يعلمُ المانحون الدوليون لليمن أن ثمة اختلالات في إدارة وإنفاق عشرات المليارات، التي قدموها -كمُساعدات إنسانية- يفترض أن تذهبَ إلى الشعب اليمني للتغلب على مُعاناته خلال ثماني سنوات من الحرب والفوضى، وعدم الاستقرار، في الأسبوع الماضي طلبت الأمم المُتحدة نحو أربعة مليارات ونصف المليار دولار لتلبية احتياجات ملايين اليمنيين وتحقيق الحد الأدنى من الاستجابة الإنسانية لعدة أشهر، وكانت الأمم المُتحدة قالت إنها أنفقت خلال ثماني سنوات ما يربو على 32 مليار دولار، للوفاء بمُتطلبات الاستجابة الإنسانية لنحو 25 مليون يمني، حيث نفترض أن تَعداد سكان اليمن يتجاوز 35 مليون إنسان، وهذه الأموال كبيرة جدًا ولا يمكن مُقارنتها مع تقييم واقعي، لمدى استفادة الفئات المُستهدفة من اليمنيين خلال هذه السنوات، خاصة أن هناك مُساعدات إنسانية تصل إلى اليمن مُباشرة، من دول ومُنظمات إنسانية ولم تتم عبر القنوات الأممية المعنية بتحقيق الاستجابة الإنسانية، في هذا البلد الذي زادته الحرب والأزمات والفوضى فقرًا على فقره، وضاعف الفاسدون من مُعاناة فقرائه.
إن مبلغ 32 مليار دولار من المُساعدات المُقدمة لليمن خلال سنوات الحرب هو مبلغ مهول جدًا، وبالتأكيد لم يصل إلى الشعب اليمني كاملًا، وربما لم يصل حتى نصفه، وفي غياب الشفافية والرقابة الصارمة، وأن نسبة كبيرة تتبخر وتذهب إلى قنوات مجهولة اعتادت ابتلاع أقوات اليمنيين، كما أن المُنظمات الإغاثية التابعة للأمم المُتحدة تستنزف أموالًا طائلة للإنفاق على نشاطها وعلى موظفيها العاملين في اليمن وتأمين استمرار الإنفاق عليهم حتى حين يتم إجلاؤهم من اليمن إلى دول أخرى بحجة استشعار المخاطر أو تعرضهم إلى تهديدات تحول دون بقائهم في مناطق الصراع، وبالتالي يستنزف هؤلاء الموظفون والخبراء أموالًا كبيرة رغم أنهم لا يقومون بأي عمل ميداني في إطار مهمتهم الإنسانية يعتمدون على مُنظمات ومؤسسات محلية في توصيل المُساعدات إلى مُستحقيها، كما أن وسائل الدعم اللوجستي تستنزف أموالًا كبيرة من قيمة المُساعدات ولا أبالغ إذا ما قلت بأن ما يتبقى من هذه الأموال لا يفي بالحاجة المُلحة للاستجابة الإنسانية في اليمن في كل الأحوال والظروف.
كانت هناك تقارير أممية خلال السنوات الأخيرة تتحدث صراحة بأن ثمة اختلالات خطيرة في عملية توزيع المُساعدات الإنسانية لليمن وفي إدارة وإنفاق هذه الأموال، التي تُقدمها الدول المانحة والمؤسسات الدولية في ظروف الحرب والصراع الراهن، وبأن هناك تغييبًا للشفافية وعجزًا في آلية الرقابة على إنفاق كل هذه الأموال وتوزيع المُساعدات لمن يستحقها، غير أن الدهاليز الأممية عادة ما تبرر حدوث بعض الاختلالات بطبيعة وظروف الصراع والحرب واضطرار المُنظمات الإغاثية الأممية إلى التعاطي مع الأمر الواقع وتقديم تنازلات للأطراف المعنية لتسهيل إيصال المُساعدات إلى مُستحقيها، وهذه المُبررات تنطبق على كل الاختلالات ما دامت تنطبق على بعضها، خاصة أن مُنظمات الإغاثة المحلية التي (تضطر) الأمم المُتحدة للاعتماد عليها في تنفيذ مهمتها الإنسانية في اليمن هي الأخرى تخضع وبشكل مُباشر للقوى المُسيطرة في الميدان والمُتحكمة في منافذ وطرق الإمدادات الإغاثية، وبالتالي تخضع لعمليات فساد ومُتاجرة وكسب غير مشروع على حساب الفقراء والمرضى والأطفال وكل ضحايا هذه الحرب في هذا البلد الفقير أصلًا، قبل أن تُحوّله الحروب والصراعات إلى أدنى مراتب الفقر والعوَز، والأكثر عرضة للموت نتيجة الأوبئة الفتاكة.
والحقيقة أن كل الأطراف في اليمن بما فيها مؤسسات الإغاثة الأممية يتحملون مسؤولية ما آل إليه اليمنيون من فقر ومرض وعوَز ومُعاناة، وبالتالي حين طلبت الأمم المُتحدة الأسبوع الماضي من المانحين -في مؤتمر دولي عُقد لهذا الغرض في جنيف- تمويلَ جهودها الإغاثية والمُساعدات الإنسانية في اليمن بمبلغ أربعة مليارات ونصف المليار دولار لفترة محدودة كانت الاستجابة من المانحين ضعيفة، ولم تتمكن المُنظمة الأممية من الحصول إلا على أقل من ربع هذا المبلغ، وبالتالي يتوجب على الجهات المسؤولة عن دعم وتمويل الاستجابة الإنسانية في اليمن، إعادة مُراجعة أدائها لجهة توظيف مواردها لتحقيق الحد الأدنى من الاستجابة الإنسانية ومن الشفافية والرقابة على وجهة الإنفاق والإعلان عن مسؤولية أي طرف داخلي، يُساهم في عرقلة نشاطها حتى لا يكونَ الجميع شركاء في الفساد، وفي ضوء ما يشهده العالم من حروب وكوارث طبيعية وتراجع اقتصادي أخشى ألا يحظى موضوع مُساعدة اليمن وإغاثة اليمنيين بأولوية لدى المانحين خاصة إذا لم ترتفع ثقتهم لجهة بأن ما يُقدمونه من أموال يجب أن تذهب إلى مُستحقيها، ولا تذهب بها رياح الفساد والفوضى إلى أيدٍ فاسدة أو بطون مُتخمة ممن قلوبهم لا ترحم ولا تردعهم ضمائرهم، إن كانت هناك من ضمائر تُرتَجى.