Home Articles Orbits آفة السلاح.. وإدمان العنف
آفة السلاح.. وإدمان العنف
فتحي أبو النصر
فتحي أبو النصر

خلاصة الإشكالية التي نعانيها في اليمن، سببها السلاح المنفلت خارج نطاق الدولة.. ذلك السلاح المهووس بالعصبوية السلالية والمناطقية معاً.. وأما من تسبب بإسقاط الدولة، وشق المجتمع، وفجر هذه الحرب اللعينة، فهي الميليشيات الانقلابية لاغيرها، بلا مواربة ولاخداع ولاتحوير ولاتبرير.. بمعنى إن نكبتنا في السلاح المنفلت، الذي تحول لميليشيات، كما في الدولة التي منذ عقود لم تحتكر السلاح..

وهكذا ببساطة: أكبر جريمة هي الميليشيات التي التهمت الدولة، وما بعد ذلك مجرد نتائج للسبب الجرائمي المهول الذي لا يبرر.. وأما من يؤججون الترهيب والعنف، فهم الذين يرفضون سلوك الدولة الضابطة ويصفقون للميليشيات بالمقابل، كما يرفضون الحريات والحقوق المتساوية ويتواصون بالشر والتطرف فقط. ثم حين تغيب الدولة تحضر العصابات.. تلك حتمية. وبالطبع فإن تقويض الدولة واختطافها هما أكبر إرهاب وأكبر فساد بالمحصلة.
وعليه، فلا سلام مع سلاح خارج نطاق الدولة الضامنة لمصالح جميع اليمنيين، ولن تقوم لليمن قائمة إلا إذا احتكرت الدولة السلاح، مالم فستبقى مرتعاً للعصابات المسلحة من كل صنف ونوع. وتاريخياً: أكبر مذلة ومهانة، كابدها الشعب اليمني، كانت تأتي من أولئك الاستغلاليين الذين أعاقوا نهوض المجتمع والدولة، فيما لقبوا انفسهم، بالشيخ وبالسيد، رافضين أن يكونوا -كبقية الشعب المقهور- مواطنين متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، ومجذرين السياج الطبقي الامتيازاتي البغيض والوقح فقط في الدولة والمجتمع. وبسبب هؤلاء تحول السلاح إلى سمة يمنية بإمتياز.. وهانحن نجني تبعات وعيهم الضال.

لكن بمجرد التجريم الجاد، لمفردتي سيد وشيخ، سيلتف الشعب، حول مشروع تحرري عادل ، وسيرى أعداؤه من المشايخ والمسايد بوضوح..كما ستضمحل القبضة الطبقية، والامتيازات اللامشروعة، بل وسيعاد الإعتبار للمواطنة المتساوية وللقانون المخطوف.. وإذ سيتغير المزاج العام، فلابد أن ينتهي إرث القرون الاستغلالي الكابوسي، لينجو الشعب وتزدهر الدولة. فالشاهد أن كل مشاريع السلاح، هي مشاريع إقصائية بلا سياسة وبلا إجماع. ثم إن هذا الإنقلاب الإصطفائي الانتقامي الميليشياوي الوقح، ليس نهاية التاريخ في اليمن، والأيام دول والحرب نزال، ولا مستقبل للجميع إلا بمواطنة متساوية، تفرضها دولة تحتكر السلاح ويسودها القانون وليس فيها سيد ومسود
كذلك ستظل نقطة ضعف الميليشيات العنجهية، هو أنها تحكم الناس وتتحكم بالدولة بقوة السلاح لا بإرادة الناس.

وبالتأكيد فإن الذين جاءوا للسلطة بقوة السلاح، لن يذهبوا منها إلا بقوة السلاح. 

لكن لولا المسيدة والمشيخة ووعيهما اللادولتي، لما تكدس كل هذا السلاح الذي نتقاتل به منذ عقود، ولما ابتلينا بدولة المرافقين والشاصات وفنادم النخيط والهنجمة والعصبوية التي تحتقر المواطنة المتساوية والقانون العادل، وتمجد الإفساد والقهر والإفقار .
بالتالي: يجب أن تكون لحظة مفاصلة تاريخية، نحو دولة تحتكر السلاح وتكافح خطيئة السلاح التاريخية ويسودها القانون.
وللأسف : ليس بالأمنيات وحدها، كان سيتم الوعي بالدولة المنشودة، وإنما بإيمان كل من ينتهكون القانون ويستقوون بالسلاح بذلك الوعي أولاً.. ثم لا بد من الوصول لهذه النقطة الفارقة التي يبدأ عندها وعي الدولة الحقيقي طال الزمن أو قصر.. فكل الذين أعاقوا وصولنا كشعب لتلك المرحلة، سمعناهم وهم يصرخون بحثاً عن الدولة، عندما مسهم الضر.. وهذا فقط هو ما يجب أن نسمعه من قبل كل الأطراف المعيقة للدولة بالطول بالعرض.

بحسب مصطفى حجازي في كتابه الفذ "التخلف الإجتماعي - سيكولوجية الإنسان المقهور" فإن الإنسان المسحوق الذي حمل السلاح من دون ثقافة سياسية توجه وضعه الجديد، قد يقلب الأدوار في تعامله مع الجمهور أو مع من هم في إمرته، فيتصرف بذهنية المتسلط القديم، يبطش يتعالى يتعسف يزدري، وخصوصا يستغل قوته الجديدة للتسلط والإستغلال المادي والتحكم بالآخرين".

والحال أن كائنات جماعة الحوثيين المسلحة يستمرون في غيهم، وقد نكثوا بالمشتركات الوطنية، وقوضوا العقد الإجتماعي الذي يصون علاقة المجتمع بالمجتمع، فضلا عن علاقة الدولة بالمجتمع، والعكس.. بل اعتدوا على المجتمع والدولة، وينظرون لما فعلوه كشيء مقدس، يستحق الترحيب فقط، كما اعتبروا أن إرادة جماعتهم المسلحة، هي إرادة كل اليمنيين ، ففرضوا الهيمنة على المجتمع والدولة بقوة السلاح ، وكل من رفض منطقهم هذا اتهموه بالمناطقية وبالإرهاب.. ثم صادروا حق المجتمع في التنوع والسياسة والسلام، كما قوضوا طبيعة الدولة في حماية المجتمع كله وفقاً للقانون.. القانون الذي استمروا يرفضونه- ولعدة ذرائع- لأنهم ضد المواطنة المتساوية أساساً، ولأنهم لا يعترفون بالدولة وقانونها إلا وفق منظورهم الطائفي البغيض الذي يعتبرها مجرد تابعة لطبقة السيد ولتنظيمه غير الشرعي المسلح، فيما لا شأن لبقية المجتمع إلا الخضوع لتمكين خزعبلاتهم اللاقانونية واللاوطنية المهووسة والإنتقامية التي تصر على الحكم عبر الإستبداد والاستفراد العنفي المتوج بالأوهام الإصطفائية البغيضة والرثة، مالم فإن الإصرار لهدم البلد على رؤوس الجميع كان ومازال هو سلوكهم الطبيعي الذي اوصاهم الله به كرحمة لليمنيين -حسب تصورهم المأزوم- ولابد منه عموماً.. وهكذا ببساطة يمكن الخلوص إلى أن هذا المنطلق المنحرف والملعون، هو السبب الجوهري لكل ما حدث.. سبب الأسباب التراكمية المعتوهة والمشوهة كلها.. الأسباب المتحالفة مع بعضها حالياً والتي لطالما أعاقت دولة المواطنة والقانون والديمقراطية عن التحقق الفاعل.. وأما ما تلى ذلك من تداعيات للأسف، فهي مجرد نتائج طبيعية، غير أن "ما هو أسوأ من العمى هو عدم الرغبة في الرؤية فقط".. أو بمعنى آخر فإن قيمة السلاح الذي يدمرون اليمن به كانت تكفي لبناء ألف مصنع .!
لذلك كله.. ينبغي الإصرار وبشدة على أنه لا مكان في المستقبل المنشود لمن ملك السلاح خارج نطاق الدولة، وقام ليتسيد على الشعب فارضاً إرادته بالقوة، كما لا مكان لمن سيعتقد أيضاً بقدرته على تحويل الجيش مجددا إلى إقطاعيات له أو لغيره، ليتعامل حينها مع مؤسسات الدولة و الوظيفة العامة والمال العام أيضاً بنفس التعامل المختل الذي كان قائماً لصالح مراكز النفوذ والهيمنة ذاته الذي رفضناه جميعاً، بشكل أو بأخر، كما يفترض، أو حتى زعمنا رفضه.. لا مكان للمستقبل إلا لما يؤدي إلى دولة ومواطنة حقيقيتين، لا إلى يمن مرتهن لأشخاص وشلل، ولا إلى مواطنين تتم خديعتهم وتزيين استلابهم وفق المناطقيات والطوائف الموهومة والفجة.. مالم فليستمر هذا الصراع المقدس لاسواه حتى تنضجون وتعقلون كلكم كلكلم ، شمالا وشمالا ، وجنوبا وجنوبا ، وجنوبا وشمالا ، بلا إستثناء، بلا إستثناء.
والثابت أن كل حركات وتكوينات السلاح والإرهاب، تبقى في أمس الحاجة إلى جلسات وبرامج سياسية ومدنية للعلاج من الإدمان على العنف.. ذلك أن مشكلة العنف، تتمثل في الإدمان على العنف.. أن يصبح حالة إدمانية تهدئ أعصاب المنتسبين إليه وتبهجهم وتجعلهم يقدسون أوهامهم المسلحة إضافة إلى نشوتهم المدمرة للمجتمعات مع كل جرعة دموية يتعاطونها.
فضلاً عن أن كل من يزعم أحقية إحتكار تمثيل الشعب، بدون شرعية تفويضية ديمقراطية مقوننة، تبقى غايته الوحيدة هي الإحتيال على الشعب باسم الشعب، لأن الشعب لا يمثله أحد سوى نتيجة الصندوق، وفي أجواء ديمقراطية سليمة.. أما الذين يزعمون بأنهم صوت الشعب، ويحملون السلاح لفرض إرادتهم بالقوة، عوضاً عن اعتقادهم بأنهم وكلاء الحقيقة و السماء، فهؤلاء هم أعداء الشعب، وأعداء الديمقراطية معاً.. أعداء المستقبل المتوجين بآفة السلاح.

المصدر أونلاين