Home Articles Orbits من ذكريات السفير عبدالرحمن الحمدي
من ذكريات السفير عبدالرحمن الحمدي
سليمان السقاف
سليمان السقاف

شقيق الرئيس الحمدي يعترف: دللني أكثر من أولاده، وأحببكم أكثر مني، وهذه قصتي.

عبدالرحمن هو شقيق الرئيس ابراهيم الحمدي الوحيد (من الأب والأم)، حتى أنه يشبهه لدرجة كبيرة، ومنذ رحيل والدهما صار الأخير وصياً عليه وعلى والدتهما وشقيقتيهما أيضاً، وجميعهم يقيمون في منزله، وقد غدا عبدالرحمن كأحد أولاده، وبعد وفاة الوالدة أصبح أكثر حناناً عليهم، وبالنظر لكون شقيقه الأصغر قاصراً ويتيم الأبوين فقد كان ابراهيم يوليه عناية خاصة (مع الحزم المطلوب طبعاً)، حتى أن شدة محبته وعطفه عليه (ربما) جعلت البعض يظنون -وبعض الظن إثم- أن البعوضة لو ساقها سوء قدرها وشكى منها عبدالرحمن لأمر الرئيس اطلاق سرب مقاتلات حربية لنسفها في الجو قبل أن يصل دم شقيقه إلى معدتها، لولا أن هذه الحادثة كشفت عن ثغرة ما أو عن استثناء واضح في بنية هذا المفهوم.

فعندما بدأ البث التلفزيوني لأول مرة كان ذلك بعد عام واحد فحسب من تولي الكولونيل ابراهيم الحمدي رئاسة الجمهورية (في شمال اليمن)، وجاء في وقت كان فيه المذياع (الراديو) لازال شيئاً يشبه أعمال السحرة في نظر غالبية اليمنيين، وبهذا أصبحت أضواء التلفاز إحدى منجزات الرجل، كحقيقة لا تنكر، تماماً مثل حقيقة أن ضوء النهار لا يصنعه غير نجم واحد بينما تعجز ملايين النجوم الأخرى حتى عن مجرد الظهور في وجوده.

ومع افتتاحها نشرت المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون إعلاناً عن وظائف شاغرة، وكان ذلك متزامناً مع بدء العطلة الصيفية، وكان عبدالرحمن الحمدي قد أكمل لتوه المرحلة الاعدادية (التاسع أساسي)، وفي ذلك الوقت كانت شهادة هذه المرحلة تؤمن - لمن أراد - فرصة نيل وظيفة ما في الجهاز الحكومي عامة، وكان الأخير طامعاً بوظيفةٍ مؤقتة يثبت فيها أنه صار رجلاً منتجاً، ويقبض النقود أيضاً، وإلى جانب ذلك فهو عملٌ يملأ به فراغ الإجازة الطويلة، ويكفيه شر التسكع في شوارع صنعاء كالأكثرية من أقرانه المراهقين، فقرر فور رؤيته للإعلان أن يكون هناك في صبيحة الغد.

وخلافاً لكون ابراهيم قدوته الشخصية، فقد انطلق عبدالرحمن في قراره من فهم نهج ابراهيم كقائد، ومنهجه كرئيس باعتبار أن أقصى أحلامه (على الصعيدين الشخصي والوطني) كانت أن يجعل من كل شخص (أو كل مواطن) - وبغض النظر عمن يكون أو قدر حاجته للمال من عدمه- إنساناً مبادراً معتمداً على الذات، وفرداً منتجاً قادراً على العطاء، لهذا كان واثقاً تماماً أنها مبادرة ذكية وخطوة جريئة ستجد تقديراً وترحيباً بالغين من شقيقه ابراهيم حين يبلغه بالنبأ لاحقاً.

 وفي مبنى المؤسسة إياها، والذي يشغل مساحة معتبرة من شارع القيادة في العاصمة صنعاء كان أول مدير عام لها يستقبل بنفسه المتقدمين للتوظيف في مكتبه، وكان الصبي قد ذهب باكراً في ذلك الصباح من العام 75م، وقدم طلبه للمختص، منتظراً – كالآخرين - دوره حتى وقت الظهيرة حين نادوا عليه، ومن ثم دخل مكتب المدير العام علي الجمرة، والذي كان قد أمضى ساعات في تلك المقابلات المملة، ولم يكن قد اطلع بعد على اسم ذلك المتقدم وبياناته، لكنه ومن النظرة الأولى باشره متسائلاً باستغراب : "هل تقرب للرئيس ابراهيم الحمدي؟ !!! " (كان يتأكد فقط فالشبه مذهل).

وربما اعتقد عبدالرحمن أن المدير من أولئك المتأثرين بالثقافة السائدة التي ترى أن أبناء كبار المسؤولين أو كبار الأثرياء هم فئة خلقت لتستمتع بالمال لا لتعمل وتكد، أو أنه لم يتصور أن يتقدم (شقيق الرئيس شخصياً) لوظيفة بهذه الطريقة، لذا رد باعتداد وبمنطق من يفخر بفعله  : " نعم هو أخي، وشقيقي الأكبر، وهو بمقام والدي أيضاً".

عاد المدير يسأله مجدداً : "أين تعيش؟".

عبدالرحمن : " مع أخي ابراهيم".

بدا المدير أكثر استغراباً وهو يتساءل باستنكار : "إذاً لماذا تريد أن تعمل، ألا يهتم الرئيس بك؟!!!!! ".

رد عليه عبدالرحمن موضحاً : " هو يهتم بي، ولكن العطلة الصيفية بدأت، وأريد عملاً انشغل به".

كان عبدالرحمن يعتقد أنه وضع الأمور في سياقها، ولابد أن يحترم المدير روعة هذا المنطق، وربما يحييه عليه، لكنه -ودون أن يدري- وجد نفسه وكأنه صب على النار جالوناً من الوقود، فقد اتقد غضب الجمرة كما يتقد الجمر في موقده، ليعنَّفه بقسوة وهو يشير بيده نحو الباب قائلاً  : "رَوِّح بيتكم، لا عمل لك عندي".

كان رداً مباغتاً وصادماً لم يخطر بباله على أية حال، بل قل أنه نزل على رأسه كمطرقة ثقيلة، لذا ظهر مرتبكاً وهو يسأل المدير بعدم تصديق : " لماذا ؟!!!".

تطاير المزيد من شرر الجمرة، وهو يرد بضيق لافت : "لأن العمل لمن يحتاجه ... لمن يعول أسرة"، قالها بلهجة من شرح أمراً شرحاً مستفيضاً وبأكثر مما يجب، ثم فرقع أصابعه كما يفعل من يأمر طفلاً بتنفيذ أمر عاجل ليضيف بغلظة وهو يومئ له بحاجبيه بشراسة : " يالله ... مع السلامة".

كان عبدالرحمن جديراً بالدفاع عن حقه أو عن وجهة نظرة لو أن هناك من يستمع، فالوظيفة حق عام، وهي متاحة للجميع، ولفظة الجميع لابد أنها تشمل عبدالرحمن، ولا مانع قانوني يحرم أشقاء الرئيس أو من يقيمون بمنزله منها، وحين تقدم لها فقد فعل كأي مواطن هو صاحب حق فيها وكأي شاب ذو طموح هو أكثر من يستحقها، وقد جاء دون أن يفكر للحظة أنه يتميز بشيئ عن الآخرين، ولم يعتبر صلة الدم تلك جسراً لبلوغ آماله، لكن ما لا يفهمه وفق أي منطق صارت عقبة في طريق تحقيقها، كان يتمنى حقاً لو أنه على الأقل هدَّ جدار اللا منطق على رأس الجمرة قبل أن يغادره، لكنه -وللأسف- وجد نفسه يخسر الوظيفة وماء الوجه.

غادر عبدالرحمن مكتب الجمرة والمبنى كله غاضباً، وهو يشعر بطعم المرارة في حلقه، وحين وصل الرئيس الحمدي منزله وجده ينتظر على أحر من الجمر ليشكو أمر الجمرة، وبدأ يخبره أنه ذهب يبحث عن عمل للصيف فهز الرئيس رأسه قائلاً : " ممتاز "، لكن الغصة سدت حنجرة عبدالرحمن، فانفجر باكياً، وبحنان قال له الرئيس : " بطل بكاء كي افهم ما تقول "، فأخبره بما صار له، وهو يتخيل غضب شقيقه لأجله، فلابد أنه سينفثه الآن عبر أسلاك الهاتف ليسحق غطرسة ذلك المدير، بل بدأ يشعر بالشفقة تجاهه مسبقاً، غير أن ردة الفعل جاءت مختلفة وغريبة حين سمع الرئيس يرد عليه : " المدير على حق، فيه من هو أحق منك بالوظيفة، لكن لا تزعل، فإن محمد (أخيهما الأكبر) قد أخبرني أن المدرسة في ثلا سوف تعمل في الصيف لتقوية الطلاب وكذلك محو أمية، اذهب ثلا، ودرس الثلاثة الأشهر وأنا أعطيك مائة ريال". ( أجر 3 أشهر طبعا).

وشيئاً فشيئاً بدأ عبدالرحمن يتجاوب معه، ثم شرع يفاوضه : "لا... مائتين ريال". وهنا بدت ابتسامة ودودة تلوح على وجه الرئيس عندما استطاع انتزاع عبدالرحمن من أتون مأساته، ونجح في جره بعيداً حتى أوصله للتفاوض، ليوافق على عرضه فوراً : " تمام".

 وبذلك أفلح الرئيس في ضرب كل العصافير بحجر واحد، فلم يزجر المدير على الأقل على عنفه اللفظي مع صبي بعمر عبدالرحمن، وقد كان تصرفاً مستحقاً لو فعل، وترفع عن أن يأمر له بالوظيفة رغم قانونية الإجراء، وقبل كل ذلك أعاد تجبير روح شقيقه المحطمة بسلاسة وذكاء، وتمكن من لملمة أشلاء طموحاته ببصيرة نافذة، وهكذا فقد قبض عبدالرحمن -لاحقاً- أول راتب في حياته، وكان سعيداً به، لولا أن الحدث جرى لمرة واحدة ولم يتكرر.

 (انتهت)

  ستظل هذه الشهادة ناقصة لو لم نذكر أن عبدالرحمن شعر أن شقيقه -ولأول مرة- كان يدفعه للتضحية دفعاً، ثم أن تبرير حرمانه منها (الوظيفة) (لو صح) لم يكن ليبرر الأسلوب قطعاً، لهذا فقد أدرك أن شقيقه (الرئيس) لم يفعل ذلك -بكل تأكيد- لأجل عيون الجمرة المخيفة، وإنما لأجل من دافع المدير عنهم وعن حقهم بشراسة مبالغ بها، ومع ذلك وجدت قسوته تلك تفهم الرئيس وربما تقديره، لقد اكتشف أن البسطاء هم من يحتل دوماً المكانة الأعلى في قلب الانسان ابراهيم الحمدي، وأن دموعهم -وببساطة- أعز عليه حتى من دموع عبدالرحمن نفسه، ولهذا فحين خذل شقيقه فإنه فعلها حباً فينا نحن أبناء البسطاء، أو بعبارة أخرى فقد فعلها لأجل أبناء -بابا- ابراهيم الحمدي الحقيقيين.

  لم يلتقِ الأستاذ عبدالرحمن الحمدي بــ علي الجمرة إلا بعد عشرين عام ونيف (في 96م)، وكان عبدالرحمن حينها نائباً في أول برلمان بعد الوحدة، وقد التقاه بالصدفة في مكتب وزير التخطيط والتنمية أحمد صوفان، وتذاكرا حول هذه الواقعة، فاستغرب كل الحاضرين بالمكتب من مجرياتها قائلين وقد أخذتهم الدهشة (كأنها قصة خيالية)، وإني لاعذرهم، اعذرهم تماماً..

وإلى لقاء قريب مع المزيد من ذكريات سعادة السفير التي تنشر تباعا على موقع (الوحدوي نت).