بقلم/ السيد زهرة:
حين تحل ذكرى ثورة 23 يوليو في كل عام، يستعيد الكثيرون في الوطن العربي ما حققته من إنجازات، وأيضا اخفاقاتها، وتختلف الآراء وتتعدد حول تقييم الثورة.
لكن الأمر الملفت انه مهما تعددت الآراء والمواقف من الثورة ومن زعيمها جمال عبدالناصر، فإنها حاضرة دائما في الوعي والوجدان العربي العام.
السبب في ذلك هو ان قيمة الثورة، وموقعها في التاريخ المصري والعربي، لم يتحدد فقط على أساس إنجازاتها وإخفاقاتها وعلى أساس النتائج العميلة المباشرة لما اتبعته من مواقف ونفذته من سياسات في مختلف المجالات.
قيمة الثورة وموقعها في التاريخ يتحدد في جانب أساسي منه على أساس ما مثلته من مبادئ وقيم وطنية وعربية.. على اساس ما كرسته من روح عربية عامة.
هذه القيم والمبادئ وهذه الروح هي بالضبط سر الحضور الدائم للثورة في الوعي العربي.
الثورة اندلعت في مرحلة فاصلة في التاريخ العربي. اغلب الدول العربية كانت تخضع للاحتلال والاستعمار، والشعوب العربية كانت تتوق إلى الاستقلال والتحرر. وكانت فلسطين قد ضاعت على يد العصابات الصهيونية والتآمر الدولي معها. وكان نظام عالمي جديد يتشكل بعد الحرب العالمية الثانية تهيمن عليه القوى الكبرى المنتصرة.
ثورة يوليو حين اندلعت سرعان ما اشعلت روحا عربية جديدة اجتاحت الشعوب العربية كلها.. روح جوهرها الاصرار على التحرر والاستقلال التام، وروح الإرادة والمقاومة في كل وأصعب الأحوال.. وروح الفخر والاعتزاز بالانتماء إلى امة عربية تتوق إلى التوحد وأن يكون لها مكان تستحقه في العالم. وروح من الثقة بالنفس والايمان بالقدرة على مواجهة التحديات.
كان هذا هو الإنجاز الأكبر لثورة يوليو وسر حضورها الدائم حتى يومنا هذا.
قد يعتبر البعض ان الحديث عن الروح والقيم والإرادة على هذا النحو كلام انشائي في عالم السياسة ومقدرات الدول والأمم.
لكن هذا ليس صحيحا أبدا لا بالنسبة إلينا ولا بالنسبة إلى كل الدول والأمم.
هذه الروح الوطنية والقومية، وهذه القيم والإرادة، هي القاعدة الراسخة الكبرى التي يقوم عليها أي إنجاز يتحقق، وهي الدافع الأعظم للتقدم ومواجهة التحديات. وهذه الروح والقيم هي التي بفضلها تستطيع الدول والأمم تجاوز الأزمات والصعاب من دون ان تكسرها.
نحن مثلا تعرضنا لهزيمة كبرى في يونيو 1967 كان الممكن ان تقضي تماما على أي دولة أو امة. لكننا صمدنا وتمكنا من تجاوز هذه الهزيمة إلى ان حققنا النصر على العدو الإسرائيلي في أكتوبر 1973. لم يكن هذا ليتحقق لولا ان هذه الروح الوطنية والقومية كانت مترسخة في وعي ووجدان شعوبنا العربية.
اليوم، حين نستعيد ذكرى الثورة ونتأمل كل هذا، لا نملك الا نشعر بالحسرة والحزن والألم.
نشعر بالحسرة والحزن والألم حين نتأمل ما انتهى اليه حال امتنا وحال دولنا العربية، ونتأمل في نفس الوقت أي روح اصبحت سائدة وأي قيم أصبحت حاكمة.
الأمة العربية أصبحت ساحة مستباحة لكل من هب ودب من أعداء وطامعين يفعلون بها ما يشاؤون. الدول العربية بعضها ضاع وبعضها مهدد بالضياع والباقي يواجه اخطارا وتهديدا وجوديا.
يحدث هذا في حين ان الأمة تبدو عاجزة تماما عن الدفاع عن نفسها ووجودها، وكأنها قررت الاستسلام لهذا المصير.
في الوقت الذي يحدث فيه هذا، أصبحنا نفتقد هذه الروح التي كانت قد كرستها ثورة يوليو. افتقدنا حتى الاعتزاز والفخر بأمتنا العربية. قيم مثل الصمود وحتمية المقاومة والثقة في النفس لم يعد لها وجود تقريبا وحلت محلها قيم الخضوع والاستسلام والرضوخ للأمر الواقع.
مهما تحدثنا عن المواقف والسياسات العربية المنشودة لكي تتمكن دولنا من مواجهة هذه الأخطار والتهديدات الوجودية، فلن يكون لهذا من معنى ولا جدوى اذا ظلت هذه هي الروح والقيم السائدة.
اليوم وأكثر من أي وقت مضى في تاريخنا لسنا بحاجة إلى شيء قدر حاجتنا إلى تلك الروح التي كرستها ثورة يوليو.
أخبار الخليج