Home Articles Orbits حتى لا تتضاعف مشاكلنا
حتى لا تتضاعف مشاكلنا
فتحي أبو النصر
فتحي أبو النصر

يجب أن نستوعب ماذا تعني تغولات قوى الفساد واللصوصية والعصبيات والحروب، التي تتوحش في دفاعها النرجسي عن تضخم مصالحها الابتزازية والاستئثارية غير المشروعة في النفوذ والثروة والقرارات والتوجهات.

مالم؛ فإن شبكتها العميقة ستظل تتجذر أكثر، خصوصا في ظل استمرار كارثة الانقسام الحاد القائمة بسببها في الدولة والمجتمع، وهو ما يعني ضياع شخصيتي الدولة والمجتمع معا، جراء تصاعد لا جدوى وعبث الرفض الذي كان من الممكن أن ينبعث تجاهها من قبل أصحاب الإحساس الشعبي اليائس بأهمية التعايش معها، على الرغم من كل ما احدثته في الشخصية اليمنية من مهانات واستلابات.

فهؤلاء صاروا يرون أن تلك القوى هي قدر اليمنيين الذي لا فكاك منه ولا يمكن المغامرة في تخيل المصير العام بدونها.. لكن ليس لأنها جعلت الفساد تربية وطنية يجب أن تسري على الجميع لتضمن ولائهم، وليس لأن قيمها تطغي على السياسة ونخبها المنحطة فقط؛ وإنما لأن تلك القوى التي تدأب على وأد الأمل الشعبي، صارت تستوعب وأكثر، ماذا يعني لها استحواذ قيم التغيير على إرادة قوى الشعب الحية التي تحلم بالخلاص منها وتدشين حلم اليمن الجديد.

بالتالي؛ فإنه في ظل عدم توحد مختلف القوى التائقة لبلورة المشروع الوطني القائم على تصحيح المسار وإنضاج شروط تفعيل بناء الدولة وازدهار المواطنة، ستستمر تلك القوى الماقبل وطنية هي المتحكمة للأسف في مسار الحاضر ومسار المستقبل أيضا.

والحال انه بسبب تعقد الظواهر الاجتماعية؛ والتفكير الخامل للنخب السياسية، والتجريف الحضاري، ومنظومة اللا انتاج، والإفساد المنغمس، والسلفية الثقافية: ستظل اليمن تدور بين المشاكل التي تتطلب الحلول؛ وتلك الحلول التي تتحول إلى مشاكل مضاعفة.. أي بين الاستغلال والاستبداد الطبقي للجمهورية وللوحدة بنموذجي الشيخ والسيد، وحالة الديمقراطية الخادعة والمزيفة والمفرغة المضامين من الداخل.

إلا أن عزاؤنا الوحيد في ظل المعمعة الناشبة يكمن في تخلق وعي مدني ديمقراطي أكثر تشبثا باستعادة روح الجمهورية المسلوبة ضمن قومية يمنية عليا تتشكل.

لذلك كله يجب أن تكون اليمن هي الهوية الكبرى الجامعة لمواطنيها، ومن يعتقد بأن هويته الصغرى المناطقية أو المذهبية أو السلالية أو حتى الحزبية هي الوطن فهو مغفل بلا شك.. نعم من حقه الاعتزاز بهوياته الصغرى، ولكن تبقى اليمن هي الهوية الكبرى الجامعة التي ينبغي احترامها ولا يفترض العمل ضدها. بينما الصراع الناشب في جزء كبير منه للأسف سببه الجوهري أزمات الهوية؛ وتحديدا مأزق التيه في مشاريع الهويات ما قبل الوطنية.!

وتاريخيا؛ كان من اشنع نتائج الحروب التي لم تقف عند حد، ظهور وتعزز وتجذر طبقة مؤججة للحروب ولعدم الاستقرار ، تبتهج تماما بغرائز القوة والفيد والغنيمة وفكرة الغالب والمسيطر ، حتى صارت لا تقتات إلا من الحروب ، وبالمقابل فإن اقتصاد الحروب والعصبيات أصبح هو ملاذها الاجمل الذي لا يمكن أن تتنازل عن فوائده الجمة، وبالذات مع تغييب ذهنية الحروب للدولة التي في الأصل لم تعمل على تنمية اقتصاد بديل لتلك الطبقة بقدر ما ساهمت في عدم وضع أي اعتبار للكوارث التي تنتجها الحروب في المجتمع ، وتلذذها بالتالي بما كان يجري من حروب عبر اعادة هيكلة المجتمع بحسب نتائج الحروب لمصلحتها، ما يعني عدم إصلاح ما افسدته الحروب في الكيان الوطني وبقاء قواعد الحروب التي خربت الماضي كنظام لإدارة الحاضر و المستقبل معا.

هكذا: كل يوم تزداد حاجة اليمنيين إلى دولة لا تغذي الأزمات البنيوية وتتعاطى مع الجميع من منطلق المواطنة المتساوية لا من منطلق الامتيازات البدائية للنافذين.. دولة تحتكر السلاح ويسودها القانون وتضع اهتماما حقيقيا للمعطيات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية الحديثة من أجل نهضة المجتمع والدولة.. دولة يكون فيها الولاء المعتبر للمؤسسات وللمصالح العامة لـ25 مليون يمني بدلا من المصالح الأنانية و الشرهة لعصابات الأشخاص والعائلات.. دولة تقدم وبناء وعدالة اجتماعية؛ تجتهد وتبدع في مكافحة الفساد والقعر المتراكم والاحتكارات والامتيازات. . دولة لا يقوم أحد بوظائفها كمديرة أساسية لحقوق وواجبات كل المواطنين بلا استثناء، وبالمحصلة، لا تتحيز أو ترضخ لأحد سواها باعتبارها -وكما يفترض- دولة ناضجة وصوتها اعلى وأقوى من كل مهيمنات ما قبل الدولة وما قبل السلام، والتي ما زلت تتغذى حتى اللحظة من ذهنية إنتاج الغلبة والحروب ليس إلا.

ويا ترى: هل كان من الممكن فعلا تجنب الصراع القائم اليوم أم أن حدوثه كان لابد منه؟

بالطبع لا يهم السؤال حاليا، بقدر أهمية العمل السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لتكريس قيمة إدارة الصراع بأدوات لصالح المستقبل لا لصالح الماضي.. بأدوات لصالح حلم إنتاج دولة وطنية ديمقراطية حديثة وضامنة لتحقيق مواطنة الكرامة والنظام و الإنتاج والحقوق والواجبات المتساوية؛ وليس بأدوات المذهبية والمناطقية والهيمنة والإقصاء والإفساد التي كانت اصلا هي السبب الجوهري لنشوء الصراع ومن ثم انفجاره الحاد.

الصراع الذي ظل يتأجج كجمرة من تحت الرماد شمالا وجنوبا منذ ما قبل 62 و63 مرورا بتجليات الحروب التي لم تهدأ هنا وهناك قبل الوحدة وبعدها كذلك، فوصولا إلى لحظة الاشتعال الأكبر التي نعيشها منذ 21 سبتمبر 2014!

ولئن آمنا بأن العنف يلوك ذاته كما يقول التاريخ؛ فإن أعظم مسؤولية تقع على الجميع هي التحشيد ضد العنف السياسي والديني والاجتماعي الذي صار يستشري بهوس فادح. كما أن تطييف الصراع يعني الإمعان في حالة التيه الوطني وتأجيج الكراهيات وحرف تراكم النضال المدني عن معناه الحقيقي؛ ما يعني وضع الصراع في قالب أخرق وأهوج لا يصب في مصلحة الدولة والمجتمع على الإطلاق.

ثم أن الطائفية لا تعالج بطائفية مضادة؛ ومع تفاقم الاقتتالات وزهق الدماء البريئة، علمتنا الأيام ان التطرف ليس حلا. أما السعار المذهبي والمناطقي فيجب أن يقلقنا للغاية، وليس من منقذ للجميع من فظائع الطائفية غير المشروع الوطني الكبير.

فالطائفية تعرض مصالح الأمة للخطر، وسببها نهج الاستبداد الذي يرفض تطوير أنظمة الديمقراطية. وبالتأكيد ليس في التحشيد الطائفي موقفا بطوليا مشرفا بل إن فيه مآس وحماقات زاخرة، فيما يجب أن نعرف الطريق الوطني الصحيح لننجو منها قبل فوات الأوان.