Home Articles Orbits يحيى المتوكل وحكاية أنجح سفير يمني
يحيى المتوكل وحكاية أنجح سفير يمني
سليمان السقاف
سليمان السقاف

كان يحي المتوكل زميلاً لابراهيم الحمدي في كلية الطيران قبل ثورة سبتمبر، ولا يعني البته أن الزميل قطعاً هو صديق أو ما شابه، فعلى الأقل يصنف حسين المسوري كأحد أبرز خصوم ابراهيم السياسيين وهو الذي كان أحد زملائه، غير أن يحي المتوكل لم يكن مجرد زميل فحسب، بل كان صديقاً له فعلاً -وبما يمكن فهمه لغوياً من لفظة الصداقة-  وقد ظلا صديقان بالرغم من افتراقهما المفاجئ عقب عودة ابراهيم إلى ذمار، ليحلْ مَحل والده (فضيلة القاضي العلامة محمد صالح الحمدي) في عمله، [وحدث ذلك عطفاً على قرار فصل ابراهيم من الكلية من قبل السلال مسؤول الكلية وقتها]، وقد ظل ابراهيم يمارس وظيفة والده الحكومية حتى قامت ثورة سبتمبر المجيدة، وكان ابراهيم قد أنجز دراسته للقضاء قبل الخامسة عشرة، أي قبل سنوات من التحاقه بكلية الطيران.

19 عاماً شمسياً و61 يوماً كان سن ابراهيم الحمدي يوم تفجرت ثورة سبتمبر، وحتى ذلك التاريخ لم يكن ابراهيم -كما أسلفنا- مسؤولاً نافذاً أو حتى مجرد موظف رسمي يتقاضى الأموال من خزائن المملكة المتوكلية أو أن شاب يافع بعمره يمكن أن يشكل خطراً على الثورة حتى تشمله قائمة المطلوبين حين جرى اعتقاله -أول أيام الثورة- من المحكمة وهو يقوم بعمله (نيابة عن والده طبعاً)، ومع ذلك اعتقل ابراهيم بالرغم من أنه لم يكن مطلوباً بهدف الضغط على والده لتسليم نفسه، وجاء ضمن اجراءات احترازية قام بها الثوار تحسباً لأي محاولة قد تستهدف التربص بمسيرة الثورة الوليدة من قبل الشخصيات البارزة أو المؤثرة من رجال الإمام، فكان اعتقالهم والتحفظ عليهم أقرب الخيارات الآمنة لحماية الجمهورية الفتية.

ويومها هب إليه بعض زملائه القدامى (من الضباط الأحرار) فور علمهم بالنبأ، وأبدوا دهشتهم لاعتقاله دون أن يكون اسمه وارداً ضمن كشوف المطلوبين، فاستقبلهم ضاحكاً وهو يتندر من طرافة الموقف موضحاً لهم بأنه معتقل بدلاً من والده وليس أكثر، فغدا من المتوجب معالجة السبب الرئيسي للاعتقال، وهناك من ينسب لــ يحي المتوكل الدور الأبرز في إقناع السلال باستثناء الحمدي الاب من الاعتقال، وهم من يعزون ذلك لمعرفة الرجل الوثيقة بأسرة صديقه عطفاً على ما اكتسبه سلفاً من خلفية كافية عن ابراهيم وأسرته، فكان واثقاً تماماً أن والد ابراهيم لم يكن أحد المسؤولين المتعصبين للنظام الملكي مطلقاً، وأيضاً ليس ممن يمكن أن يتخندق مع خصوم الثورة أبداً، وكان تقديراً موفقاً، وحدث أن ألغي قرار الاعتقال بحق الأب، وبالطبع فالإفراج عن الحمدي الابن كان أسبق، وإثرها عاد ابراهيم إلى صنعاء ليكمل دراسته العسكرية في كلية الطيران، ومن ثم كِّلف بانشاء قوات العاصفة، وكانت تلك أول انجازاته البارزة في حياته العسكرية، ويلزمنا أن نضيف تنويهاً مهماً هنا لنشير إلى أن صداقة الحمدي بأحمد الغشمي التي انتهت بعاصفة الدم بدأت من وسط تلك "العاصفة".

وقطعاً لا يعقل أن يكون الرئيس الحمدي مطالباً بإعلان مشاعره الودية تجاه فلان أو علان من رجاله، أو أن عليه نشر قائمة بالموثوقين لديه لتذاع في نشرة الأخبار الرئيسة حتى يبلغ الخبر مسامع الجميع، بل أن كشف الأوراق ليس دليل عبقرية دوماً، لهذا يستحيل الحصول على دليل مادي (صوتي أو كتابي) منسوب للرئيس الحمدي يبث فيه فيض مشاعره المتدفقة للمتوكل مثلاً (أو غيره) إن كان أحد يفكر بمثل هذا الطلب، إلا أننا نستطيع التأكيد بطريقة أخرى ومقبولة أنه وخلال عقد ونيف من عمر الثورة لم تسجل حادثة خلاف واحدة بين ابراهيم الحمدي ويحي المتوكل، ولم يبدر قط ما يشي بتراجع مستوى الثقة والاحترام المتبادلين بينهما.

أما بعد أن صار الحمدي رئيساً فقد تم تسمية يحي المتوكل كأول وزير داخلية في أول حكومة شكلتها الحركة التصحيحة، ولم يكن ابراهيم الحمدي ممن يقبل بتجربة المُجرَّبين أو التصحيح بالملوَّثة أيديهم، وهو صاحب هذه القاعدة الذهبية الشهيرة أصلاً، وإن كانت هذه نظرية الحمدي وطالما أن هذا فهمه للإدارة والقيادة بشكل عام فأنى يُعقل أن يختص أهم الوزارات السيادية وفي أول تشكيلة حكومية يراهن عليها بلوغ الآمال الكبيرة والطموحات الكبرى بغير من هو جدير ونزيه ومحل ثقة، وبالطبع لم تخب فراسة الحمدي، أو لم يخيب الرجل ظنه فيه، فكان المتوكل فرس الرهان الرابح وهو يمسك بملف الأمن الداخلي بكل جدارة وكل اقتدار، وللانصاف فقد كان أداء زملاؤه الآخرين في الحكومة غاية في النجاح والبراعة.

ثم حدث ذلك التطور الرهيب والمتسارع للعلاقة بين الشطرين، الأمر الذي استفز السوفيت وأثار غضب الكرملين على سالمين والحمدي معاً بما مثله من تهديد جدي لاستمرار مصالحهم ونفوذهم في الجنوب، باعتبار أن الوحدة لابد أنها سوف تغير من قواعد اللعبة بشكل جذري، بينما ازداد قلق الأمريكيين وانزعاجهم لدرجة مثيرة من هذا النسق الرائع لأداء الرئيس الحمدي، وانهالت الكثير من النصائح على المكتب البيضاوي لتزيد من هواجس واشنطن لضرورة وضع حد لهذا العربي الذي يوشك أن يصبح ناصر جديد في بلاد العرب، وهي مخاوف وهواجس ظلت المملكة السعودية تحديداً تغذيها بقوة، وتهمز بها عبر قنواتها وقنوات دولية عدة، ولم تكتف الأخيرة بهذه الضغوط غير المباشرة بواسطة الأمريكيين بل كانت تفعل بالتوازي مع مضاعفة مستوى ضغوطها المباشرة عليه، واستمرار محاولاتها الحثيثة لوضع العصي في دواليب الوحدة المنتظرة تحت شعار نكون أو لا نكون، وتدريجياً كانت العلاقات الدولية مع هذه الأطراف بدرجة رئيسية تتدهور، والضغوطات الخارجية لا تفتأ وهي تعمل على خنق الرئيس الحمدي مستهدفة إنهاء "العلاقة الرومانسية" بين الشطرين كما وصفتها التقارير الاستخباراتية ودوائر القرار الغربية حينها، ومن أندر الأحوال أن يتفق القطبان العالميان الدب السوفيتي مع الكابوي الأمريكي على بلد، لكنه حدث في اليمن، وما أسوأ أن يجتمعا على أحد، وكان هذا من سوء حظ الرئيسين معاً واليمنيين جميعاً.

ووسط هذه العواصف الهوجاء كان على الرئيس الحمدي إما أن يتخلى عن طموحات شعبه، وينهي وجع الدماغ ب"شخطة قلم"، أو أن يسعى بجدية لخلق توازن مقبول يمكن أن يصمد أمام هذا التكتل الدولي، ولم تكن بكين بعيدة عن متناوله وهي الحليف الوثيق لنظيره وصديقه سالمين، لكن الابحار إلى الشاطئ الفرنسي كان محفوفاً بالمخاطر، ومن ذا الذي يمكنه أن يمخر عباب الأهوال ببراعة غير ذلك الرجل الذي يدعى يحي المتوكل.

لقد ابتعثه الرئيس الحمدي سفيراً لليمن هناك، وذهب المتوكل ليقيم بالقرب من برج ايفل، لكنه لم يقضِ وقته بالانبهار بما حوله، بل انطلق يعمل بهمة من يدرك حقاً تبعات ما أوكل إليه من مسؤوليات، ولو اكتفينا بالقول أن الرجل أبدع في أداء مهمته لانتقصنا من توصيف ذلك الأداء وبخسناه حقه من الوصف اللائق، لأنه أذهل وأدهش وهو يوصل العلاقة بين دولة نامية فقيرة تقبع في قعر العالم كاليمن وقوة عظمى تتنطط على سقف الكرة الأرضية كفرنسا إلى مستويات ربما فاقت كل تصور، ولقد تجلت نتائج عمله للجميع بتلك الحفاوة التاريخية التي قوبل بها الرئيس الحمدي في زيارته لفرنسا (منتصف يوليو 77 م)، حين استقبله الرئيس الفرنسي بنفسه في مطار أورلى، ليكسر بذلك البروتوكول الفرنسي العتيق الذي يقضي باستقبال الرؤساء في قصر الأليزية، أي في قصر الرئاسة فحسب، وبما تمخضت عنه تلك الزيارة من تفاهمات كان يفترض أن تدفع بالحمدي ونظامه إلى القمة.

ومما يذكر بخصوص هذه الزيارة، فقد حدث أن أُبلغ الرئيس الحمدي بارتزاقه للتو بولده الثالث من الذكور مع لحظة دخول طائرته للأجواء الفرنسية مباشرة، وعطفاً على ما عاشه بعد دقائق لا غير من متوالية الأفراح على الأراضي الفرنسية منذ أول خطوة له على التراب الفرنسي حتى الوداع، ودخوله إليها كالفاتحين وهو ما استدعى التاريخ اليمني إلى ذهن الحمدي فلم يتردد عن تسمية الطفل باسم "ذو يزن" تيمناً بطالعه السعيد على اليمن السعيد، ولقد التقطت العواصم الكبرى إشارات واضحة لمضمون الرسالة الفرنسية من تلك الحفاوة الرسمية المبالغ بها، بأن فرنسا تريد القول أنها تقف خلف هذا الرجل، فرنسا بكل قوتها وهيبتها، وكان هذا يعني أن الرئيس الحمدي نفذ من عنق الزجاجة، ودون أن يضيع وقتاً أرسل المتوكل لبلاد العم سام وهو يحمل أوراقاً حديثة الإعتماد تثبت تعيينه سفيراً في العاصمة المسماة باسم المؤسس جورج واشنطن ليكرر الانجاز ويفك شفرة الضغوط السعودية للأبد.

أما بالنسبة للمتوكل الذي لم يعجز عن اقناع الفرنسيين بدعم حركة 13 يونيو وقائدها بالرغم من أنهم أكثر شعوب الأرض تشاؤماً من الرقم 13، فلم تكن فترة الأشهر الثلاثة تكفي لتغيير وجهة نظر سيد البيت الأبيض عن الرئيس الحمدي وتوجهاته، لأن سيف العذل كان أسرع، وذات صباح حزين -بالنظر لفارق التوقيت مع واشنطن- ذرف المتوكل الدموع كالثكالى بعد تلقيه خبر اغتيال الرئيس الحمدي وأخيه،[11 اكتوبر من نفس العام]، وأدرك أن حقبة الزهو اليمني ولت، ومرحلة الكبرياء أسدلت ستورها، بينما تلقت السلطات الفرنسية صدمة الخبر مضاعفة، لاقتران عملية الاغتيال بمقتل مواطنتين (فتاتين) فرنسيتين - هما فرانكا وفيرونيكا- استخدمتا مرة لتغطية بشاعة العملية داخلياً بالاساءة لسمعتي الشهيدين، ومرة أخرى للزج بالحكومة الفرنسية في شبهة الوقوف وراء العملية، فقد كانت الفتاتان لهما صلة قرابة بضباط استخبارات فرنسيين، وكانت هذه رسالة مخابرات الخصوم القوية لفرنسا رداً على رسالتها السابقة.

الخاتمة

- لهذا أقول أن الرئيس ابراهيم الحمدي أخطأ بعدم اهتمامه بمنح شهادات حسن السيرة والسلوك لرجاله، ألومه لأنه لم يخطر بباله أن يأتي أكاديميون كالدكتور رياض الغيلي لا يجدون أسهل من الطعن في خاصرة تاريخهم المشرف، ويغتالونهم باسم الحمدي نفسه، ومنهم يحي المتوكل الذي أصبح متهماً فقط لمجرد جيناته الهاشمية، ولأنه كان أبرز الوجوه الهاشمية حضوراً في المشهد السياسي منذ فجر الثورة حتى نهاية الألفية الثانية.

لقد آلمني أن يلجأ د. الغيلي للتأويلات معتمداً على قوة الايحاء أكثر من أن يعتمد على قوة المعلومة ومتانة الفكرة ذاتها، وذلك حين ادعى أن الرئيس الحمدي أعلن (27 ابريل) يوماً للجيش لأنه كان يوم اقصائه للمتوكل من منصبه، وإن كان هذا الاسقاط مقبولاً فسوف يكون علينا قبول فكرة سخيفة مثل أن الحمدي نفذ حركته فقط لأنه لم يكن معجباً بعمامة الرئيس القاضي عبدالرحمن الارياني.

والحقيقة أن الرئيس الحمدي أعلن ذلك اليوم عيداً بعد انتهاء عملية التطهير للجيش من ما سمي ب " المشايخ الضباط "، وهم من استولوا على المعسكرات في حقبة الارياني، وقطعوا صلة الدولة بتلك الوحدات باستثناء واجبها بالتسليح ودفع الرواتب، ولم يكن يحي المتوكل أحدهم مطلقاً، فليس المتوكل من أبناء الشيوخ ولم يكن منتمياً لأي من مراكز القوى وهي المعروفة للجميع، بل لم يكن قائداً لأي معسكر حين أعلن الحمدي حركته المباركة حتى يتوهم د. الغيلي ما توهمه.

لقد شط د.الغيلي فاعتمد على ايحاء خياله وهو يندفع بحماسة لاثبات وجود تنظيم هاشمي سري ليعمل على شيطنة كل ما هو هاشمي، وإنه لمن السخف أن يصنف المتوكل حوثياً بأثر رجعي، ولا شك أن هذا الادعاء سوف يسعدهم للغاية، والخلاصة أن الشهادات لا تدل على الذكاء إلا بالقدر الذي تدل به المسبحة على الإيمان.

أما بالنسبة للسيد حسن الدولة الذي عقب على نفس الجزئية أعلاه الواردة في إحدى حلقات د. الغيلي عن ما سمي ب " التنظيم السري الهاشمي"، وكان تعقيبه أشبه بمن يصدر "ريحاً لها صوت"، وخلاصة تعقيبه أن الحمدي أقل مما يقال عنه والمتوكل أكبر من أن يقارن بالحمدي، وأن الحمدي ملكي والمتوكل جمهوري إلخ، ليظهر بهذا العوار الفكري والإعاقة الذهنية لدى فئة من الهاشميين، تلك الفئة التي تعتقد أنها ولدت من جينات فوق بشرية، وهي بذلك تثبت أن لها طبيعة بقرية محضة، وليس طبيعة ثورية بالقطع، فالأبقار يمكنها صعود السلالم إلى سطح ناطحة سحاب، لكنها لا تجرؤ على النزول طابقاً واحداً، وهذا الصنف من الهاشميين يصعدون بأنفسهم لقمة برج ثم يتحدثون عن الآخرين بتعالٍ، لأنهم من أبراجهم العاجية يشاهدون من سواهم فوق الأرض كالذباب أو سائر الحشرات الحقيرة، ولأن السيد حسن الدولة مصاب برهاب النزول إلى مستوى الآدميين الآخرين توجب علينا دفعه دفعاً ليهوي من حالق، ليكون عبرة لغيره ألا ينافسوا إبليس زهواً وكبراً دون أن يحملوا مظلات الهبوط الاضطراري، لأن الناس لن تنسى هذا اليوم الذي ضرط فيه حسن الدولة، وأصبح الرجل الذي قتلته ضرطته.