أول تهنئة هاتفية تلقيتها من خارج مصر بعد الإعلان عن تنحى الرئيس مبارك كانت من موريتانيا، من صديق يعمل أستاذا للفلسفة بجامعة نواكشوط.
الثانية جاءتنى من بيروت التى وجدت أنها تنافس القاهرة فى الفرحة. الثالثة كانت من صنعاء، من أحد الصحفيين الذى فوجئت به وقد انخرط فى البكاء وهو يقول إنه وجيله يشعرون أنهم ولدوا من جديد. الرابعة كانت من اسطنبول. الخامسة كانت من محام بارز فى الدار البيضاء قال إنه تمنى أن يكون فى ميدان التحرير ليقبل يد كل من رابط فيه.
صديقى الأردنى الذى حدثنى من عمان قال إن مظاهرات حاشدة كانت قد خرجت احتجاجا ضد الحكومة، وحين علم المتظاهرون أن مصر الغاضبة انتفضت ضد الرئيس مبارك، فإنهم انفضوا بسرعة وعادوا إلى بيوتهم ليتابعوا على شاشات التليفزيون وقائع ما يحدث فى القاهرة.
من دمشق قال لى السيد رمضان شلح أمين حركة الجهاد الإسلامى إنه حين التقى الدكتور موسى أبو مرزوق نائب المكتب السياسى لحركة حماس فإن الأخير بدأ حديثا عن الأوضاع فى غزة، فما كان من الأول (أبوعبدالله) إلا أن قال له إن مصر هى القضية الآن وليست غزة، لأن مصر إذا صحت فإن تلك ستكون الخطوة الأولى لتحرير فلسطين وليس حل مشكلة غزة وحدها.
لست أشك فى أن ما جرى معى تكرر مع غيرى ممن يتاح لهم التواصل مع المثقفين العرب والطواف بعواصم المشرق والمغرب فى المناسبات المختلفة. كما أننى لست أشك فى أن المثقفين المصريين سمعوا مثلى حيثما ذهبوا فى العالم العربى السؤال الذى ظل يتردد على الألسنة طوال الوقت حول أوان عودة مصر من تغريبتها التى طالت، فضيعتها وضيعت معها العالم العربى الذى تحول إلى فريسة توزعت على موائد اللئام. وهو ما أشرت إليه من قبل فى كتابات عدة، وما سجله آخرون ممن لمسوا كيف صغرت مصر وهانت، حتى فقدت مكانتها وهيبتها، وأصبح الغيورون والوطنيون يتحدثون عنها بمشاعر يختلط فيها الحزن مع الرثاء. وباتوا يذكرونها باعتبارها فقيدا غاليا غيَّبه الموت، أو باعتبارها عزيز قوم انكسر وذل.
لن أتحدث عن مشاعر الشرفاء والأحرار الذين أحبوا مصر واحترموها فى العالم الخارجى، ولا عن بركان الفرح الذى انفجر فى كل أرجاء مصر وشاهد الجميع أصداءه على شاشات التليفزيون، ولكننى ألفت النظر إلى أن الحدث المصرى الكبير الذى دوت أصداؤه فى أرجاء العالم العربى، هو بمثابة صدمة أفزعت كل إسرائيل، قادتها وشعبها، ممن استعلوا واستكبروا حين تصوروا أن مصر أصبحت جثة هامدة وأماتت معها العالم العربى. وفى عجزها وخيبتها فإنها غدت فى النظر الإسرائيلى «كنزا استراتيجيا» يتعين الإشادة به والحدب عليه.
أما قيامة مصر، واستعادتها لكبريائها وكرامتها بما قد يستصحبه ذلك من أصداء فى العالم العربى، فإنها تعد كارثة تهدد الاستراتيجية الإسرائيلية وتستدعى إعادة النظر فى مرتكزاتها.
لم يعد سرا أن أبالسة السياسة الإسرائيلية تحوطوا لذلك الاحتمال أثناء توقيع معاهدة كامب ديفيد معهم، ومن ثم أخذوا على الرئيس السادات ونظامه الذى كان مبارك استمرارا له تعهدات وضمانات لا نعرفها، أريد بها ألا تدخل مصر مع إسرائيل فى حرب أخرى، بعد الصدمة التى تلقتها بالعبور الذى تم فى عام 1973. وقد كانت تلك التعهدات حاضرة فى خلفية إشارات السادات المستمرة إلى أن ما وقع بين مصر وإسرائيل هو «آخر الحروب». ولا تفوتك فى هذا السياق دلالة ما حدث أثناء ثورة الشعب المصرى حين أعلنت إسرائيل أنها «سمحت» للرئيس مبارك بإدخال بضع مئات من جنود الجيش المصرى إلى سيناء (التى هى جزء من التراب المصرى)، وطلبت تحديد موعد لخروجهم. وفى وقت لاحق رفضت طلبا مصريا بزيادة ذلك العدد، حيث يبدو أن حكومة الرئيس مبارك أرادت أن تحتاط لمواجهة أى تهديد فلسطينى من غزة (!!). بذات القدر فينبغى ألا تفوتك دلالة التحليل أو التحذير الذى نشرته صحيفة هاآرتس أمس (السبت 12/2) فى سياق مقالة كتبها زفاى بارئيل، وكان عنوانها «يجب على الجيش المصرى أن يسير على نهج مبارك». فى دعوة صريحة لضم الجيش بدوره إلى كنز إسرائيل الاستراتيجى!
لست من الداعين إلى فتح ملف العلاقات مع إسرائيل الآن، ولكن الحاصل أنهم هم الذين يستدعونه، وكذلك الولايات المتحدة وحلفاؤها، بل إننا وجدنا أن السيدة ميركل المستشارة الألمانية حين علقت على ما حدث فى مصر فإنه لم يشغلها فى أمر الثورة المصرية سوى مدى تأثيرها على معاهدة السلام مع إسرائيل.
إن صحوة مصر تطرد النوم من عيون كثيرين، ممن يعرفون حقيقة قدرها، وهو ما لم يعرفه أبدا نظام مبارك الذى ظل طوال ثلاثين عاما عاجزا عن أن يفهم هذا البلد أو يعرف قدره. لذلك لم يكن غريبا ألا يفهم ثورة شباب مصر وأن يعجز عن استيعاب رسالتهم.
الشرق القطرية