Home Articles Orbits محمد علي الربادي وسيرة الامتداد لمدرسة الاحرار اليمنيين
محمد علي الربادي وسيرة الامتداد لمدرسة الاحرار اليمنيين
محمد عبد الوهاب الشيباني
محمد عبد الوهاب الشيباني

كان معلما متعلما
حناطا متثقفا
كاتبا يريد تغيير العالم بكلمة
(عبدالله البردوني واصفا محمدالربادي)
المتفحص للتكوين الثقافي الباكر للراحل محمد علي الربادي (1936ـ 1993) سيجد ان ارث حركة الأحرار اليمنيين وتكوينات مستنيريها المعرفية والسياسية صارت جزءا مهما من سيرة الرجل، الذي اصبح امتدادا واضحا لها . وهو اقرب في تشكله الباكر لفيلسوف الاحرار وحكيمهم الريفي الشيخ حسن الدعيس ، الذي يراه الدكتور عبد العزيز المقالح ( واحد من حكماء الشرق المنطلق من فكر الاسلام واشراقاته التصوفية ، والباحثين في ذلك الفكر عن نهج عادل يضع حدا لما كان يعانيه مواطنوه المسلمون في شمال الوطن من اضطهاد وقهر في ديارهم التي تدعي بالمستقلة ن ولما يعاني منه اشقاؤهم الواقعون تحت الاحتلال الاجنبي من تسلط واذلال )
تشكلت جمعية الاصلاح في مدينة اب في العام 1944 كأحد اشكال تنظيمات المعارضة الباكرة لحكم الامام يحيى حميد الدين و اتخذت من الخطاب الثقافي بدرجة رئيسة وسيلة لإيصال صوتها المعارض الذي بدأ بالنصح الديني ، وكان فيها الى جانب الشيخ حسن الدعيس القاضي عبدالرحمن الارياني والقاضي محمد علي الاكوع الحوالي والاستاذ عبده محمد باسلامه وغيرهم، و كانت مدينة اب وجامعها الكبير بطلابه ومصليه قد كوَّنوا صورة عنهم ، بما فيها الصورة المعتمة التي حاول ازلام النظام وابواق سيف الاسلام الحسن ( امير اللواء وقتها) غرسها وتعميمها في اذهان العامة من الناس .
الطفل الفقير شديد النباهة والذكاء، الذي كان يتلقى دروسه الباكرة في الجامع الكبير وملحقاته ، على ايدي احمد الضراسي ومحمد وهابي وعلي باسلامة وقاسم شجاع الدين كان يفتش عن الاجابة عن سؤال يكبر في ذهنه الصغير لماذا خرج هؤلاء عن طاعة ولي الامر كما كان يشاع عنهم لتبرير سجنهم واضطهادهم !؟ وحين اختصر الاجابة بالظلم والافقار والتجهيل الذي يجذّره نظام الامامة في حياة الناس ، بدا يقتفي اثر هؤلاء في تعرية الظلم ومحاربته بالكلمة الصادقة في المنابر والمجالس والاسواق في نصف قرن عاشها تاليا.
يقول احد اصدقاء الربادي القريبين ورفيق صباه الباكر محمد عبود باسلامة (انه كان من اسرة فقيرة وكان ابوه شيخا كبيرا يحتاج في اكثر الاحوال الى مساعدته في الدكان، الذي لا ضمار له فيها الا ثقة الناس به من المزارعين في بعدان وحبيش جعلتهم يتخذون من دكانه محطة لما يوصلونه من القمح ،الذي يتولى بكل امانة وشرف بيعه لمن يصلون من لواء تعز لشرائه وتصديره ويكون له شيء رمزي ، كان يستغنى به.)
كان دكانه ـ حينما زاره الاستاذ عبدالله البردوني في العام 1956ـ عامرا بهواء الثقافة ، واذا جاءه مشترون كال لهم الحبوب بلا مساومة، وكأنه صار معهودا بالصدق من اول كلمة. كان يبيع ما اشتراه في نفس اليوم، فلا تنطبق عليه صفة تاجر حبوب، لأنه لم يختزن ولا يغالي اذا غالى الاخرون كما ذكر الزائر، كما استعاد ذلك بعد اربعين عاما حين كتب يرثيه.
وغير انه كان يساعد والده في دكان بيع الحبوب، كان ايضا كلما ضاق حال اسرته الكبيرة في فترات ما قبل الحصاد او شحة الوارد من حبوب الفلاحين الى دكانه يمارس مهنة انتاج سُرج الاضاءة البدائية " القماقم" وتلحيمها ، فصار يعرف باللحام والحناط " بائع الحنطة والحبوب".
في حالتي اشتغاله ببيع الحبوب وتلحيم السُرج ظل دكان والده مفتوحا لاجتماعات اصدقائه المثقفين ومطالعاتهم للكتب والمجلات التي تصل اليهم، حتى ان البردوني حينما زاره وجدهم يقرأون في كتابين الاول لسيد قطب وهو كتاب " في ظلال القرآن" والاخر كتاب " الشعر الجاهلي " لطه حسين.
وفي الاول كانت تشدهم لغة قطب الادبية في تفسير القرآن ، ولم يكونوا قد قرأوا كتبه الادبية والشعرية التي عددها لهم البردوني، وفي الثاني كانوا يبصرون في تمرد طه حسين على المؤسسة التقليدية ( الازهر) بانتاجه مثل هذا الكتاب المجَّرم من المؤسسة، والتي اضطرته لتغيير عنوانه الى "الادب الجاهلي" وتغيير بعض محتواه، لكن بعد ان صار متداولا بما فيها تلك النسخة بعد ثلاثين عاما من صدورها الاول في القاهرة.
زاول الكثير من الوظائف الحكومية، التي ابتدأها معلماً للصبيان في مدينة اب منتصف الخمسينيات ثم في عزلة الدعيس ببعدان " البلاد التي ينتمى اليها الشيخ حسن الدعيس" ، بعد ان تم نفيه اليها ، بعد اعتقاله في اب وسجنه في سجن القلعة بصنعاء، لتخطيطه وقيادته لمظاهرة تأييد للوحدة المصرية السورية وتنديدا بحكم الائمة في العام 1958. وبعد ثورة سبتمبر 1962 تولى مناصب مدير الارشاد في اب ومديرا لاعلام تعز واب ثم وكيلا لوزارة الاعلام ونائبا لوزير التربية والتعليم ووكيلا للمجالس البلدية في وزارة البلديات ، ولم تغيير فيه المناصب شيئا، بل ظل صوتا للناس في هذه المواقع مدافعا عن حقوقهم. وظل فقيرا كحاله الدائم والمستدام لأنه اراد ان يكون نفاعا كانسان، وليس منتفعا كسائر الاجراء والاجيرات. كما يقول البردوني.
حاول خصومه كثيرا التشكيك بتدينه ، خصوصا اولئك المرتبطون او القريبون من دوائر الحكم والسلطة ، التي كانت على الدوام في مرمى سهام محمد الربادي النافذة الناقدة ، لكنه كان عند من يعرفونه حق المعرفة من اصدقائه وتلامذته من خطباء المساجد المؤثرين بوعظهم الديني ، وكان مؤمنا صادقا ، يدل على ذلك سلوكه في المجتمع وعفته ونزاهته وبعده عن الكسب الحرام كما يقول محمد عبود باسلامة ، الذي اورد ايضا معلومة مهمة عن الاستاذ الربادي بقوله: ( انه كان يجيد النقر على الطار واداء الانشاد الديني واسماعه بصوت جميل، جعلت اصدقاؤه يحضرون معه كل الاحتفالات الدينية التي كان يُدعى اليها في اب وخارجها.
الادباء والمثقفون اليمنيون عرفوا الاستاذ محمد علي الربادي كاتبا وناثرا مختلفا وشغوفا بالتاريخ وجدله، وعرفوه كرمز نقابي كبير حين كان على راس مؤسسي فرع اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين في محافظة اب ورئيسا له لفترة طويلة ،ولهذه الاسباب مجتمعة منحه اعضاء المؤتمر العام الخامس للاتحاد في عدن في خريف 1990 كل اصواتهم ليكون رئيسا للاتحاد في لحظة مفصلية وخطيرة حين دخلت البلاد في وحدة اندماجية فورية ،ودخل الاتحاد ذاته في السؤال الاكبر ما الذي تبقى منه بعد عشرين عامًا من حضوره في حياة اليمنيين كمرموز ثقافي وسياسي موحد، خارج رغبة العقل السلطوي التشطيري ووعيه؟
متوجبات هذا السؤال وحافزاته، تأسست على قاعدة أن الشعار الذي تكتل تحته الأعضاء والمنتسبون كان يقول «تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام أجيالنا المعاصرة»، ولأن الوحدة صارت حالة متحققة منذ أواخر ربيع العام نفسه، كان لا بد من إعادة بلورة شعار وخطاب جديدين لعمل الاتحاد، يخفف من الحمولة السياسية الثقيلة التي وضعت على ظهره لعقدين.
مع أولى الخطوات في العهد الجديد بدأ التعثر البائن بالانقسام الفوقي، الذي كان سببه في الأصل عملية الإرباك الكبيرة التي وقع فيها «اليسار» بسبب المتغيرات التي اجتاحت البلاد والمنطقة والعالم، ودخوله الوحدة من دون رؤية واضحة، ومع هذا الوضع لم يستطع الربادي التكييف مع وضع الانقسام في جسم الاتحاد وآثر الانسحاب، مفضلا ان يخدم الناس من موقع اخر، فترشح لعضوية مجلس النواب عن احدى دوائر مدينة اب في ابريل 1993 ، فكان ان حصد كل اصوات الناخبين ، لكنه بعد اشهر ثلاثة غادرهم الى عالم الابد ، تاركا في نفوسهم حسرة والم لم تطفئها السنون الست والعشرون، التي نلتقي اليوم لاحيائها تذكيرا بسيرة واحد من رموز الاستنارة الكبار في اليمن.

صنعاء يوليو 2019