تتضامن في وجه اليمني، جميع أسباب المنايا، وتتضافر في دربه، كل موجبات الموت، وتدفعه الأحداث والأيام، دفعاً، إلى حتفه المحتوم. إذ تتزاحم عواملُ قسريةٌ، للظفر بحصد أوفر قدرٍ من الأرواح، في بلدٍ تتكالب عليه المصائب والرزايا، وتتناوشه الأخطار والخطوب، و"يشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم"، حسب التعبير الأممي المتداول.
يقضي من اليمنيين، بفعل الحرب والعمليات القتالية، والحوادث المرورية، والأمراض الفتاكة، والنزاعات المسلحة، أكثرُ ممن يأتيهم الأجل عن مرضٍ عاديٍّ، أو موتاً طبيعياً، لكأنَّما محكومٌ على اليمني أن يُقتلَ عنوةً، أو تدهمه ميتةٌ شنيعةٌ، أو تتربص به المنية ريثما يُجهده المرض، وتهد جسده المعاناة.
ولا شك أن تلك العوامل القاتلة تنتج عنها، فضلاً عن الوفيات، إصاباتٌ مختلفة الشدة، متفاوتة الخطورة، ما يجعل المصابين جراءها يعيشون مع جروحٍ مؤقتةٍ، أو إعاقاتٍ دائمةٍ، أو عاهاتٍ مستديمةٍ، أو يوافيهم نصف موتٍ. ولكلٍّ من تلكم الحالات معاناةٌ تتحدد قسوتها على حجم الإصابة ونوعها، ويتوقف مداها على الوضع المعيشي والمادي لصاحبها.
ومثلما أن الموت له تأثيرٌ نفسيٌّ وماديٌّ على ذوي القتيل أو الفقيد، كذلك تؤثر الإصابات، نفسياً ومادياً، على أسرة المصاب؛ من حيث إنه ربما كان عائلاً فقد القدرة على الإعالة، ومن ناحية أنه سوف يعوز تكاليف علاجٍ، ويتطلب نفقات رعايةٍ، فضلاً عن الألم الذي قد يشاركه فيه غيره.
وتزداد معاناة المصابين والمرضى، وبالتالي أهاليهم، مع تدهور الوضع الصحي في اليمن، وخروج نسبةٍ عاليةٍ من المرافق الطبية عن الخدمة، بفعل الحرب، وإغلاق مطار صنعاء الدولي، من قبل التحالف، وصعوبة التنقل الداخلي براً إلى عدن أو سيئون، لغرض السفر جواً إلى الخارج، من أجل تلقي العلاج.
وخلال السنوات الأخيرة، ازدادت حالات التسول في الشوارع والجوامع، وكثرت أعداد المتقدمين إلى المنظمات الإنسانية والجمعيات الخيرية، بطلبات الإعانة والإعاشة. ويأتي في صدارة الأسباب، وفاة العائل، والعجز؛ إما لإعاقةٍ طارئةٍ، أو مرضٍ خطيرٍ، أو نزوحٍ، أو فقدان فرصة العمل بسبب الوضع العام في البلد، الناتج عن استمرار الحرب الدائرة منذ 5 سنواتٍ، وكذا استمرار الصراع السياسي الذي يزداد تأزماً وابتعاداً عن أفق الحل السلمي، في ظل تنامي حالة العداء بين الأطراف السياسية، وتنمية الاحتقان متعدد الأوجه في أوساط المجتمع اليمني، وازدهار العنف بمختلف صوره.
ولا توجد إحصائياتٌ رسميةٌ دقيقةٌ لمجمل الضحايا في اليمن، سواء أكانوا ضحايا حربٍ أو حوادثَ أو أوبئةٍ. ذلك أن الوضع غير المستقر في البلد، والسلطة المنقسمة بين أكثر من طرفٍ، جعلا الأمر أكثر صعوبةً؛ إن لجهة عمل وإعداد إحصائياتٍ إجماليةٍ أو تفصيليةٍ، أو لجهة الاعتماد على أبسط ما توفر منها، وهو شحيحٌ ومنقوصٌ، تقريبيٌّ ومجتزأٌ، ولا يمكن الاعتداد به في مقام الاستشهاد، بله التوثيق.
بيد أن الملاحظة الثاقبة والفحص الدقيق يقودان إلى أن الحرب والحوادث والأوبئة، تقتل عشرات الآلاف من اليمنيين، سنوياً، بالنظر إلى أنه لا يكاد يمر يومٌ دون أن يحمل معه عشرات الأنفس إلى العالم الآخر.
على أن هنالك تقاريرَ تشير إلى أن فئة الشباب تشكل قرابة النصف من إجمالي الضحايا. وهنا يحضر الموت كحاصد أرواحٍ متفننٍ في اصطياد الجزء الفتيّ من المجتمع اليمني، قاطفاً ربيع زهره، قاصفاً نديَّ عوده، وكاسفاً شموس فجره.
لم يعد الموت زائراً ثقيلاً يقصد بيوت اليمنيين، بين الحين والآخر، فلقد بات مقيماً دائماً بين ظهرانيهم، لا يفارقهم في نومهم وصحوهم، في حلهم وأسفارهم، في أماكن العمل وفي الطرقات. حتى إنه لا يدع لهم سانحةً لمغادرة مآتمهم، وخلع الأوشحة السوداء عن كواهلهم، ونفض غبار المقابر من ثنايا معاطفهم.
يا له من قاسٍ ذلك الموت الذي جعل اليمنيين عالقين في دوامة الحزن والأسى، لا يفيقون من صدمة وفاةٍ، حتى تضربهم صاعقة رحيلٍ، ولا يذهب عنهم حزنٌ، حتى تنزل بهم فاجعةٌ، وإن فرغوا من عزاءٍ، صاروا وراء جنازةٍ، وكلما استأنسوا إلى راحةٍ، راح الموت بكل ما أنسوا إليه. والحال كذلك، ومع أن الموت حقٌّ، ولا اعتراض، فليس من المبالغة القول إن اليمن باتت حقل موتٍ شاسعاً، وخيمة عزاءٍ مترامية الأطراف.
تكاد تكون حياة اليمنيين سلسلةً من الأحزان التي لا تنتهي، والكوارث المتدفقة، والفجائع المتتالية. تنوء مجالسهم وأحاديثهم بالأخبار المؤسفة، وتكتظ يومياتهم البائسة بالأوجاع والفقدانات الأليمة. ولا تبرح الغصص تكظم الحلوق، والعبرات تجري من المحاجر، والأكف تقبض على القلوب.
يشيِّع اليمنيون جنازاتٍ بالجملة. يرثون من كان قبل ساعاتٍ راثياً أو معزياً. يبكون فقيداً ولما تجفَّ أعينهم بعد حزناً على راحلٍ قريباً. يودعون موتاهم تباعاً، ويعودون مرضاهم سراعاً. ينعون هذا؛ راجين له الرحمة، ويدعون لذاك؛ آملين له الشفاء... لكنهم، في الحين نفسه، يقيمون الأعراس، ويحتفلون.