Home Articles Orbits حسن محمد مكي ورحلة كفاح وطني مجيد
حسن محمد مكي ورحلة كفاح وطني مجيد
عبد الباري طاهر
عبد الباري طاهر

مفكر سياسي من طراز رفيع. بدأ رحلته من قريته (صبيا) إحدى قرى المخلاف السليماني.. عايش صعود وسقوط العديد من الدول، وعايش العديد من الرؤساء. مذكراته سجل حافل؛ فهو نجل لمناضل دافع عن يمنية المخلاف، وشارك في الحركة الدستورية 1948. تعرض والده محمد زكري للاعتقال بعد فشل 48 ، وهدد بتسليمه إلى عبد العزيز آل سعود بعد احتلال المخلاف باعتباره أحد وجهاء المخلاف ووزراء الإدريسي.

انغمس الطالب في تلقي دروس (المعلامة) التسمية التهامية السائدة للكتاتيب. درس المبادئ الأولية للفقه وعلم الكلام والنحو لينتقل إلى التعليم العصري والحديث في مدينة الحديدة.

درس على أساتذة أجلاء: صغير سليمان، وهو من خريجي بعثة صنعاء، والشاعر الكبير علي عبد العزيز نصر، ومساوى أحمد الحكمي، وهو مفكر اقتصادي وعالم سياسي ومناضل عنيد.

الفقيد واحد من البعثات التأسيسية للحداثة وللتطور والثورة والجمهورية؛ فهو من بعثة الأربعين، في العام 1947 درس في طرابلس وانتقل إلى القاهرة، عايش في طرابلس نكبة 8 ، وعرف في مصر قيام ثورة الـ 23 من يوليو 1952. عايش حرب 1934، وتوزعت أسرته بين اليمن والسعودية، وذاق مرارة مصادرة ممتلكات أسرته الواسعة في صبيا وأبو عريش وجيزان؛ فارتبط منذ البداية بالهم الوطني، كما عايش نكبة 1948 ، وبزوغ فجر الثورة القومية في مصر؛ فتشبع بالروح القومية والفكر القومي اليساري، وتعرف على توجهات سيد قطب وعبد الله القصيمي، شأن العديد من زملائه الطلاب اليمنيين. درس الاقتصاد والعلوم السياسية في إيطاليا، وتحصل على الدكتوراه.

نجم من نجوم الطلاب في الأربعينات والخمسينات، يصبح مطلع الستينات نجم المشاركة والريادة في وضع اللبنات لنواة مؤسسات الحكم في أواخر عهد المتوكلية اليمنية. عاد مطلع الستينات ليجد الظلام مخيما على اليمن (المتوكلية اليمنية). أفاده تأهيله ومعارفه ومعارف والده في الحصول على عمل ليساعد أسرته التي دفعت ثمنا باهضا للطموح الوطني والحداثي ، حينها كان حسن مكي واحدا من الكوادر العلمية التي شاركت في وضع المداميك لمشاريع المحروقات وتحديث الاقتصاد، وكلها مؤشرات الحكم القادم المتجلي في ثورة 62، وبروز المعارضة القوية للمشاريع البريطانية، وخلق كيان اتحاد الجنوب العربي.

 يقرأ المفكر السياسي الرائد التحولات السياسية في اليمن شمالا وجنوبا ، ويقرأ في قيام ميناء الحديدة، وتأسيس شركة المحروقات بداية التحرك للخلاص من سيطرة الشركات البريطانية والانفتاح على الاتحاد السوفيتي، ويقرأ بذكاء الصراع الحسني/ البدري ورموزهما، كما يقرأ أهمية بداية التأسيس للشركات المساهمة للرائد والمفكر اليساري التقدمي عبد الغني علي والرائد عبد الرؤوف عبد الرحمن رافع: شركة المحروقات ، والكهرباء، والمباحثات بعد استكمال الميناء، وطريق صنعاء / الحديدة.

يقدم مكي في مذكراته قراءة مهمة لتأسيس المحروقات ودورها في تحقيق نوع من الاستقلال، وفي دورها الرائع في حماية الثورة فيما بعد، كما يقرأ بفهم شخصية الإمام أحمد وأخيه الحسن ورجعيته وتخلفه وطغيان وجنون أحمد.

يتابع باهتمام التصدعات داخل حكم الأسرة وارتباطاتها الدولية، وبذهنية السياسي الذكي يدرك عمق الإصلاحات البسيطة في جسم النظام المتهالك ومدى أثرها على المستقبل؛ منتقداً الموقف العدمي، ومفنداً الجمود الذي يرفض الإصلاحات البسيطة والمهمة في آن: ميناء الحديدة، طريق صنعاء / الحديدة، شركة المحروقات والتي كان للدكتور حسن مكي وقبله الأستاذ عبد الغني الدور الكبير في إنجاحها؛ مشيداً بدور السلال كأب حقيقي للثورة ومنقذ الحركة الوطنية.

قراءته لقصة الثورة هي الرواية السائدة لجل مؤرخي الثورة، ولعل الجديد فيها اتصال البدر عصر خميس الثورة بالدكتور حسن مكي وعدنان الترسيسي وطلب طمأنة الأجانب في دار الضيافة .

لقد تناول الدكتور مشاكل الأيام الأولى للثورة، والإعدامات بدون محاكمات، وكانت موضع انتقاد الأحرار وبعض المثقفين، ولكن بصورة خافتة، وفي دوائر ضيقة، كما تناول بعمق ومسئولية رفيعة صراعات الثورة والاتجاهات المختلفة، وأثرها المدمر على الحياة السياسية والاقتصادية، ولعل الجديد في رواية مكي للعلاقة اليمنية / السعودية عند قيام الثورة لقاء الشيخ إسماعيل المعني بالبيضاني وزير الخارجية حينها بحضوره، وكان اللقاء ودياً في حين طلب السفير رغبته في السفر إلى بلاده مع إبداء حسن النية في تفهم طبيعة الوضع في صنعاء، ولكن ما جرى هو اتهام الثورة بالكفر والشيوعية، والتحريض، وإغداق المال والسلاح على القبائل لوأد الثورة .

يشير إلى الاستبعاد الذي تعرض له محسن العيني والنعمان منذ البداية، وامتد الإقصاء بطلب من البيضاني إلى القاضي عبد الرحمن الإرياني والجايفي، والواقع أن الدكتور يقيم موضوعياً قضايا الإبعاد التي توجت باستبعاد البيضاني بعد بضعة أشهر بأنها لا تتيح المبالغة في دوره سلبا أوإيجابا .

أدى مقتل الشهيد علي عبد المغني إلى انفراط عقد التنظيم، وكان أثره كارثياً على سير المعارك، ومن ثم تتابع استشهاد هؤلاء الضباط (قادة الثورة)؛ وبالأخص علي عبد المغني، ومطهر زيد رمزا الثورة الحقيقيان، كما يدرس عميقا الموقف الأمريكي واستهدافه استنزاف الجيش المصري في اليمن تمهيدا لكارثة 5 حزيران 67 .

يشيد بموقف البيضاني في الخلاف مع البيروقراطية المصرية في بناء البنك اليمني للإنشاء والتعمير، ويتناول قضية العملة (ماراياتريزا) التي تحولت إلى عملية نقدية وورقية بالتساوي؛ مشيداً بدور مصر في جانب ضبط الموازنة العامة، وتأسيس لجنة النقد اليمنية، ويسهب في تناول زيارة الوفد اليمني برئاسة السلال إلى موسكو في العام 64 والتي تم فيها الاتفاق على إنشاء مصنع الإسمنت بباجل، وقيام السوفيت بشراء جزء من إنتاج المصنع لسداد الدين والاتفاق على شق طريق الحديدة / تعز، ومستشفى الثورة بصنعاء، ودعم التدريب العسكري؛ وبخاصة في مجال الدبابات والأسلحة الثقيلة وصيانة الأسلحة.

 وعد السوفيت بتدريب عشرين ألف جندي وضابط، إضافة إلى طيارين عسكريين، وتسليح هذا الجيش؛ حتى تمتلك الجمهورية القوة القادرة على الدفاع عن نفسها.

يضيف الدكتور: ومن المؤسف أن القيادة المصرية التي كانت في تلك الفترة تستند في تسليحها وفي البناء الاقتصادي على المساعدات السوفيتية= كانت تعيش حالة حساسية معادية للشيوعية، ويستنتج أنها كانت تخشى من أن يؤدي تولي السوفيت تدريب وحدات عسكرية يمنية وتسليحها إلى صدام بين هذه الوحدات اليمنية والجيش المصري في اليمن، ورغم اتفاقنا مع الاستنتاج إلا أننا نضيف وصاية الأخ الأكبر، وفرض الخيار الواحد الوحيد كطبيعة التفكير القومي السائد ونهج ما اصطلح في مصرعلى تسميتهم مراكز القوى؛ وتحديدا عامر الذي رفض اشتراك الدكتور في حكومة الجايفي مايو 64، ومعه السادات وبقية مراكز النفوذ .

في قراءة الدكتور المائزة خيط رفيع يربط بين الدأب على توسيع دائرة الحرب وتصعيدها بين الأمريكان والسعودية ومؤيديها وبين مراكز القوى المصرية "عامر والسادات"، في حين كان الزعيم العربي جمال عبد الناصر وقيادات الأحرار يؤيدون النهج السلمي والتصالح والخروج من الحرب، وهناك ومضات إشارة لهذه المسارات المتعددة، ولكلٍّ من أطراف تسعير الحرب هدفه وغايته، ولعل عيب زعامات الأحرار الرهان على مشايخ الضمان في الجانبين: الجمهوري والملكي؛ لحسم قضية الحرب التي هي نهجهم، وترتبط بمصالحهم في تكديس السلاح والثروات والجاه، وقد دفع الشهيد أبو الأحرار الزبيري ثمن هذا الرهان الذي بدأ منذ آركويت فعمران سبتمبر 1963، وقد نشأت- كما يشير الدكتور- سوق واسعة، ومصالح كبيرة تتغذى بالحرب وفي الحرب، ولا مصلحة لها في السلام، وهو ما يتكرر اليوم بصورة هزلية في واقع اليمن قرابة نصف قرن؛ فالمبندقون ما يزالون حريصون على استمرار نهج الغلبة والفتن وإذكاء الصراعات في أكثر من مكان؛ لضمان بقاء مكانتهم ومصالحهم المرعبة؛ فالفتن والحروب الوسيلة الوحيدة والمثلى لتنمية المصالح الخاصة، وإعاقة وتعطيل التنمية والبناء، والمصالح العامة الكبيرة، وهو ما تعانيه اليمن حتى اليوم .

والحقيقة أن القراءة الذكية لمسار الأحداث والصراع تكشف عن هذا الخيط الذي يربط تطورات الأحداث في حالات المد والجزر آراء الحرب، والتغييرات المستمرة في رئاسة الوزراء، والصراع المفتوح على الآخر بين مختلف الاتجاهات، وقد استمر بصور وألوان وأشكال مختلفة .

يقرأ الدكتور أهمية الزعيمين السلال والإرياني وعمق وصدق قرائتهما للأوضاع في اليمن، وإذا كان الأول قد فشل في إطفاء الحرب؛ فإن القاضي الجليل عبد الرحمن الإرياني قد استطاع بحنكة وذكاء إطفاء هذه النيران.

تعرض حسن مكي لمكائد كبيرة - كسياسي مدني- آت من منطقة ضعيفة العصبية، وتبحث عن نسب كما قال أبو الليبرالية اليمنية الشهيد محمد نعمان.

أذكر حينها الحملة الجائرة عندما كلف بتشكيل الوزارة في آخر عهد القاضي عبد الرحمن الإرياني، وكان المشايخ، وبالأخص الأحمر، ضد مكي؛ لعلاقته بتيار سبتمبر، وصدق ولائه للثورة.

على مدى عدة سنوات كان وزيراً للخارجية، وخلال الصراع بين الشمال والجنوب كان حسن إلى جانب العقول السياسية: عبد الكريم الإرياني، ويحيى المتوكل، وعبد العزيز عبد الغني، ومحسن العيني، والدكتور محمد سعيد العطار، ويحيى العرشي= من المفرملين لجناح تيار الحروب من الزعامات القبلية والعسكرية.

محاولة الاغتيال عام 94، وهو حينها رجل الدولة في المؤتمر الشعبي العام ونائب رئيس الوزراء حينها، قصد منها قتله، ثم تحويله إلى قميص عثمان؛ لشن الحرب العدوانية ضد الجنوب؛ فقد كان مكي - يرحمه الله - صديقا بمستوى معين للجنوب، وعدواً حقيقياً للحرب وتجار الحروب، وهو يعرفهم جيداً.

 الكارثة التي نعيش بسببها في جانب مهم إقصاء العقول السياسية والمدنية في المؤتمر الشعبي العام، وتفرد الزعامات القبلية والعسكرية والإسلام السياسي على الحكم، واستنادهم على التكفير والتخوين وتجارة الحروب .

فرحم الله الدكتور حسن محمد مكي الذي قال : لا للحرب منذ البدء