلى درجاته وأخطر مراحله.. ولا يكفى ـ مع هذا الانفلات الخطير ـ أن ينفى الحزب الوطنى وأمينه العام «صفوت الشريف» مثل هذا التوجه، أو أن يصمت رئيس مجلس الشعب الدكتور «فتحى سرور» عليه، إذ يتعين فى مثل هذه الحالة اتخاذ الإجراءات القانونية والسياسية بحق المتورطين فى التحريض على القتل، ولا أقل من الحساب العسير سياسياً وبرلمانياً وإحالة الملف كله إلى النائب العام.. ومع ذلك فإن ما جرى تحت قبة البرلمان له دلالاته التى تتجاوز بكثير التصرفات السياسية والقانونية فى مواجهته.. ففى لحظات التحول فى بنية السلطة العليا تصبح لكل كلمة مغزاها ولكل لفتة رسالتها.. والرسالة ـ هنا.. وفى هذا التوقيت الحرج ـ أن الأعصاب قد أفلتت، وأن أشباح العنف تخيم على المسرح السياسى وتهدد البلد بشلالات دم.. عندما تغيب القواعد الدستورية المقنعة، ويتبدى العجز فادحاً عن إصلاح سياسى يضمن الشرعية ويوفر للبلد طمأنينة الانتقال من عصر إلى عصر ومن نظام إلى نظام، تتوحش فى الوقت نفسه عناصر الانفلات والفوضى والتحريض على القمع والتنكيل.. وتلك عواقبها وخيمة.. وما جرى مع المتظاهرين أمام مجلس الشعب يوم (6) أبريل من اعتداءات وانتهاكات بشعة يدخل فى هذا السياق الخطر، فقد كانت أعداد المتظاهرين بالمئات، وكان يمكن أن يمر اليوم بسلام، دون مثل هذه التصرفات الأمنية الغليظة والمخجلة، التى أسماها نواب الرصاص «حنية من وزير الداخلية!». وما جرى فى هذا اليوم كان فضيحة أمام العالم نالت بضراوة هراوات الأمن من مستقبل مصر، وأجيالها الجديدة، التى من حقها أن تغضب على ما وصلت إليه من تدهور على جميع الجبهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن تطالب بإصلاح سياسى بالوسائل السلمية والديمقراطية.. العنف الأمنى بذاته دليل ضعف نظام، والتصريحات المخجلة تحت قبة البرلمان دليل آخر على ضعف هذا النظام، غابت السياسة وتصدر الأمن، وهذه مأساة أخري، فلا أمن بلا سياسة توفر له قواعد الشرعية والإقناع العام، كما أن إحالة خمسة من الإخوان المسلمين فى التوقيت نفسه إلى محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، وفق قانون امتد مفعوله بطول عهد الرئيس «مبارك»، الذى تعهد أكثر من مرة بإلغائه، ولكنه لم يفعل، ربما لأن النظام لا يستطيع أو لا يتصور أن يحكم مصر بغير الطوارئ، تدخل فى سلسلة المآسى السياسية لبلد أنهكته أحواله المتردية إلى حدود تنذر بانفجار مخزون الغضب فيه.. وليس بوسع أحد أن يصادر ويقمع مخزون الغضب بالتلويح بالرصاص، فهذه حماقة كبرى قد تغرى بها لحظات التحول والانتقال، وسوف يدفع الذين يحرضون على القتل ثمناً فادحاً فى المستقبل من ملاحقات قانونية وقضائية، ربما تمتد ـ إذا تمددت الحماقة وأخذت مداها الخطير ـ إلى المحافل الدولية ومحاكمها. 
وتعود ظاهرة «البرادعي» ـ فى بعض جوانبها ـ إلى اعتقاد عام بأن البلد يحتاج إلى من يدافع عن حقوق مواطنيه الأساسية، والديمقراطية فى مقدمتها، أمام هذه المحافل الدولية، وهذا الاعتقاد مشروع فى الظروف المصرية الحالية، ولكنه رجوع إلى الوراء، فقد تراجع المشروع الوطنى المستقل، الذى يضمن ويؤكد استقلالية القرار الوطني، وتوحش الدور الخارجى فى تقرير السياسات والمصائر، وعلى رأسها اختيار رئيس الجمهورية بعد «مبارك».. السلطة تعترف ـ عملياً ـ بمثل هذه الحسابات وتتصرف على أساسها، وقطاعات فى الرأى العام ترى ـ بالمقابل ـ أنها بحاجة إلى الالتفاف حول شخصية من خارج المسرح السياسى المهدم لها صوتها المسموع فى الخارج.. ولم تكن صدفة أن اتجاهات غالبة من الشباب الغاضب على مواقع الإنترنت أخذت تبحث عن مرشح رئاسى له مثل هذه الصفات، وجرى التفكير فى «عمرو موسي» أمين عام الجامعة العربية، و«محمد البرادعي» مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لهذا الاعتبار وحده، وجرى ترجيح اختيار الأخير لأنه تبنى خيارات الديمقراطية بصورة أوضح، فضلاً عما أبداه من جدية فى المواجهة الديمقراطية ودفع تكاليفها، غير أن الزخم حوله يبدو ـ الآن ـ متوقفاً، الخطوات المقبلة غائمة.. والشباب الغاضب ضاقت عن استيعاب حيويته وفاعليته «الجمعية الوطنية للتغيير» التى أعلن عنها «البرادعي»، بل إنه لم يعقد اجتماعاً موسعاً واحداً يضم الشخصيات ذاتها التى التقته فى منزله بـ «عزبة جرانة» بعد عودته مباشرة إلى القاهرة.. هناك مشكلة فى بنية هذه الجمعية وارتباك فى خطواتها التالية، وأن تكون ديمقراطية حقاً، تعتمد المشاركة السياسية، لا أن تستند على مبايعة رجل واحد، مهما كانت قيمة هذا الرجل، فالقضية ليست أن نستبدل رجلا بآخر، وأن نخرج من مبايعة لندخل فى مبايعة أخري، القضية هى الديمقراطية، والإصلاح السياسى والدستورى الشامل، وأن ندخل عصراً جديداً ونظاماً آخر أكثر ديمقراطية وعدلاً. 
كان يفترض أن تتسع الدائرة لا أن تضيق، أن يأخذ زخم البداية مداه لا أن يتوقف، أن تتصدر الفكرة الديمقراطية المشهد، لا أن تتحول إلى مماحكات حول رجل، لا أحد يختلف على جديته وأهليته للعب دور انتقالى فى أوضاع استثنائية، ولكنه يبدو ـ أحياناً ـ كمن لا يدرك حقيقة دوره، ويشخصنه بأكثر مما هو لازم، ويدخل فى كمائن الصدام مع تيارات سياسية رئيسية، بينما يفترض فيه أن يلعب دوراً توفيقياً، وربما وقع فى هذه الكمائن بسبب قلة خبرته فى العمل السياسى الداخلي.. هناك ـ الآن ـ مخاوف جدية من انكسار الحراك السياسى من جديد، وهذا الخطر يتجاوز بكثير الكلام عن مستقبل «البرادعي»، فمستقبل مصر أهم وأخطر.. وما هو مطلوب من «البرادعي»، وغيره من الشخصيات والفاعليات السياسية الوطنية من جميع الاتجاهات، إحداث توافق عام حول المطالب الديمقراطية، بحيث تدخل هذه المطالب فى صلب نقل السلطة فى مصر وداخل معادلاتها الرئيسية عند لحظات الحسم وتقرير المصائر، هذه هى اللعبة الحقيقية الآن.. وأى كلام آخر خارج تلك المعادلات الرئيسية ـ عند لحظة تحول وانتقال سلطة ـ ضياع للوقت والجهد والمستقبل معاً. وهذا هو الاختبار الجدى لمن يطلب الديمقراطية، ويبدى استعداداً للدفاع عنها، والنجاح فيه يعنى أنه يمكن للتاريخ أن يغير دفته، وأن تكون للنخب السياسية، رغم أحوالها المعروفة، كلمتها المؤثرة فى اختيار رئيس الجمهورية بعد «مبارك»، أو أن تكون لاعباً لا متفرجاً على ما قد يجرى غداً، أما الفشل فى هذا الاختبار المصيرى فإنه يعنى على الأغلب أننا ـ كما قال «مبارك» تعليقاً على ما جرى لـ «مصطفى الفقي».. ولكن لأسباب أخرى ـ سوف نشرب مأساة التدخل الأمريكى ـ الإسرائيلى فى اختيار رئيس الجمهورية المقبل حتى الثمالة!