تبذل المملكة العربية السعودية جهوداً حثيثة لتغيير صورتها النمطية كمكنة تفريخ للمتطرفين، ومركز تصدير للفكر الوهابي المتطرف، الذي يعتمد عليه تنظيم القاعدة، والجهاديون الإسلاميون في العالم.
بعد أن تمكنت من استغلال قضية الطرود المفخخة، لتقديم نفسها كجبهة مهمة في محاربة الإرهاب؛ تُحاول السعودية اليوم تقديم نفسها كهدف محتمل لعمليات تنظيم القاعدة. سعياً لذلك؛ أعادت، السبت قبل الماضي، بشكل مبالغ، الحديث عن مخاوفها من الإرهاب القادم من اليمن، الذي تقول إنه يعمل ضمن مخطط يستهدفها بشكل رئيسي! وليس بعيداً أن يغدو الإعلان عن هذه المخاوف موضة جديدة لدى المملكة ومسؤوليها؛ بهدف تحويل بلادهم من متهم بتوليد الإرهاب إلى ضحية له!
تريد السعودية أن تُسوق ما يتعذر تسويقه. وإذ تُحاول أن تُقدم صورة لنفسها لا تتسق وحقيقة ما هي عليه؛ لا تدرك أنه "ليس في مقدور أية دولة أن تعطي نفسها ماضياً جديداً". وفي حال المملكة؛ تبدو المهمة متعذرة، لأنها ما زالت تستند على الماضي وتتكئ عليه.
تريد السعودية أن تقول إنها أصبحت في مواجهة مباشرة مع تنظيم القاعدة. تريد أن تقول بأنها عرضة، كبقية الدول الكبرى، لتهديدات تنظيم القاعدة القادم من خارج أرضها. تريد القول بأنها و"القاعدة" على طرفي نقيض؛ سياسياً وفكرياً!
السبت قبل الماضي؛ سربت معلومات تقول إن "القاعدة" خطط لاستهداف عدد من مسؤوليها؛ عبر وضع مادة سامة وقاتلة في هدايا من العطور الشرقية كدهن العود. وفي هذا التوقيت؛ ظهر، فجأة، الإرهابي المزعوم محمد العوفي في تسجيل مصور قال فيه إن هناك مؤامرة تستهدف المملكة؛ عبر دفع "القاعدة" لتنفيذ عمليات إرهابية فيها. ولم يكتف العوفي بتبرئة النظام السعودي من تنظيم القاعدة في اليمن، بل برأ جميع السعوديين؛ بمن في ذلك القياديون في ما أصبح يُعرف بتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. والمعنى هو أن الإرهاب قادم من اليمن، والإرهابيين هم يمنيون فقط!
يبدو أن المسؤولين السعوديين لا يرون مخرجاً لتنظيف صورتهم، وتقديم ماضٍ جديد لبلدهم؛ إلا عبر إلصاق تهمة الإرهاب باليمن، واليمنيين. في ظل الانشغال بهذا الأمر؛ يبدو أن الإخوة السعوديين لا يدركون أن تركز النشاط الحالي لتنظيم القاعدة في اليمن، لا ينفي أن السعودية هي المُصدر الرئيسي للأيديولوجيا التكفيرية التي يُقاتل هذا التنظيم تحت رايتها. كما أن نشاط مقاتلي هذا التنظيم في اليمن لا يُمكن، بأية حال، أن يكون صك براءة للسعودية؛ كنظام سياسي، وكأيديولوجية دينية.
الأرجح أن استخدام اليمن كخرقة تنظيف أمر قديم يعود إلى ما بعد أحداث 11 سبتمبر. يُمكن فهم ذلك بالنظر إلى ما قاله الأمير محمد بن نايف، المسؤول عن ملف مكافحة الإرهاب في المملكة، في 16 مايو 2009، للمبعوث الأمريكي إلى باكستان وأفغانستان، ريتشارد هولبروك. وقد أثبتت الوثائق الأمريكية المسربة أن السعوديين يذهبون أبعد من محاولة تبرئة ساحتهم إلى تحريض المسؤولين الأمريكيين على اليمن؛ كنظام وشعب.
لم يتورع الأمير محمد بن نايف عن إدانة الشعب اليمني واتهامه بالإرهاب. وفي اللقاء الذي جمعه وهولبروك في الرياض؛ قال إن "اليمن دولة فاشلة وبالغة الخطورة إلى أبعد حد، وإن تنظيم القاعدة وجد في اليمن أرضية خصبة، حيث يتعاطف معه العديد من اليمنيين أكثر مما كان عليه الأفغان". تحدث كثيرون عن اليمن باعتبارها دولة فاشلة؛ غير أن حديث الأمير السعودي كان ضمن سياق هدفه التحريض على اليمن، لا وصف واقع حال تعيشه.
مؤخراً؛ قال السفير الأمريكي السابق في صنعاء إن اليمن ليست دولة فاشلة. ولتأكيد هذا الأمر؛ قال إن الطلاب في اليمن ما زالوا يذهبون في الصباح إلى المدارس، وإن الحكومة ما زالت تقدم الخدمات الأساسية للناس. يتجنب المسؤولون الأمريكيون وصف اليمن كدولة فاشلة؛ غير أن "الأشقاء" لا يتورعون عن استخدام هذا التوصيف الشائع، وتوظيفه ضمن سياق تحريضي ينال من اليمنيين ككل.
أكد الأمير السعودي أن بلاده "تشعر بالقلق بخصوص احتمال أن يستغل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عدم الاستقرار في اليمن لشن مزيد من الهجمات داخل أراضي المملكة". قال إن "اليمن تُشكل تهديداً متنامياً" لبلاده. قال: "لدينا مشكلة اسمها اليمن". صحيح أن اليمن تمثل "مصدر جذب لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب"؛ غير أن المؤكد هو أن السعودية هي التي تُمثل مشكلة لليمن.
مبكراً؛ أدرك محمد بن سعود أنه بحاجة إلى أيديولوجية دينية تدعم مشروعه السياسي، وتُساند قيام مملكته الوليدة. لهذا أبرم الرجل اتفاقاً مع رجل الدين محمد بن عبدالوهاب، الذي يبدو أنه كان يدرك حاجته إلى مشروع سياسي يدعم مشروعه الديني. تذكرت التحالف التاريخي بين الرجلين، وأدركت أن تبعات ذلك الاتفاق تلقي بنفسها علينا اليوم. ترك محمد بن سعود لأولاده وأحفاده مملكة تنتج 12 مليون برميل نفط يومياً. بيد أن العرب والمسلمين ورثوا التبعات الكاملة والحقيقية لاتفاقه التاريخي مع محمد بن عبدالوهاب: أيديولوجية سياسية ومذهبية تصاعد حضورها مع تدفق المال النفطي.
قام الفكر الوهابي كرديف أيديولوجي لتأسيس المملكة العربية السعودية. تحت هذا الإطار؛ أخضع المجتمع السعودي، وتغلغل فيه، قبل أن يأخذ طابعاً عالمياً؛ متجاوزاً مشروع الملك المؤسس. والشاهد أن السيطرة السياسية لمحمد بن سعود، والملك عبدالعزيز، وأولاده من بعده، ترافقت وسيطرة مذهبية موازية تمكن فيها محمد بن عبدالوهاب وأتباعه من وضع المجتمع السعودي في قالبهم الفكري. ومنذ الطفرة النفطية، مطلع سبعينيات القرن المنصرم؛ بدأت أكبر عملية تصدير مذهبي شهدها العالم الحديث. وحتى اليوم؛ ما زال يرتبط تصدير النفط السعودي بتصدير الفكر الوهابي، الذي أحدث عملية تغيير كبيرة في البيئة الاجتماعية العربية، والإسلامية، وأعاد صياغة هذه البيئة وفقاً لمنطلقاته.
ومشكلة النظام السعودي تكمن في أن تصاعد قوته السياسية ما زال يرتبط اليوم، ويسير بشكل متوازٍ، مع تصاعد قوة الفكر الوهابي، وشيوخ التطرف. ومع أن النفط هو الذي أكسب السعودية هذا الحضور العالمي؛ إلا أن الفكر الوهابي أكسبها سيطرة فعلية على المجتمعات العربية والإسلامية، مكنتها من إعادة صياغة هذه المجتمعات وفق تصوراتها السياسية، وتصورات رجال الدين الدائرين في فلكها.
في ثمانينيات القرن المنصرم؛ استخدمت الرياض رجال الدين الوهابيين لقتال الشيوعيين السوفيت في أفغانستان. وتلبية لخطة وضعتها المخابرات الأمريكية؛ تم تجييش آلاف المقاتلين الإسلاميين، ودفعهم إلى أرض المعركة في أفغانستان. وعقب انتهاء الحرب هناك؛ شهد المجتمع اليمني، مطلع التسعينيات، أكبر عملية تغيير لبناه الدينية والثقافية. سريعاً؛ فرض المذهب الوهابي قيمه الخاصة، التي طالت حتى النساء في القرى النائية. والجميع يعرف كيف تراجعت قيم المجتمع اليمني لصالح القيم الوهابية المتشددة القادمة من المملكة. وقد لعب المال النفطي دوراً أساسياً في تسهيل مهمة اختراق البناء الاجتماعي اليمني، الذي بدا طيعاً أمام تدفق قيم محمد بن عبدالوهاب التي لا يُعد أسامه بن لادن إلا أحد ورثتها.
غير اليمن؛ تمكن المذهب الوهابي، مسنوداً بالمال النفطي، من إحداث عملية تغيير كبيرة في بُنى المجتمع المصري. تراجع الأزهر، كمؤسسة دينية، لصالح تعاظم شيوخ النفط. بالتوازي تراجع الدور السياسي لمصر لصالح الدور السعودي. تراجعت مصر الستينيات لصالح مصر أخرى تبدو كما لو أنها مستوردة من رجال الدين الذين فرخهم محمد بن عبدالوهاب. تدريجياً؛ توارى الانفتاح الاجتماعي، الذي عكسته سينما الستينيات والسبعينيات، لصالح قيم أكثر تشدداً أخضعت المجتمع المصري للحجاب، الذي يبدو كما لو أنه أصبح موضة مسيطرة على المجتمع.
حتى في الجانب الديني؛ كانت مصر الستينيات تُعبر عن ذاتها. حينها صدرت القاهرة محمد متولي الشعراوي، أما اليوم فأبرز ما تصدره مصر للبلدان العربية هو عمرو خالد، الذي يبدو كتعبير أصيل عن مرحلة التهريج هو سمتها الرئيسية. تختزل الذهنية العربية مصر في عمرو خالد، الذي افتتح موجة من الوعاظ الدينيين، أصبحوا صانعي خيارات وقناعات المجتمع المصري والعربي.
هناك أيضاً مجتمعات عربية وإسلامية خضعت لعملية تغيير جذرية لصالح المذهب الوهابي. ولم تنجُ، بشكل جزئي فقط، غير المجتمعات العربية الخاضعة لسطوة أنظمة استبدادية.
بإمكان الأمراء السعوديين التخطيط لمستقبل جديد لبلادهم. بيد أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بإحداث قطيعة حقيقية مع إرث الماضي الذي ما زالوا يُغرقون المنطقة به.
عن نيوز يمن