إنهيار اتفاق وقف اطلاق النار في سورية الذي توصل اليه وزيرا خارجية روسيا وامريكا قبل عشرة ايام في جنيف كان متوقعا، لانه لم تكن هناك اي نية للحفاظ عليه، او تجديده، بعد اكمال اسبوعه الاول (ليلة الاثنين)، خاصة من الطرف الامريكي الذي يبدو انه انقلب عليه.
الغارة الامريكية البريطانية الاسترالية المشتركة التي ارتكبت “مجزرة” في صفوف القوات السورية في جبل الثردة في دير الزور، كانت اول تطبيق لهذا الانقلاب، وخلط الاوراق من جديد، ونسف التفاهمات الامريكية الروسية السابقة حول الحل السياسي في سورية.
بالامس اعترفت وزارة الدفاع البريطانية بمشاركة طائراتها في هذه الغارة، بينما اعتذرت الحكومة الاسترالية رسميا عن مشاركتها فيها، وقدمت التعازي لاسر الجنود السوريين الضحايا، مما يعني ان هذه الغارات جاءت في اطار مخطط مسبق، ومتفق عليه، ولم تكن خطأ مثلما ادعت الحكومة الامريكية.
نفهم ان تخطيء طائرة امريكية وتقصف الهدف الخطأ، لكن ان ترتكب الخطأ نفسه طارات امريكية واسترالية وبريطانية، ايضا، فهذا كذب صريح وفاضح لا يمكن ان ينطلي على اكثر الناس سذاجة وغباء.
بعد دقائق من انتهاء مدة الاتفاق، عادت الاوضاع في سورية الى المربع الاول، وبدأت المدفعية والصواريخ الرسمية السورية في قصف حلب الشرقية المحاصرة، حيث تتواجد معظم قوات المعارضة المسلحة، مدعومة بقصف جوي، الامر الذي يؤشر الى ان الجبهات الاخرى مرشحة للاشتعال مجددا.
لماذا اقدمت الولايات المتحدة الامريكية على تدمير اتفاق وقف اطلاق النار الذي وقعت عليه، والتزمت به، ورفضت تمديده بهذه الطريقة الدموية والفجة؟
جون كيري وزير الخارجية الامريكي الذي يعتبر واحد من اكثر وزراء الخارجية الامريكيين “ثرثرة”، واسهالا، في الادلاء بتصريحات للصحافة، يلتزم الصمت، ويتجنب الحديث لرجال الصحافة والاعلام، ويمكن التكهن بالاجابة على شكل النقاط التالية:
• اولا: امريكا غير متعجلة للتوصل الى اتفاق ينهي الازمة السورية، وتريد الحفاظ على الاوضاع على ما هي عليه، واستنزاف روسيا وقواتها وحلفائها السوريين والايرانيين، تماما مثلما فعلت في افغانستان اثناء الوجود السوفييتي.
• ثانيا: حتى يتم استنزاف روسيا لا بد من الحفاظ على الفصائل الاسلامية “الجهادية”، وخاصة جبهة “فتح الشام”، النصرة سابقا، وتحالفها القوي، الذي يضم “جيش الفتح” و”احرار الشام” و”فيلق الشام” وغيرها، بحيث يشكل هذا التحالف نواة عسكرية صلبة على غرار المجاهدين الافغان، ومن المفارقة ان الدولة الخليجية التي دعمت “المجاهدين” القدامى هي التي تدعم “المجاهدين” الجدد، والتاريخ ربما يعيد فصوله.
• ثالثا: منع الحكومة السورية من استعادة دير الزور، حيث توجد اهم آبار النفط، الامر الذي يؤدي الى تقليص الضغوط على ميزانيتها، وتحسين اوضاعها الاقتصادية، والشرق السوري منطقة زراعية غنية، علاوة على ثرواتها النفطية.
• رابعا: هناك سباق بين الحليفين الروسي والامريكي لاستعادة مدينة الرقة، عاصمة “الدولة الاسلامية”، ويبدو واضحا ان وزارة الدفاع الامريكية التي ارسلت قوات خاصة تقاتل الى جانب القوات الكردية على جانبي الحدود السورية العراقية، لا تريد ان تتكرر “تجربة تدمر” في الرقة ودير الزور، حتى لو صب ذلك في مصلحة “الدولة الاسلامية” ولو مؤقتا، وربما هذا ما دفع الرئيس بشار الاسد الى اتهام امريكا بدعم “الدولة الاسلامية” في تصريحات ادلى بها اليوم (الاثنين).
• خامسا: استعادة تنظيم “الدولة الاسلامية” السيطرة على مواقع الجيش السوري في جبل الثردة المطل على مطار دير الزور، يعني التحكم في هذا المطار الوحيد تقريبا للجيش السوري في الشرق، وتعطيل حركة الطيران المدني فيه بالتالي، وقد سهلت الغارات الامريكية البريطانية الاسترالية هذه المهمة.
هذه الاستراتيجية الامريكية الجديدة التي تقف خلفها وزارة الدفاع، مغامرة محفوفة بالمخاطر، وربما تؤدي الى صدامات سياسية، وربما عسكرية مع موسكو، ولم يكن غريبا ان يطالب تشوركين ممثل روسيا في الامم المتحدة الولايات المتحدة بالكشف عمن يرسم سياستها في سورية، وزارة الخارجية، او زارة الدفاع، ومن المؤكد انه لن يحصل على اجابة.
الغارة الثلاثية الامريكية على مواقع الجيش السوري في دير الزور احرجت روسيا، وكانت ضربة مقصودة الهدف منها هز صورتها امام حلفائها، واجبارها على تعديل بنود وقف اطلاق النار، وفق الشروط الامريكية المستجدة، او تحمل التبعات المترتبة على الرفض.
تكرار السيناريو الافغاني في سورية، اي استنزاف روسيا وقواتها عسكريا من قبل الولايات المتحدة غير مستبعد، لان من طبق السيناريو الاول في افغانستان هو وزارة الدفاع الامريكية “البنتاغون”، وصقورها هم الذين وضعوا خطط غزو العراق وليبيا بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية “سي اي ايه”، لكن مع فارق اساسي وهو ان روسيا بوتين مختلفة جذريا عن روسيا بريجينيف وغورباتشوف ويلتسين، او هكذا نعتقد.
امريكا لا تريد قصف جبهة “فتح الشام” او النصرة، ولا تريد الفصل بينها وبين الفصائل “المعتدلة”، مثلما ورد في الاتفاق للاسباب التي ذكرناها سابقا، وربما تفعل العكس، ونحن الآن امام معركة عض الاصابع بين القوتين العظميين، وننتظر من يصرخ اولا، ونعتقد ان انتظارنا لن يطول كثيرا، ربما بضعة ايام والله اعلم.
*نقلاً راي اليوم