دهمنا العيد قبل أن نستعد له بما يليق بدهر انتظاره: ها هم فتية مصر يعيدون إليها الروح، ويستعيدون الوطن العربي من ليل القمع والخرافة والتيه عن هويته، ويتقدمون بها وبه على طريق الغد الذي سُرق منها ومنهم لزمن مفتوح على الخيبة والشعور بالعجز عن التأثير.. وسنؤرخ بالفجر الجديد الذي انبثق عفياً من قلب ليل الثاني عشر من شباط ـ فبراير ـ 2011، بوصفه موعداً مع الدخول إلى العصر.
ها هم فتية مصر يعيدون الاعتبار والمعنى إلى كلمات ابتذلها من استخدمها زوراً ليغطي طغيانه: الحرية، الديموقراطية، كرامة الشعب، إرادة الأمة، وينجزون ـ خلال عشرين يوماً ـ ما عجزت أحلام آبائهم عن إنجازه خلال ثلاثة عقود، بل أربعة إذا ما استذكرنا بيع دماء المجاهدين رخيصة في سوق نخاسة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي.
لم يحملوا من السلاح إلا إرادتهم وعلومهم وفقرهم ومعاناتهم من أجل الخبز مع الكــرامة. لم ينشــئوا ميليشيا، وهم أبناء الدولة التــي بدأ بها ومعها عصر الدول، لم يخرّبوا المؤسسات العامة التي كان الطغيان قد أفرغـــها من دورها في خدمة أصحابها الشرعيين. لم يدمّروا المنشآت الخاصة وهــم يعــرفون أنها حصيلة نهب عــرق جباههم. لم يتــشدقوا بشعارات طنانة وفخمة الإيقاع. لم يزعموا أنهم سيغيّرون الكون. قـــالوا فقط: نحــن هنا، نريــد استــعادة وطننا ودولته. تنادوا فتلاقــوا فأكدوا حضورهم فإذا حكــم الطغيان يتهــاوى بعدما عصى جيش الشعب رغبته في الانتقام والتدمير... وإذا جبروت الطاغية يتهاوى كبيت من قش أمــام صمودهم العظــيم صفاً واحــداً. لــم يوحّدهم حـــزب ولا جماعة ولا جبهة مدوية الشعارات في فراغ القــدرة. نادوا بعضهم بعـضاً فـإذا هـم الشـعب كله.
مشوا إلى ميدان التحرير فنصبوا إرادتهم راية، فإذا الناس ـ أهلهم ـ يأتون إليهم من كل حدب وصوب وقد سلّموا بأهليتهم للقيادة. لم ترهبهم آلة القمع التي أعدها النظام البارك عليهم منذ ثلاثين عاماً أو يزيد. رقصوا، غنوا، أنشدوا، كتبوا. أكد كل كفاءته: أفواج للحراسة والتنظيم، الأطباء لمعالجة الجرحى ومن تأخذهم النشوة إلى الإغماء، الصيادلة لتأمين الدواء، وأفواج لاستلام تبرعات أهلهم بالخبز والمأكولات السريعة. والجميع لمواجهة طوابير الأمن المركزي ورجالات الشرطة الذين خصص قائدهم وزير الداخلية المكافآت لمن يبدع في إهانة شقيقاته ورفاقه وأهله، فإذا احتاجت قوات القمع مدداً جيء بأصحاب السوابق والبلطجية والحرامية من أبناء الليل لكي يفرّقوا شملهم فما تفرّق. وحــين نزل إليهــم الجيش اطــمأنوا فارتدوا على مهاجمــيهم من راكــبي الجمال والبــغال والحمــير حتى هزموهم.
جاءوا عشرات إثر عشرات، مئات إثر مئات، ألوفاً، عشرات الألوف، مئات الألوف، مليوناً إثر مليون... امتلأ بهم الميدان، امتدوا إلى الإسكندرية والمنصورة، إلى طنطا وبني سويف، إلى الفيــوم وأسيوط والمنيا إلى الأقصر وأسوان والخارجة. صاروا كموج البحر الذي بلا ضفاف. صــاروا الأمة. قالوا: نحن هنا! نحن الوطن! نحن السيادة، نحن الحرية، نحن التقدم... وإلى جهنم الطاغية ونظامه البوليسي المتخلّف، المستقوي عليهم وهو المرتهن ـ بإرادته ـ لدى العدو الإسرائيلي والمهيمن الأجنبي.
جاءت مصر كلها، بفقرائها، بمتوسطي الحال والأغنياء بجهدهم وعرق الجباه والكفاءة. وتابعتهم الأمة وقلوب أبنائهم في عيونهم، يتأملون فيهم صورة مستقبلهم. صار الوطن للجميع، اقباطاً ومسلمين، والدين لله.
لم يكن حلماً، بل كان أبهى كالحقيقة. كــانت الإرادة تدوي وهــي تصنع التاريخ فتبدّل المصائر لتصنع النصر الذي كان يتبدى مستحــيلاً.
صار فتية الورد حركة. صارت الحركة ـ بالإرادة ـ ثورة. صارت الثورة طوفاناً. هم العقول المنوّرة بالعلم. هم أبناء الشقاء والظلم الأبدي. هم أبناء الفقراء والمفقرين. أبناء الناس الطيبين الذين سئمهم الصبر وظلوا يأملون عبثاً أن ينتبه إليهم نظامهم الدكتاتوري. أن يستذكر أنهم قد ارتضوه رئيساً لأنه حارب عدوهم، فإذا به يستــضيف العدو إلى إفطارات رمضانية، ويقاتلهم بالجوع والإذلال ورهن إرادتهم وإضعاف دولتهم ودفعها إلى الشارع الدولي تتسوّل القروض والإعــانات بكرامتها. تساءلوا: هل هذه هي مـصر؟ هل هذه دولتـنا التي كان لهــا شرف القيادة ومجد الريادة ليس في وطنها العــربي الكبير وحده، بــل في كل أفريقيا ونصف آسيا، وكــان لها مجد الحضور في النــادي الدولي بوصفها صاحبة قرار.
[ [ [
كانوا فتية بعقول حكماء، وكانوا ثواراً بصدق الوطنيين: لم يطلبوا العون من أية جهة، بل هم رفضوا أن «ينصحهم» الخارج، أو أن يدعمهم، أو أن يتبنى مطالبهم. هذه معركة تحرير وطنهم، وهم لها. هذه لحظة إثبات أهليتهم بوطنـهم بــحضارته
الممتدة من فجر التاريخ، ولسوف يثبتونها. هذه لحظة إسقاط الطاغية، وهي مهمتهم. ولقد نجحوا.
كانوا أذكى من أن يخدعهم الطاغية بتنازلات جزئية تبقيه وتلغيهم. رفضوها وهم يؤكّدون رفضهم. وكانوا أذكى من أن يجروا إلى مصادمة الجيش الذي عرف فيهم أهله فانحاز إليهم. وكانوا أصلب من أن تجوز عليهم حيلة تعيين نائب الرئيس، ثم حيلة تفويضه بصلاحياته. ثبتوا حتى سقطت الخدع جميعاً، ووقف «النائب» في مواجهتهم يعلن «تنحي» الرئيس وتنحيه معه، مفوضاً الجيش.
مع لحظة سقوط حسني مبارك ومعه نائبه عمر سليمان، اندفعت العواصم تستذكر كم نصحته، وكم تمنت عليه أن يكون «ديموقراطياً»، فأبى، لأنه لا يعرف أن يزوّر طبيعته.
ومع سقوطه الفعلي تبارت العواصم بقيادة واشنطن ورئيسها الأسمر ذي الجذور الإسلامية، باراك أوباما، تحاول ادعاء «أبوة» الانتصار الذي حققه فتية مصر، وتحاول استمالتهم بوصفها الوكيل الوحيد للديموقراطية، إنتاجاً وتوزيعاً، في العالم كله، وبادعائها أنها المرجع الفرد للحرية وصناعة التاريخ... اما نادي الملوك والامراء والسلاطين والرؤساء المزمنين، فانهم ارتعدوا من هذا التغيير الآتي اليهم.
[ [ [
اليوم عادت مصر إلى مصر. عادت مصر إلى هويتها الأصلية. وستعود غداً إلى دورها المفتقد، والذي لا يعوّضه غيرها. وها هي الأمة العربية من أقصى مغربها إلى أدنى مشرقها ترقص فرحاً في الشوارع، وتعلي راية مصر خفاقة على شرفات المنازل وواجهات المحال التجارية والفنادق والمصانع وسيارات الأجرة.
لقد هُزم الطغيان في الأرض العربية. تونس كانت المقدمة، وها مصر تكتب سيرة الغد بانتفاضتها المجيدة.
ولكم كانت نبيلة تلك اللفتة من الجنرال قارئ البيان الثالث لقيادة القوات المسلحة حين رفع يمناه بالتحية، حين جاء على ذكر شهداء ثورة مصر التي أعادت إلى الأمة ثقتها بنفسها وإيمانها بأنها قادرة على صنع غدها.
ساعات ما قبل النصر
انتصار ثورة مصر الذي جاء مدويا، سبقته ساعات حرجة بعدما امتنع مبارك في كلمته الاخيرة الى المصريين مساء امس الاول عن اعلان التنحي الذي يبدو ان البيت الابيض كان يتوقعه منه شخصيا، واكتفى بتفويض صلاحياته الى نائبه عمر سليمان، ما أشعل غضبا شعبيا مصريا لم يسبق له مثيل، وساهم في بلورة قرار المحتجين في إنزال الشعب المصري برمته الى الشوارع امس، والانتقال من الاعتصام في ميدان التحرير الى باحة قصر الاتحادية الرئاسي، وهي خطوة نفذت في ساعات الصباح الاولى وتوجه آلاف المتظاهرين الى الشارع المؤدي الى القصر، وسرعان ما ارتفع عددهم الى نحو 200 الف متظاهر مزودين بالخيم والاسعافات الاولية، حاولوا بالفعل التقدم الى القصر لكن وحدات الحرس الجمهوري تصدت لهم، وبدا ان المواجهة اتخذت شكلا جديدا وساحة جديدة وسط إنذارات شعبية متتالية باقتحام البوابات الرئيسية.
في تلك اللحظات سرب الخبر الاول الى قناة العربية عن ان مبارك وأفراد أسرته غادروا القصر والقاهرة على متن طائرات عسكرية انطلقت من مطار الماظة العسكري القريب، من دون ان تتحدد وجهتهم، التي تردد انها شرم الشيخ، ما ساهم في تهدئة المتظاهرين الذين كانوا يضغطون على وحدات الحرس الجمهوري، وباتت قيادة الجيش وقواتها في موقف صعب، لانها لم تكن تود الاصطدام مع المحتجين لكنها لا ترغب ايضا في السماح لهم باقتحام القصر، ما دفعها الى اصدار بلاغها العسكري الثاني الذي يتعهد بصون الثورة ومكتسباتها وبتنفيذ التعهدات التي قدمها مبارك حول تعديل الدستور وقبول الطعون في الانتخابات النيابية والانتقال الى التجربة الديموقراطية المنشودة. لكن ذلك البلاغ لم يوقف الهجوم على القصر ولم يبدد عزيمة المتظاهرين على اقتحامه والاعتصام في حرمه حتى رحيل مبارك الفوري، فيما كان جمهور ميدان التحرير يستعد لحسم المواجهة مع الرئيس والنظام، مستفيدا من الدعم الهائل الذي تلقاه من جموع المصريين الذين انضموا اليه.
ومع ساعات الظهر تصاعدت المواجهة، وسط مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف، فيما كانت القيادة العسكرية تناقش سبل اقناع الشعب بالهدوء والتروي، لا سيما بعدما تبين ان سليمان عاجز عن القيام بمثل هذه المهمة لا سيما بعدما فشل في دوره السياسي الاخير في احتواء المعارضين للنظام وشق صفوفهم وكسب المزيد من الوقت لرئيسه. واستقر الرأي على ان الجيش وحده هو الذي يستطيع تهدئة الغضب الشعبي، لانه لا يزال يحظى بمكانة خاصة في قلوب المصريين ويمثل خط الدفاع الاخير عن الدولة والشرعية، فتقرر ان يقوم سليمان بواجبه الاخير ويعلن بنفسه عن تنحي مبارك عن الرئاسة وعن تنحيه ضمنا عن منصبه كنائب للرئيس، ويفسح المجال للمجلس الاعلى للقوات المسلحة كي يتولى زمام الامور، التي لا تزال حتى اللحظة تتسم بالضبابية، لان بلاغاته الثلاثة لم تعلق العمل بالدستور ولم تعلن الاحكام العرفية كما هي العادة، بل اكتفى بالاشــراف على عملية الانتقال المنظم للسلطة.. التي لم يعرف ما اذا كانت ستحمل او ستحتاج الى توقيع رئيس المجلس وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي.
وفور انتهاء سليمان من تلاوة بيان تنحي مبارك المقتضب وتسليم السلطة الى المجلس الاعلى، شهدت مصر عرسا شعبيا لم يسبق له مثيل، ورقص المصريون وغنوا في الشوارع والساحات في جمهوريتهم المستعادة وفي جميع مراكز اغترابهم حول العالم وتبادلوا التهاني بانتصار ثورتهم السلمية التي صارت علامة فارقة في تاريخ الانسانية، وهللوا لاستعادة وطنيتهم من قاع القهر والذل والهوان، ورفعوا رؤوسهم عاليا، وتحولت احتفالاتهم الى موجة فرح عربية وعالمية عارمة، فتسارع المهنئون بالنصر من مختلف العواصم، وتهاوى بعض الذين حاولوا سرقته من شعب خرج الى الثورة بحسه الطبيعي ومن دون اي شعارات او ايديولوجيات سياسية.
ولم يجرؤ المجلس العسكري نفسه على قطع هذا الاحتفال الشعبي التي استمر حتى ساعات متأخرة من الليل، استعدادا للفجر الجديد الذي صنعه المصريون بجدارة وكرامة. وامتنع الجميع عن طرح الكثير من الاسئلة المعلقة حول طبيعة المرحلة الانتقالية ومدتها، علما بأنه تردد ان الجيش ينوي الدعوة الى اجراء انتخابات رئاسية مبكرة في غضون ثلاثة اشهر على ابعد تقدير، تكون خلالها التعديلات الدستورية قد انجزت، ومهدت لتسلم رئيس مدني يقود عملية اصلاح جذرية للنظام برمته، تتضمن بداية تنظيم اجراء انتخابات نيابية جديدة ودعوة المصريين الى الكثير من الاستفتاءات الشعبية لنقل بلدهم الى رحاب الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، حسب الشعارات التي رفعها جيله الشاب الذي قاد الثورة الاهم وحمل بشارة قرن عربي وإسلامي مشرق