تسبّبت معركة "طوفان الأقصى"، والعدوان الصهيوني غير المسبوق في شراسته وحجمه ومداه على غزّة والشعب الفلسطيني، في مأزق وجودي للنظام الرسمي العربي ومن الصعب توقّع نتائج هذا المأزق على المدى القريب والبعيد، خاصة أنّ هذا النظام الرسمي العربي لم يكن في أفضل حالاته وإنما كان في وضع الموت السريري، ولم يتبقّ إلا مظاهر وجوده كنظام للتضامن والأمن الجماعي العربي.
العديد من دول هذا النظام العربي عانت وتعاني من حروب أهلية وانقسامات وانتهاء جيوشها وتحوّلها إلى مليشيات تدير حروبًا أهلية وصراعات طائفية ومناطقية وليست مؤهلة لأيّ دور في حفظ الأمن القومي العربي، بل في الدفاع عن دولها وأمنها، ودول أخرى طبّعت مع العدو الصهيوني بل وربما رأته أقرب لها من بعض فصائل المقاومة الفلسطينية مثل "حماس"، ودول جديدة في طريقها للتطبيع، وأربع عواصم عربية تحت سيطرة إقليمية إيرانية تدور مع الموقف الإيراني وتنفّذ سياسته ولا يمكن اعتبارها جزءًا من نظام إقليمي عربي موحّد وفعّال، حتى وإن بدا للبعض أحيانًا سبقها للنظام الرسمي العربي في دعم القضية الفلسطينية فإنّ ذلك لا يشكّل بديلًا أمثل من النظام الرسمي العربي كنظام للتضامن والوحدة والأمن الجماعي والمصالح القومية العربية، بل هو استخدام وظيفي وانتهازي للقضية الفلسطينية من قبل إيران لأغراض ومصالح سياسية وتوسّعية واستغلال للوضع الراهن للنظام العربي.
وغابت أولوية الأمن الجماعي العربي والتحديات والقضايا المشتركة في دول النظام الرسمي العربي، فقد أصبح لكل نظام أولويات وهواجس أمنية متعارضة مع أولويات دول أخرى في النظام ذاته، بل وأصبحت القضية الفلسطينية التي توحّد حولها النظام الرسمي العربي خارج اهتمام بعض الدول العربية، وفي الوقت الذي يتأكد فيه التحالف الأمني لعدد كبير من الدول العربية مع الولايات المتحدة الحليف الأول والداعم لـ"إسرائيل"، فإنّ دولًا إقليمية خارج المنظومة العربية مثل إيران وتركيا بل و"إسرائيل" ذاتها - عدوّة النظام الرسمي العربي - أصبحت تتقاسم عددًا من الدول العربية حماية وهيمنة على حساب الأمن القومي العربي.
ولد النظام الرسمي العربي مع ولادة "الجامعة العربية" عام 1944 كإطار مؤسّسي للنظام الرسمي العربي، ومع بدء ظهور الدولة "القُطرية" العربية وقبل عصر "الاستقلالات" الكبرى في الخمسينيات والستينيات، وقبيل قيام الكيان الصهيوني عام 1948 على أرض فلسطين وعلى حساب حقوق شعبه العربي، لم يكن وجود نظام رسمي عربي اختيارًا سياسيًا للتعاون بين دول متجاورة إقليميًا، ولكنه كان تلبية لطموحات وروابط "قومية" تربط شعوب ودول الوطن العربي التي بلغت مع تزايد الاستقلال 22 دولة بعد أن كانت عند التأسيس 7 دول فقط.
وقد ارتبط وجود هذا النظام الرسمي العربي بقضية الوحدة وبقضية الأمن القومي العربي، والتهديدات الخارجية ومنها التهديد الصهيوني ولاحقًا قيام "إسرائيل" كتهديد وجودي للنظام الرسمي العربي، وبالقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمّة العربية ولشعوبها ودولها، ورغم أنّ "بريطانيا"، التي كانت المخطّط والمنفّذ لاتفاقية "سايكس بيكو" التي مزّقت الوطن العربي وقضت على الطموحات العربية في الوحدة كما أنها هي صاحبة وعد بلفور "وعد من لا يملك لمن لا يستحق" الذي أوجد الكيان الصهيوني وخلق المأساة الفلسطينية، لم تكن بعيدة عن صياغة النظام الرسمي العربي في بداياته - ولعل هذا مأزقه الحقيقي - فإنّ العرب وخاصة مع عصر الاستقلالات والثورات في الخمسينيات والستينيات لم يتخلوا عن الأمل في جعل النظام الرسمي العربي أقرب إلى طموحاتهم وتطلّعاتهم القومية، أكانت في قضية تطوير صيغ للتعاون والوحدة أو في القضية الفلسطينية.
ورغم أنّ صيغة الجامعة العربية فشلت في التحوّل إلى صيغة ما من صيغ الوحدة العربية، فقد بقيت القضية الفلسطينية والتحدي الذي يفرضه الوجود الصهيوني محركًا أساسيًا للنظام الرسمي العربي، بل إنّ القمم العربية كأعلى صيغة مؤسّسية للنظام الرسمي العربي ارتبط وجودها واستمرارها بالقضية الفلسطينية، غير أنّ مقتل النظام الرسمي العربي كان في عدم قدرته على التحوّل إلى صيغة ملزمة لأعضائه مؤسّسيًا وبقائه باستمرار في إطار توافق الضعف بين إرادات ومشاريع متعارضة، فنقلت له الأنظمة العربية ضعفها وفي كثير من الأحيان تبعيّتها بدلًا من أن تستفيد من قوّته كنظام موحّد لتتقوّى به.
حقّق النظام الرسمي العربي بعض النجاح في مرحلة المد القومي العربي – رغم أنه كان يُنظر إليه باعتباره معيقًا للمستقبل الذي كان آنذاك واعدًا إلا أنه كان أيضًا الممكن الذي يوحّد العرب والذي يجب عدم التخلي عنه بل ولا بد من تعزيزه - وإلى جانب القمم العربية التي عُقدت في الستينيات وارتبطت بالقضية الفلسطينية ومواجهة التحدي الصهيوني بما في ذلك إنشاء منظّمة التحرير الفلسطينية، فإنّ النظام الرسمي العربي حقّق أعلى مراحل تعزّزه بالموقف الثابت من القضية الفلسطينية في "قمّة الخرطوم" بعد نكسة 1967 من خلال اللاءات الأربع وفي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، قبل أن يدخل هذا النظام الرسمي العربي مرحلة المأزق التي لم تتوقّف بدءًا من إعطاء السادات أمريكا 99٪ من أوراق اللعبة وزيارته المشؤومة للقدس المحتلّة واتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الجامعة العربية ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس، وحتى احتلال العراق للكويت وفشل النظام الرسمي العربي في إيجاد حل عربي يُلزم العراق بالخروج من الكويت واستقدام قوات أجنبية بدلًا من ذلك، ليدخل النظام الرسمي العربي في مرحلة انقسام طويلة أدت إلى ما عُرف آنذاك بالهرولة نحو العدو المشترك "إسرائيل"، وصولًا إلى احتلال العراق وبدء مرحلة الانحدار في النظام الرسمي العربي الذي تعمّق مع هيمنة أمريكية وإقليمية وانقسامات طائفية وتدمير للجيوش وتطبيع جعل البعض يعتقد أنّ القضية الفلسطينية انتهت وأنه لا عودة للحديث عنها كقضية مركزية ولا التحدي الصهيوني كتحدٍ وجوديّ للنظام الرسمي العربي.
ولم يكن هذا هو رأي الشعوب العربية رغم إشغالها في معظم أقطارها بالانقسامات والصراعات والموت والنفوذ الأجنبي والمليشيات والفقر والأزمات الاقتصادية، ولم يكن في الأساس رأي الشعب الفلسطيني داخل أرضه الذي بقي صامدًا يقاوم ويقاتل ويتحدى نيابةً عن النظام الرسمي العربي، وعلى الرغم من خذلان هذا النظام الرسمي العربي بما في ذلك السلطة الفلسطينية ذات الدور الوظيفي والتي هي جزء من النظام الرسمي العربي، بقيت "المقاومة" الفلسطينية في الداخل تطوّر أساليب للتحدي تتناسب مع المرحلة حتى أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعملية "طوفان الأقصى" ووضعت النظام الرسمي العربي أمام تحدٍ وجوديّ فشل في مواجهته حتى الآن وتأكّد مأزقه، على مدى أكثر من شهر انتظرت شعوب الأمّة العربية التي أثبتت توحّدها، رغم كل ما تمرّ به شعوبها ودولها، أنّ هذا النظام الرسمي العربي سيحاول إنقاذ نفسه من المأزق ويتوحّد مجددًا حول التحدي الذي فرضه العدوان الصهيوني الغاشم على غزّة، ولكن هذا لم يحدث، وباستثناء مواقف فردية لدول الطوق مثل مصر والأردن لرفض التهجير وما يمثّله من تهديد لها وتصفية للقضية الفلسطينية، فقد بقيت المواقف العربية تأكيدًا على مأزق هذا النظام الرسمي أكثر من كونها تعبيرًا عن أنه في طريقه للخروج من مأزقه بموقف ضد العدوان والإبادة الجماعية تفرضه عليه القوانين الدولية والإنسانية قبل أن تفرضه الروابط القومية والأمن الجماعي العربي.
وعند الدعوة للقمّة، راهنت شعوب الأمّة العربية على أنها قد تكون خطوة لإنعاش ما تبقى من النظام الرسمي العربي، لكن هذا النظام أكد أنه في غيبوبة لم يفق منها، وهو اليوم أمام تحدٍ وجوديّ كنظام رسمي، بل وأنّ دول الوطن العربي ستواجه نتيجة ما يحدث لفترة طويلة.
كان لنكبة 48 تأثيرًا بالغًا على النظام الرسمي العربي وعلى دوله وأقطاره، ورغم أنّ حرب غزّة لم تتضح بعد مساراتها وبالتالي نتائجها الكاملة، فإنّ مأزق النظام الرسمي العربي حتى الآن وعجزه وحجم الجرائم الصهيونية ومخططات التهجير والحديث الصهيوني عن "نكبة" جديدة، يضع هذا النظام أمام اختبار، فإما أن ينجح ويخرج من مأزقه ويستعيد تعبيره عن التطلّعات والأماني العربية والمصالح المشتركة، وإما أن يفشل ويدخل الوطن العربي في مرحلة أشد ظلامًا مما سبق من تمزّق وهيمنة أجنبية.
عن عروبة 22