Home Articles Orbits في ذكري ميلاده الثالثة والتسعين : عبد الناصر في ذاكرة الأمة
في ذكري ميلاده الثالثة والتسعين : عبد الناصر في ذاكرة الأمة
ممدوح طه
ممدوح طه

 بعض الناس يغيبون من ذاكرة التاريخ كلما مرت عليهم الأعوام، وبعض الناس ينساهم التاريخ كلما مرت عليهم العقود، لكن بعض الناس قد يبقون في وجدان شعوبهم وفي ذاكرة التاريخ على مر القرون.. الوحدوي نت

أولئك هم الذين كانت أفكارهم وأحلامهم هي ذاتها أفكار وأحلام شعوبهم، ومعاركهم وتحدياتهم هي نفسها معارك وتحديات أوطانهم، وحينما كانوا تعبيرا عن إرادة شعوبهم وجنودا لتحقيق أهداف أوطانهم، أصبحوا في الذاكرة الوطنية رموزا خالدة وتجارب ملهمة، ذلك أنهم سطروا بنضالهم فصولا من التاريخ ذاته فأصبحوا جزءاً منه غير قابل للنسيان.

جمال عبد الناصر كان واحدا من أبرز أولئك الأبطال التاريخيين الكبار، في تاريخ الوطن المصري والأمة العربية والعالم الثالث، لأنه بتعبيره عن إرادة شعبه، وباستلهامه لتاريخ وطنه وتراث أمته، وبإدراكه الاستراتيجي أنه لا انفصال بين الأمن الوطني والأمن القومي، استطاع أن يرسم خريطته ويحدد أهدافه ويوجه بوصلته نحو دوائر حركته. لقد رسم خريطة أمته من الخليج إلى المحيط.

وحدد مع إخوانه أهداف الثورة المصرية السته عام 52، وهي القضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على الإقطاع، وعلى سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة عدالة اجتماعية وبناء جيش وطني قوي، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة تحريرا للوطن وتحريرا للمواطن، بادئا بحرية الوطن السياسية ومنتهيا بحرية المواطن.

كما بلور أهداف النضال الشعبي العربي الثلاث؛ في الحرية والتنمية والوحدة، فاستحق بنضاله الشجاع ضد الاستعمار من أجل الحرية والاستقلال، وبمعاركه الكبرى من أجل التنمية سعيا إلى بناء مجتمع الكفاية والعدل وتكافؤ الفرص، وبسعيه الدؤوب نحوتحقيق الوحدة العربية، أن يكون أحد أبرز صناع التاريخ المصري والعربي والإنساني في العصر الحديث.

وإدراكا منه للمجال الحيوي للأمن الوطني المصري، ولعلاقة التاريخ بالجغرافيا، ومحيط مصر الجغرافي وعمقها التاريخي، حدد جمال عبد الناصر في كتابه «فلسفة الثورة» دوائر حركته الوطنية الثلاث: قومية وحضارية وقارية، وهي الدائرة العربية، والإسلامية، والإفريقية.

ولأن الحرية لا تتجزأ، اعتبر أن معارك الحرية والتنمية والوحدة في مصر، هي نفس المعارك على امتداد الوطن العربي والأمة الإسلامية والقارة الإفريقية.

ورغم أن الفترة التاريخية التي شهدت ظهور جمال عبد الناصر على مسرح الأحداث السياسية الكبرى، كانت قصيرة في عمر التاريخ، إلا أن ما تحقق فيها كان كثيرا وكبيرا، حيث كان ميلاده في الخامس عشر من يناير عام 1918 ووفاته في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970 عن عمر اثنين وخمسين عاما.

وكان في موقع القيادة المصرية على مدى ثمانية عشر عاما فقط، واجه فيها أشرف معاركه الكبرى التحررية والتنموية والوحدوية، ضد الاستعمار والتخلف والتجزئة في الخارج، وضد الفقر والجهل والمرض في الداخل، لتحقيق الديمقراطية الاقتصادية وإقامة العدالة الاجتماعية، كمدخل لا بد منه للديمقراطية السياسية.. ولذلك كله لم تشهد سنوات قيادته حوادث إرهابية ولا فتنا طائفية ولا اضطرابات اقتصادية.

وبالتأكيد كانت للتجربة الثورية الناصرية انتصاراتها الكبرى، في معارك تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، وفي تحقيق الوحدة المصرية السورية، وفي صد العدوان الثلاثي عام 56، مثلما كانت لها إخفاقاتها الكبرى، في تجربة الوحدة بالانفصال السوري عام 61.

وفي الهزيمة العسكرية عام 67، لكنه رفض مع الشعب الاستسلام وصمم على مواصلة النضال، ونجح في توحيد الجبهة الداخلية، وإعادة بناء القوات المسلحة، وخاض حرب الاستنزاف المجيدة على مدى ثلاث سنوات، فاتحا الطريق لانتصارنا العسكري المجيد في حرب أكتوبر عام 73.

في الذكري الثالثة والتسعين لميلاد أغلى الرجال وأشجع الرجال وأعز الرجال، يبقى في ذاكرة التاريخ للشعب المصري مشهدان خالدان، الأول هو خروج الشعب المصري كله في يونيو 67، بعماله وفلاحيه ومثقفيه وموظفيه على امتداد الوطن المصري كله، في هبة تلقائية هادرة تعلن بإصرار رفضها للهزيمة وتمسكها بقيادة جمال عبد الناصر، رغم أنه بشجاعة الرجال أعلن تحمله لمسؤولية الهزيمة وقدم للشعب استقالته..

والمشهد الثاني، هو خروج جماهير الشعب المصري بالملايين كالطوفان البشري في سبتمبر عام 1970، بكل مشاعر الحزن والأسى في الوداع الأخير لقائدها، تحتضن جثمان ابنها البار جمال عبد الناصر في جنازة شعبية نادرة قل أن يرى التاريخ لها مثيلا، حيث خرجت جنازات شعبية رمزية في كل القرى والمدن المصرية، وفي جل العواصم العربية، مؤكدة إصرارها على «تكملة المشوار» حتى تتحق أهداف النضال العربي بالتحرير والتنمية والوحدة.

وإذا كان لهذين المشهدين من دلالة، فهي أن الشعوب بحسها الصادق تعرف من يقف معها معبرا عن إرادتها وتطلعاتها، ومن لا يقف معها ويتجاهل إرادتها وتطلعاتها، وحين انحاز عبد الناصر إليها، فلقد انحازت إليه تصدقه وتثق بقيادته في حياته.

وتقف معه وتقبل التضحيات في معاركه أيا كانت نتائجها لأنها معاركها، بغض النظر عن الانتصار أو الانكسار.. وأن الشعوب بأصالتها ووفائها لا تذرف الدموع صادقة إلا لمن أحبها فأحبته وأخلص لقضاياها فأخلصت له، وحين بكت عبد الناصر عند وفاته، وأنشدت تودعه وتدعو له، فلقد كان «الخلق هم ألسنة الخالق». في النهاية.. فلقد بقي في رصيد التجربة الناصرية من انتصاراتها ما هو أكبر من انكسارتها.

وكان لتجربة عبد الناصر الإنسانية ما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات، لكن بقي ما لها أكثر بكثير مما عليها.. بقيت معاني التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية ودعوة الوحدة العربية، وبقيت قيم العزة والكرامة الوطنية والإنسانية، وبقيت تجربة عبد الناصر ملهمة لشعبنا العربي، كلما واجه الوطن المصري أو أي وطن عربي تحديا من التحديات أو معركة من المعارك.