Home Articles Orbits خواطر عن الحدث والرجال
خواطر عن الحدث والرجال
عبدالملك المخلافي
عبدالملك المخلافي

ليس من السهل على من تربى، وتعلم، وتحددت قناعاته وصيغ وجدانه على القيم والمفاهيم التي أرساها القائد الفذ عيسى محمد سيف وإخوانه الشهداء من أعضاء القيادة التاريخية لتنظيمنا، أن يتصدى لمهمة الكتابة عنهم في ذكرى استشهادهم، وانتفاضة الشعب المسلحة التي قادها تنظيمنا وهم في طليعته.
وليست الصعوبة ناجمة عن الخوف من التقصير في حقهم، فسيظلون مهما حاولنا أكبر من أية كتابة.. وأعظم من أي جهد يحاول أن يسجل للتاريخ دورهم في التهيئة لصنع فجر وحدوي جديد.
ولكن الصعوبة الحقيقية أن المرء يقف عاجزاً عن مجرد الكتابة كلما حاول أن يقترب ولو من بعيد من ذكرى هؤلاء الأبطال.
رجالاً.. كانوا يدركون بأنهم يصنعون تاريخ أمة.. وأنهم قد انتمو الى أعظم ما فيها.. الى تاريخها وحضارتها الى مستقبلها ووحدتها.. ولهذا قدموا أرواحهم فداءً وثمناً لحملهم بمستقبل مختلف.. متقدم وسعيد لأطفال وكادحي بلادهم.
منذ البداية كان اختيارهم واضحاً في الانحياز للفقراء الكادحين.. فهم جميعاً في سن متقارب، عاشوا سنواتهم الأولى في ظل حكم الإمامة في الشمال.. والاستعمار والسلاطين في الجنوب، وتفتح وعيهم على معارك القومية العربية ضد الاستعمار وأعوانه ومن أجل الوحدة العربية.. ومعركة وراء معركة، خاضتها أمتهم، فألهبت حماسهم وصاغت وجدانهم، وعندما كان الشباب يقترب سريعاً منهم كانوا قد خاضوا تجارب حياتية مختلفة، بعضهم عمل عاملاً بسيطاً في عدن، وبعضهم كانت الفلاحة وزراعة الأرض عمله الأساسي قبل أن ينتقل إلى المدينة.
والبعض الآخر، عانى من شظف العيش، وصعوبته.. ومن ظلم الإمامة وجورها، ومن استبداد الاستعمار وتسلطه ومن سلاطين ومشايخ وأمراء المناطق في الشمال والجنوب.
وتفجرت الثورة الخالدة في 26 سبتمبر 1962م لتفتح أمامهم آفاقاً رحبة للحياة فتفجر الأمل في قلوبهم وإذا بهم وفي وقت واحد- تقريباً- ودون موعد أو اتفاق مسبق، يعيدون ترتيب حياتهم.. وكأنهم كانوا يدركون، بأنه سينتظرهم- بعد سنوات- دور مشترك يؤكدون فيه الانتماء للثورة التي فتحت أمامهم أبواب الحياة، وللشعب الذي منحهم من عطائه وتضحياته ما كان يتوجب عليهم أن يقدموا فداءً له ومن أجله دمهم الطاهر.
فما أن تفجرت ثورة 26 سبتمبر1962م حتى انتقل عيسى محمد سيف من عدن الرازحة تحت نير الاستعمار حيث عانى شظف العيش ومرارة الذل، وقضى أياماً طويلة جائعاً وأياماً أخرى لا يجد القوت فيها حتى لمجرد النوم الهني وهو يتجول بين ركاب شركة «سالم علي للباصات» يحصل التذاكر وهو ابن الخامسة عشر، بعد ان جاب شوارع عدن وأزقتها بائعاً«للماء البارد» مرة، وبائعاً للجرائد مرات أخرى.. انتقل الى تعز في الشطر الشمالي آنذاك، حيث كانت ثورة سبتمبر ومعها ثورة عبدالناصر العظيم تعيدان صياغة الحياة من جديد على أرض اليمن.
وفي الوقت الذي انتقل فيه عبدالسلام مقبل من عدن الى الحديدة ليتزود بالعلم الذي اتاحته الثورة لأبناء الشعب، كان عبدالله الرازقي يلتحق في صنعاء بصفوف القوات المسلحة ليدافع عن ثورة سبتبمر ويطارد فلول المرتزقة والملكيين حفاظاً على حق اليمنيين في الحياة.
وفي الوقت الذي كان محمد إبراهيم يخط لنفسه في عدن حياة دراسية وثقافية جعلته مميزاً، كان الشهيد مطير يخطط ليتقدم كأحد الذين يتأهلون في الكلية الحربية، لبناء الجيش اليمني على أسس حديثه.
ومع هؤلاء كان عدد من الشهداء يخوض المعارك تلو المعارك ضد المستعمر في الشطر الجنوبي آنذاك وفي مقدمتهم الشهيد ناصر اليافعي والشهيد علي ناصر الردفاني، وتشاء الصدفة وقد جمعت بعضهم في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات علاقة نضالية من نوع جديد، علاقة العمل من أجل غدٍ عربي سعيد وحلم، لا يتجزأ أو ينشطر بيمن موحد، أن يجمعهم- جميعاً- موقف موحد من حدث ثوري جديد، عاشته بلادنا هو قيام حركة 13 يونيو 1974م بقيادة الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، ولقد قويت عوامل اللقاء بينهم منذ ذلك التاريخ حتى صنعوا بدمائهم الملحمة الوحدوية في 15 اكتوبر ويومي 26 اكتوبر و5 نوفمبر 1978م، حيث امتزجت دماء خيرة شباب اليمن وأنبلهم من جميع مناطقها.
ولا ريب بأنه عندما يكتب التاريخ كما حدث لا كما يمليه السلطان سوف يسجل بصفحات ناصعة حياة شهداء 15 اكتوبر 1978 الخالدين، وسوف تتكشف في حياتهم أدوار ومواقف كانت هي المقدمة الطبيعية لأعظم أدوارهم ومواقفهم، دور التضحية وموقف الاستشهاد.
وليس من المبالغة القول، بأن هؤلاء الرجال العظام، الذين انطلقوا في ليلة مظلمه كانوا قمرها، قد تحولوا في الوجدان الشعبي الى أسطورة خالدة لا زال أبناء شعبنا يتغنون بها وسيظلون يتغنون ما بقيت الشجاعة والتضحية رمزاًَ لأنبل وأسمى المعاني والمثل.
وبرغم المحاولة «القذرة» لتشويه سمعة أبطال اكتوبر أو على الأقل طمس دورهم، والتي اتخذت مواقف وأساليب متعددة، لا زالت مستمرة فإن وجدان الشعب، وضيمر التاريخ، يستطيعان إلا كتابة ما يعد من أعمال الرجال.. فيغدو فيه الرجال رجالاً. وما يعد من أعمال الذين يحاولون أن يبحثوا لهم عن دور ولن يكون مآلهم سوى الحضيض.
لقد شرفني التنظيم بتكليفي بإعداد كلمة هذا الكتاب- التي يتحدث عن فصول من السيرة الذاتية والمواقف النضالية لشهداء حركة 15 اكتوبر 78 والحق أني ترددت كثيراً قبل أن أقدم على الكتابة، وكلما هممت بالمحاولة.. وجدت نفسي غير قادر على إنجاز ما طلب مني، ولعلي حينها قد تمنيت أن استطيع التمرد على مفردات اللغة وقاموس الكلمات وأن امتلك لغة جديدة، ومفردات تتناسب مع المكانة التي يحتلها «رجال اكتوبر» في تاريخ شعبنا وتنظيمنا الناصري.
ولا يستطيع أي مناضل عاش مع «الرجال» وتربى على قيمهم إلا أن يحلم بأن يتمكن يوماً من أن يكتب عنهم ولهم.. وكثيرون ينتظرون الفرصة والوقت لتحقيق هذا الحل.. وكثيرون حققوا جزءاً من الحلم ولو علي طريقتهم «الخاصة» بعضهم لم يجد من وسيلة سوى إطلاق أسماء الشهداء على أبنائه، وأحياناً أبناء الشهداء، اقتداءً بهم، حتى صار هناك المئات من المواليد على طول اليمن وعرضها يحملون أسماء عيسى وسالم وعبدالسلام ومطير... الخ. بل إن العديد من الذين صارت الأسماء التي اختارها لهم أباؤهم لصيقة بهم لأنهم ولدوا قبل قبل سنوات طويلة على استشهاد الرجال، لم يعدموا حيلة في استخدام أسماء الشهداء، كأسماء مستعارة لهم، بعضهم يكتب بها مقالاته.. والبعض يلقب نفسه بها والبعض يدعي انتساباً الى أحد الشهداء.
وبعض الذين حلموا بتخليد الشهداء.. كبتوا مشاعرهم «شعراً» أو نثراً أو قصصاً لا ترقى في معظمها للمقاييس الفنية والأدبية ولكنها- جميعاً، تتميز بمشاعر إنسانية فياضة وصادقة وبإحساس غريب بالفخر لمجرد الانتماء الى خط هؤلاء الرجال.. وبعضهم راح يجمع كل ما يتعلق بتراث الشهداء.. وبحياتهم ويعتبر ما جمعه ملكاً خاصاً لا يجوز لأي كان أن يطلع عليه ناهيك عن الاستفادة منه، مبدياً أنانية يراها مبررة بأنه يجب زن يكون حريصاً على الاحتفاظ بتراث الشهداء الى الوقت المناسب لأنه الوحيد القادر على هذه المهمة!
واعترف اني كنت واحداً من هؤلاء الذين .. حلموا ولا زالوا بأن يمتلكوا شرف الكتابة عن الشهداء.. وان هذا الحلم قد راودني منذ اللحظة التي علمت فيها بإخفاق الحدث الثوري الذي فجره تنظيمنا في 15 اكتوبر 1978م ومنذ اللحظة التي كان الخبر اليقين «اعتقال» أعظم الرجال وأنبلهم في صنعاء قد تأكد لي مساء 15 اكتوبر. 1978م وبعد ساعة تقريباً من اعتقال الشهيد والقائد البطل عبدالسلام مقبل في تعز التي كان يزورها مرافقاً لافتتاح عدد من المشاريع بحكم مسؤوليته كوزير للشؤون الاجتماعية والعمل والشباب.
ولقد ظل الحلم يراودني أيضاً طوال أيام «التشرد» الطويلة والقاسية بعد 15 اكتوبر و«محاكمات» الرجال وإعلان اعدامهم.. حتى انتابني «الهوس» الذي انتاب غالبية أعضاء التنظيم سواءً الذين كانوا يقضون في «قصر البشائر» أو في السجن المركزي والشبكة وسجون تعز والحديدة وإب وحجة بعد ذلك، فترة الاعتقال ثمناً لقناعاتهم أو الذين وجدوا في حضن شعبنا الطيب مأوى لهم من مخبري السلطة فاحتضنتهم قرى شعبنا شمالاً وجنوباً وحالت دون اقترابهم منهم، أو الذين كتب لهم ان يتحملوا مسؤولية النضال في أحلك الظروف وأشدها قسوة حين لم تتمكن كل أساليب التعذيب والاستخبارات في كشف انتمائهم التنظيمي.
لقد تمثل هذا «الهوس» في المجالات اليومية لكتابة الشعر والقصة لتخليد الشهداء ومقاومة الجلاد.. ولا شك أن عدد هذه المحاولات يصل الى المئات بعدد الذين حاولوا على الأقل.. ولم ترَ الكثير منها النور.. بعضها لأنها لا تصلح للنشر أساساً وبعضها لأنها تحتاج إلى «مناخ غير متوافر في بلادنا لنشرها» وبعضها يحتفظ أصحابها بها إلى الوقت المناسب.. بل بعضها لم يعد حتى أصحابها يعلمون مصيرها وهي تهرب وسط زنزانات السجن، وإذا كانت ظاهرة «الهوس» التي أشرت لها لم تكن تتعدى هذه الصفة لدي كثيرين، فإنها في الوقت نفسه قد كشفت عن مواهب حقيقية وعن أعمال أدبية خالدة شعراً وقصةً خلدت الحدث والرجال.. ولا زالت تتطلب من يقوم بتجميعها لنشرها في الوقت المناسب.. أعمال بالشعر الشعبي.. وأخرى بالعمودي وثالثة بالحر، وقصص قصيرة وطويلة.. نتمنى على مناضلي تنظيمنا وعلى المهتمين بتخليد الشهداء.. والحدث، داخل التنظيم وخارجه جمعها ووضعها أمام القارى والتاريخ.. فهما أصحاب الحق الأول فيها.
وبرغم أنني واحد من الذين لم تتعد محاولاتهم في بعض الأحيان «مجرد المحاولة».. إلا أن قناعتي ظلت راسخة بأن كل ما كتب في تلك المرحلة تعبير صادق وحقيقي لمشاعر ووجدان شعبنا وتلك- حسب قناعتي - إحدى أهم سمات العمل الأدبي الملتزم.
*من كتاب شهداء 15 أكتوبر.
** الأمين العام السابق للتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري.