هل يتنبه اليمنيون لمحاولات صناعته؟
اليمن .. صراع سياسي يراد له أن يكون مذهبيا
مشاهد الموت اليومية الدامية التي تحكي قصصاً مؤلمة لجرائم بشعة يمتهنها أناس غير اسوياء، وتصنعها دوائر بلا ضمير أو إنسانية، كل ما يهمها أن تلتهم اليمن وتدمر مقومات قوته وميزاته التاريخية والجغرافية.
مشهد الرعب الذي يفجر سكينة اليمنيين ويستبدلها بحالة الخوف ما كان له ان يكون لولا فشل أو إفشال الأداة السياسية في إحداث التغيير الذي خطه اليمنيون في ثورة 2011م ، في صورة ثورية شعبية سلمية موحدة لم ترض كثيراً من دول الاقليم والدول الكبرى صاحبة المصالح في اليمن والتي لاترضى بوجود يمن قوي موحد وطاقة شعبية كبيرة تواقة لبناء وطن مزدهر.
يسعى البعض إلى تصوير المشهد الراهن بأنه صراع مذهبي مآلاته ستكون كارثية وفي الحقيقة هو صراع سياسي على السلطة، تستند بعض اطرافه على الأرضية المذهبية. وتعتمد على القوة وقانون الغلبة لتحقيق مآربها.
لكن الأفظع في الأمر هو تعامل الاطراف الاقليمية والدولية مع المشهد اليمني وفق استراتيجية التأسيس لصراع مذهبي بعيد الاجل من أجل اضعاف الكيان اليمني وتمزيق نسيجه الاجتماعي، ليتم بعد ذلك التوافق الخارجي على مصالح الدول الاقليمية والدولية في اليمن في ظل استمرار الصراع المدمر لبنية المجتمع ونسيجه الاجتماعي وطاقته البشرية.
يقلل البعض من خطورة الوضع اليوم ويستبعد إمكانية تحوله إلى صراع مذهبي مستندا في ذلك على تعايش اليمنيين لقرون طويلة وهذه حقيقة لاغبار عليها ومدعاة تطمين، لكن ما يجب ان نعيه ان هذا الصراع يصنع لآن ويدار وفق أجندات قد تجعله في المستقبل واقعا مرا لا يمكن تداركه.
إن الدماء اليمنية التي تسال اليوم هي اللبنة الأولى لتأسيس عنفية الصراع ، والمتمثلة بخلق الكراهية والحقد لدى أسر الضحايا ومن ثم المجتمع . تهيئة لثقافة وخيارات العنف.
لا يمكن عزل ما يحدث اليوم عن الصراع والأحداث في المنطقة ، خصوصا مع ضعف القرار اليمني وكيان الدولة بكل مؤسساتها الشكلية، وعند تأمل السياسة الغربية في المنطقة خصوصا بعد ثورات الربيع العربي نجد أن استراتيجيتها تركزت على خلق الصراعات وإذكاء المذهبية والطائفية ولعل المشهد السوري والعراقي والبحريني يتحدث عن ذلك بكل جلاء وهو ما يراد لبلادنا الغرق فيه.
ومن شواهد هذا التوجه ما يحدث من تفرج على اضعاف الدولة والمكونات السياسية والاجتماعية ما هو سوى كمؤشر تمهيدي للصراع المذهبي، والحقيقة الناصعة ان المذهبية تنشأ بدلا عن الدولة الوطنية جراء غياب المشروع الوطني الجامع.
قد ينظر البعض إلى هذا الطرح كنوع من الدعوة للمذهبية ، وهذا أمر مجاف للحقيقة لأن الهدف منه هو لفت نظر كل اليمنيين إلى ان صراعكم السياسي اليوم بلا مسؤولية واستجابة لرغبة السلطة قد يستغل لتفجير صراع مذهبي مستقبلي . وهو ما يجب على كل اليمنيين الوقوف ضده واجهاضه من الآن.
والمتأمل للصراعات المذهبية سيجد أن الصراع يأتي دائما من عالم السياسة وليس من اجتهادات المذاهب أو اختلافها.
ولو امعنا التفكير في شكل الصراع المذهبي والطائفي في المنطقة سنهتدي إلى أنه يتم تأجيجه أو خلقه لصالح الكيان الصهيوني، من خلال شغل المحيط العربي والدول التي لها مواقع استراتيجية في الوطن العربي في صراع اطرافه الرئيسية دول عربية وإيران وغض الطرف عن العدو التاريخي والاستراتيجي للأمة وهو الكيان الصهيوني.
والواضح ان الصراع المذهبي من أخطر الصراعات كونه يقوم في جوهره على طاقات عقائدية لاتؤمن سوى بإلغاء الآخر. وهذا يقود إلى تدمير طاقات الأمة العربية والاسلامية بصراعات بلباس ديني، و ديننا الإسلامي المتسامح والمتعايش بريئ منها.
ما كان لنا ان نتحدث عن هذه الصراعات المريضة في حال وجود المشروع القومي للأمة ، لكن ضرب هذا المشروع من قبل امريكا وبمشاركة اطراف الصراع المذهبي الطائفي أضعف قوة الأمة ووحدتها وجعلها ساحة للصراعات غير العصرية في ظل فراغ المنطقة العربية من المشروع القومي الحقيقي.
ونحن نشاهد اليوم بألم كيف أن الطائفية دمرت العراق وحولته إلى ساحة للاقتتال فيما اتفقت إيران وامريكا على نهب ثرواته وتقاسم سلطته وإدارة الصراعات داخله.
الواضح أنه منذ احداث 11 سبتمبر 2001م وبروز نشاط تنظيم القاعدة في مختلف البلدان العربية،وما تلى هذه الواقعة من تبعات كانت بداية الاستراتيجية القائمة على إذكاء الصراعات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية. حيث أكدت الاحداث ان السيناريو المحدد لهذا الصراع ستكون اطرافه الجماعات المتطرفة ذات الانتماء السني وكذا الجماعات المتطرفة ذات الانتماء الشيعي. وهما طرفان ذوا ذات ادعاءات دينية لا تنتمي إلى روح ديننا الإسلامي بقدر ما تخدم دوائر الاستخبارات العالمية.
سقوط العاصمة صنعاء والتمدد الحوثي في بعض المدن بقوة السلاح وبتسهيل كيانات كانت تسيطر على مؤسسات الدولة جاء وفق توافق اقليمي دولي لأجندات خاصة بالدول العظمى ورغبات جماعات وكيانات داخلية للاستيلاء على السلطة وضرب خصوم سياسيين .
ولعل هذا المشهد الذي أظهرت فيه جماعة الحوثي نشوة الانتصار ،وعجزها عن مقاومة غرورها ليس نهاية لصراع انتصرت فيه جماعة وحلفاؤها وهزمت فيه الدولة وخصوم سياسيون.
المنطق يقول إن هناك تأجيلاً لصراع اكثر دموية مستقبلا خصوصا ان بمقدور اطراف الصراع الاقليمي استغلال الوضع والاحقاد المترتبة على ما شهدته اليمن خلال الثلاثة الاشهر الفائتة لإذكاء جولات قادمة من الصراع قد تجتر الطابع المذهبي.
وما لا ينكره احد أن طبيعة مثل هكذا صراع سيدمر احلام اليمنيين في دولة مدنية حديثة ، لان جوهر الصراع يقضي على امكانية وجود دولة في الاصل.
المؤكد أن الصراع المذهبي يصنع صناعة ويدار إدارة عالية والاوضاع الداخلية تتيح تحقيق ذلك، ما يحتم على جميع الاطراف اليمنية الانتباه والا يلهيهم الصراع على السلطة عن مواجهته وإخماده قبل أن يطيح بالبلد أرضاً وإنساناً.
والأفظع في الامر اننا افتقدنا القرار الوطني والوحدة الوطنية ، وانفتحت حنفيات الدعم الخارجي لقوى تخدم بوعي او بغير وعي صناعة هذا الصراع.
وثمة حقيقة مرة مفادها أن غرور الحوثيين جعلهم لا يعون مالآت سلوكهم المنفر و المؤلب للعداوات، وبدا ذلك واضحا منذ تنصلهم عن التزاماتهم تجاه مخرجات الحوار الوطني ، وفرض سياسة الامر الواقع الذي ضرب المسمار الاخير في الكيان الشكلي للدولة وقوى من حضور عدو اختار مواجهته وهو تنظيم القاعدة الذي حظي للأسف الشديد بتعاطف بعض المناطق بمجرد أن صار عدوه هو الحوثي.
وبدا واضحا عداوة الطرفين المشتركين بارتباط كل منهما بعلاقات استخباراتية وسياسية لجهات خارج اليمن ولهم تحالفات غير وطنية داخل اليمن ايضا.
غياب المشترك
ومن مساوئ القدر هو غياب الدور الفاعل لأحزاب اللقاء المشترك التي كانت تشكل مساحة المعارضة ،و تاهت في دهاليز التسوية السياسية ولم تستطع الخروج منها أوالقيام بدور فاعل خصوصا بعد ان حصدت المر من مشاركتها المبعثرة وغير الموحدة ككيان في التسوية السياسية وفي حكومة الوفاق على وجه الخصوص .
والمتأمل للواقع الذي عاشه اليمن خلال الاربعة الاعوام الفائتة يلمس مدى الحاجة الماسة لوجود اللقاء المشترك ككيان موحد كما كان قبل واثناء ثورة 2011م ، موحد البرنامج والموقف والهيئات.
هذا الغياب من ابرز اسبابه غرور بعض اطرافه وغرقه في السلطة ومساعي تقوية وجوده في كيانها، وشعوره أن التحالف قد حقق هدفه وانتهى ولم يعد له الآن أي داع.
هذا الغياب ترك مساحة للخصوم عملوا من خلالها على تحقيق انتصارات سياسية واعاقة مسار التسوية ،وتشويه مكانة هذا التكتل .
ولعل التعامل بطريقة الانتقام والخصومة التي خدمت جماعة الحوثي كان دليلاً على الخسارة الفادحة لهذا التكتل خلال السنتين الفائتتين.
اليسار التائه
الصراع بلباس ديني او مذهبي كارثة يجب تحاشيها بمشروع وطني وتحالف وطني يشارك فيه كل أبناء اليمن واساسه لابد أن ينطلق من القوى القومية واليسارية التي تذوب في اطار مشاريعها وبرامجها هذه الصراعات الضيقة .
ومالم يكن لهذه القوى رؤية من الآن لكيفية التعامل مع المستقبل ودرء مساعي جر اليمن نحو الاقتتال غير الوطني فإن الكارثة ستحل والقادم سيكون أكثر مأساوية.
والمؤسف أن حالة من التيهان تعيشها قوى اليسار التي تراخت عن مشاريعها لتجد نفسها تابعة لمشاريع الآخرين ظناً منها أنها تحالفات من اجل اليمن .
وهذا التقدير الذي اثبت فشله ، يحتم على هذه القوى ترتيب اوراقها وهياكلها وعلاقتها بأعضائها وأنصارها وبالمواطنين حتى تقود مشروعاً وطنياً يواجه مشروع المذهبية الذي يعد له في دهاليز الاستخبارات وغرف التحكم خارج الجغرافيا الوطنية.