Home Articles Orbits مفارقات مقتدى الصدر
مفارقات مقتدى الصدر
عبدالحليم قنديل
عبدالحليم قنديل

في أوائل العام الجاري، وتحديدا في يوم 15 يناير/كانون الثاني 2022، كتبت ونشرت مقالا في هذا المكان نفسه، حمل عنوان «انقلاب في العراق»، كانت دواعي توقع الانقلاب المشار إليه بادية في تحولات السلوك السياسي للسيد مقتدى الصدر، وهو سليل ووريث عائلة من المراجع الدينية الشيعية، راح بعضها ضحية لاغتيالات في زمن حكم الرئيس الراحل صدام حسين، واكتسبت شعبية هائلة في أوساط شيعة العراق، يتكئ عليها ويزيدها اليوم مقتدى، ويستخدم مريديه المطيعين الكثر في جولات ترهيب لخصومه من قادة الشيعة الآخرين، الأكثر ميلا للعمل مع إيران وتشيعها الفارسي الصفوي لا العلوي والعروبي، ويسعى الصدر لتصفية نفوذهم الطائفي وميليشياتهم المسلحة، ويرفع شعارات بناء نظام سياسي جديد، يستعيد وحدة العراق والعراقيين، ويسترد للعراق عروبته المغيبة، التي توارت منذ الغزو الأمريكي للعراق، والقضاء على نظام صدام وإعدامه شنقا.
وقد تبدو في القصة مفارقة بل مفارقات، فتراث عائلة الصدر والتيار الصدري عموما، كان الأشد حماسا وترحيبا بذهاب صدام، وبسقوط نظامه المنسوب للتيار القومي العربي، بينما الصدر الصغير يبدو الآن أكثر حماسا لكسب استقلال العراق وعروبته، ثم إن الطبيعة الطائفية للتكوين الصدري لا تخفي، لكن قوته تعمل اليوم لتفكيك النظام الطائفي الفاسد، الذي شارك به الصدريون لوقت طويل بعد سقوط بغداد عام 2003، لكنهم يميلون إلى التبرؤ اليوم من آثامه، حتى لو كان الثمن خوض حرب شوارع شاملة ضد بقية مفردات ما كان يسمى «البيت الشيعي»، التي اجتمعت من دون الصدر في ما يسمى «الإطار التنسيقي»، وتتهم الصدر بتدبير انقلاب على ما تسميه مؤسسات الحكم العراقية، والسعي لتغيير الدستور الذي وضعه حاكم الاحتلال الأمريكي بول بريمر، وتغيير قواعد لعبة المحاصصة الطائفية والعرقية، وهو ما أشرنا إليه في مقالنا الذي نشر قبل نحو سبعة شهور، وتوقعنا بالنص أنه «قد تزيد فرص مراجعة الأعراف السياسية المفتتة لوحدة العراق والعراقيين، وقد يمكن تخليق سياق يتقبل مراجعة الدستور، الذي وضعه حاكم الاحتلال الأمريكي بول بريمر، وأقصى عروبة العراق إلى الهامش لا المتون، فثمة روح عربية جديدة تتفتح ورودها في العراق، وتنفك عنها بعض القيود الفارسية الثقيلة».
ولا تنتهي مفارقات الظاهرة الصدرية عند هذا الحد، فرغم أن الصدر رجل دين، ويكسب شعبيته من عمامته ولحيته التي تبدو طفولية، إلا أن المعمم الشاب عركته التجربة، وراح يدرك أن التيارات والجماعات الدينية والطائفية يفوت زمانها في العالم العربي، وفي العراق بالذات، الذي جرت سرقة موارده وثرواته الهائلة من قبل المعممين، أو المختبئين وراء اللحى الثقيلة، وقد نهبوا ما يزيد على التريليون دولار، سواء كانوا من سنة العراق أو من شيعته، وبما أدى لانصراف الناس عنهم، وعن ضحكهم الهزلي على الذقون البريئة، وتضعضع نفوذ جماعة الإخوان في بيئات السنة العرب، وكان آخر عناوينهم المتحورة سليم الجبوري رئيس مجلس النواب الأسبق، فيما أجلى حضور «داعش» نفوذهم الديني المفترض، ثم تراجع نفوذ «حزب الدعوة» الموازى للإخوان في أوساط الشيعة، وأصبح اسم نوري المالكي، الأمين العام لحزب الدعوة ولا يزال، أشهر عناوين الفساد المستشري، وصار المالكي الذي كان يكسب قوت يومه من بيع «السبح» على باب مقام السيدة زينب بدمشق، قبل أن يعود مع الدبابات الأمريكية إلى بغداد، ويصبح أطول رئيس وزراء عراقي بعد عهد صدام عمرا في منصبه، وتتضخم ثروته المريبة إلى نحو سبعين مليار دولار، قبل أن تهزمه غزوة «داعش» المفاجئة الخاطفة عام 2014، ويضطر لترك المنصب إلى حيدر العبادي، الذي انشق لاحقا عن حزب الدعوة، وأسس كتلة «تحالف النصر» متواضعة التمثيل البرلماني، واضطر في ما بعد إلى التحالف مع المالكي نفسه، ومع الجماعات الشيعية الأخرى المجتمعة في «الإطار التنسيقي، الذي خسرت جماعاته كلها في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021، وتفوق عليها جميعا التيار الصدري، بخروجه من الانتخابات الأخيرة في المركز الأول، وكان الصدر في انتخابات سابقة عام 2018، قد انتهى إلى استنتاج بدا في محله، وقرر سحب المعطف الديني المباشر، وأسس مع أطراف يسارية وليبرالية كتلة «سائرون» كتحالف مدني وطني، ثم دعم السعي لإقالة حكومة عادل عبد المهدي، بعد اشتعال انتفاضة أكتوبر 2019، التي غازلها الصدر، وسعى لخطف الكاميرات وشعارات الإصلاح منها، بتسيير حشوده ومظاهراته، وقد سقط في الانتفاضة نحو 30 ألف قتيل وجريح من شبابها، وكانت مسارحها الأساسية في بغداد ومحافظات الجنوب الشيعي، ولم تخفت إلا بعد تولية مصطفي الكاظمي مدير المخابرات لمنصب رئيس الوزراء، وقد حاول الكاظمي أن يتخذ موقفا وسطا في النزاع الدولي والإقليمي على مصير العراق، وقاد عملية لتحسين وتطوير العلاقات مع دول الخليج ومع مصر، ورعاية تفاوض سري فعلني بين إيران والسعودية، ولقى الكاظمي تأييدا محسوسا من الصدر وجمهوره، ودخل في عملية تكسير عظام سياسي مع أطراف البيت الشيعي خالصة الولاء لإيران وحرسها الثوري، ومن دون أن يعني ذلك إشهاره العداء المباشر لإيران ونفوذها، الذي استفاد من تحطيم الغزو الأمريكي لكيان الجيش والدولة العراقية الوطنية، لكن الصدر لمس المزاج المعارض لهيمنة إيران في انتفاضة أكتوبر، وبلور شعاره المعروف «لا شرقية ولا غربية»، في إشارة ظاهرة لرفض الهيمنتين الأمريكية والإيرانية معا، وبعد فوز كتلته الأكبر في الانتخابات الأخيرة، سعى إلى حرمان الفصائل الشيعية ذات الهوى الإيراني من المشاركة في الحكومة، وإلى حرمان جماعة غريمه نوري المالكي بالذات، وصمم على تكوين ما سماه «حكومة أغلبية وطنية»، تضم جماعته مع «تحالف السيادة» السني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وإبداء الاستعداد لضم نواب انتفاضة أكتوبر إلى الحكومة، وهو ما كان موضع رفض وعناد من المالكي، الذي سبق له خوض معركة «صولة الفرسان» ضد الصدريين وقت أن كان رئيسا للوزراء، وعمل مع «الإطار التنسيقي» وبعض الأطراف الكردية لتكوين ما سماه الثلث المعطل في مجلس النواب على الطريقة اللبنانية، وإلى أن جاءت مفاجأة الصدر بأوامر استقالة نوابه الثلاثة والسبعين من البرلمان، وهو ما اعتبره المالكي فرصته الكبرى، بعد أن حل نواب من «الإطار التنسيقي» على مقاعد نواب الصدر المنسحبين، وهنا فجر مقتدى الصدر مفاجأته الثالثة، وأخرج جماهيره إلى الشارع، وإلى اقتحام «المنطقة الخضراء» الأشد تحصينا، وإلى الاعتصام في مقر مجلس النواب وحوله لمنع انعقاد جلساته، وأشهر رفضه لترشيح «الإطار التنسيقي» وزير مالية المالكي الأسبق محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء، ورغم لجوء «الإطار التنسيقي» إلى مظاهرة عابرة ضد تحرك أنصار الصدر، إلا أن الأخير يبدو عازما على السير للنهاية، ومنح حكومة الكاظمي فرصة مضافة للبقاء، تمهد لانتخابات مبكرة جديدة، تطيح بنفوذ جماعات إيران نهائيا، وتكفل للصدر حضورا برلمانيا أقوى، يمكنه من إعادة النظر في الدستور، والتحول إلى نظام رئاسي لا برلماني، وإنهاء محاصصات التوافق الطائفي، الذي يوزع كعكة الفساد على الشركاء الطائفيين، ويجعل موارد العراق في خدمة تشكيلات دموية مسلحة، تتلقى دعمها الأساسى وتوجيهات عملها من إيران، تماما كما قال نوري المالكي في تسريباته الأخيرة ذائعة الصيت.
وتبدو الأيام المقبلة محكا حقيقيا لاختبار مصير تحولات الصدر ومفارقاته، خصوصا مع نزوع التشكيلات الطائفية الفاسدة للجم جموحه، وإظهار الاستجابة الجزئية لبعض مطالبه، بدعوى إعادة المياه إلى مجاريها في ما يسمونه حوارا، لا يهدف سوى لحماية لصوص بغداد من كل الطوائف، والإبقاء على صيغة حكم مريضة، توزع فيها المناصب الكبرى على الطوائف، ويكون فيها رئيس الجمهورية كرديا دائما، ورئيس الوزراء شيعيا دائما، ورئيس البرلمان سنيا دائما، وتتحول عن معنى الدولة إلى معنى الشركة المساهمة، وتطمس معنى الوطنية العراقية الجامعة، وتكرس تقسيمات عرفية لا دستورية، لا ينص عليها حتى دستور بول بريمر، ولم تؤد أبدا إلى حكومة فعالة ولا إلى وضع مستقر، بل إلى مزيد من التفتيت الفعلي لوحدة الكيان العراقي، وشفع حصص المناصب بحصص مقابلة من الثروات المنهوبة، وتكريس تواطؤ الكل مع الكل، وحرمان أغلبية الشعب الساحقة من موارد بلدهم الغني، وجعل الساسة العراقيين في وضع الدمى التابعة المأمورة من قبل دول جوار، وكل هذه المصالح قد تتحالف على اختلاف الألوان لردع مغامرة الصدر، وتفريغ مضامينها، وإبطاء قوة الدفع فيها، تماما كما جرى مع انتفاضة أكتوبر على عظم تضحياتها واتساع أشواقها إلى وطن يليق بالعراقيين.