Home Articles Orbits حين يكون العار عارياً لا تحصل فضيحة
حين يكون العار عارياً لا تحصل فضيحة
عزمي بشارة
عزمي بشارة
من لم يلاحظ ملمحاً جدياً في ذهول الوجوه في جنيف؟ لقد ذهل حتى من سمكت جلودهم لكثرة استخدام مادة حقوق الإنسان أداة في السياسة والخطابة. لكنه الذهول من كون الفضيحة تكمن في عدم وجود فضيحة. 

فالفضائح تصدم عادة بعد انكشاف (أو ادعاء انكشاف)، أي انفضاح، معلومات استترت عن العيون حتى اللحظة. وتصاغ المعلومات الجديدة على شكل قصة مشينة بمعايير الغالبية، وبمعايير أبطال القصة: سرقة، 

خيانة وطنية، تآمر مع العدو لتسليم أصدقاء، مصالح مالية وراء موقف سياسي مفاجئ وغريب. في جنيف كان كل شيء واضحاً إلى حد الذهول.

لقد ارتسم الذهول على النفوس والوجوه من شدة الوضوح والمجاهرة وليس من وطأة الانكشاف. ويكتفي المذهولون من الوضوح بالتعبير عن الدرجة بإضافة عبارتين: “كنت أعلم... ولكن لم أتوقع أنهم 

وصلوا إلى هذا الحد”.
جرت العادة أن تطالب حركات التحرر “المجتمع الدولي” باتخاذ موقف من جرائم الاحتلال. تحاججه وتحرجه بازدواجية معاييره الداخلية والخارجية. تتوسّله. في جنيف كان ما يسمى زوراً وبهتاناً ب”

المجتمع الدولي” محرجاً سلفاً بتقرير جاء مفاجئاً بالتفاوت بين التوقعات من معده المكلف به والمؤتمن عليه من جهة، وبين مضمونه من جهة أخرى. وهدّدت “إسرائيل” السلطة علناً وليس سراً. مرة أخرى 

أكرر: هددهم نتنياهو وغير نتنياهو علناً في خطابةٍ متكررةٍ بأن استمرار ما يسمى زوراً وبهتاناً ب”عملية السلام” وتلبية “مطالبهم الاقتصادية” مرهون بعدم تأييد التقرير الأممي الذي يدين “إسرائيل” على 

جرائمها في عدوانها الاستعماري على قطاع غزة. أما ليبرمان فقد هدد بالكشف عن تورط السلطة الفلسطينية في دعم الحرب “الإسرائيلية”. وتراجعت السلطة علناً عن تأييد التقرير. فالتأجيل في عرف الهيئات 

التي تحشد رأياً عاماً وترقّباً وأصواتاً هو تنفيسٌ لجهد، وهو في الواقع إفشالٌ لمشروع قرار. ثم عندما يتراجع “صاحب الشأن” عن القضية يصبح بإمكان الآخرين أن يتحرروا من العبء. لينتقل صاحب الشأن بعد 

ذلك إلى الاختباء وراء تحرر الآخرين من العبء.

مكتب رئيس السلطة يسرّب معلوماتٍ أن الضغط للتراجع عن دعم التقرير جاء من مكتب رئيس الحكومة، والأخير يؤكد العكس. وطرف ممن كان يساراً فلسطينياً يدين “الموقف المخجل” للمندوب الفلسطيني في 

جنيف، وكأن الأخير هو صاحب قرار. في حين أن ممثل الفصيل اليساري يجلس في الحكومة صاحبة القرار، ويؤيد الرئيس صاحب القرار. وخذ على هذا المنوال!

 عارنا في جنيف. الوجوه كالقديد، وفقدان ماء الوجه بلغ حد التحنط.

شهدت مناقشات الجمعية العامة إبان الحرب على غزة مجريات مخزية شبيهة بعملية إفشال مشروع قرار قطري باكستاني قدم في حينه والقصف جارٍ. وقد ذُهِلَ الكثيرون، ومن بينهم رئيس الجمعية العامة في حينه من 

علنية الجهد الفلسطيني في إفشال مشروع قرار لإدانة “إسرائيل”.

على كل حال يعرف القاصي والداني كيف يقوم طرف بمهمة ما وهو يُجَر إليها جراً. كانت الشماتة أثناء الحرب سافرة. وليس المقصود شماتة بدائية، بل شماتة سياسية عقلانية تبنى على ضرورة أن يستنتج الشعب 

الفلسطيني أن الموقف الداعم للمقاومة يؤدي إلى التهلكة، وأن موقف التعاون مع “إسرائيل” يقود إلى الرخاء. 

المشكلة بالنسبة لمن يتمسك بالحقوق الفلسطينية لا تكمن في شح أو قلة المعلومات. وإذا كان من أمر يميّز عصرَنا هذا فهو وفرة المعلومات ومصادرها، وتحوّل الإشكال إلى تصنيفها وفصل قمحها عن زوانها، وتجنب 

قراءة مؤامرة أو حكاية وراء كل تفصيل.
تكمن المشكلة في التردد والتأرجح بين الانجراف مع خطاب الأنظمة الرسمية العربية القائمة والإعلام القائم من جهة، وبين خطاب عربي فلسطيني من جهة أخرى. والأخير لا يستقي مشروعيته مما يسمى الشرعية 

الدولية، ولا من قرارات مجلس الأمن، ولا من عملية السلام، ولا من خطاب الدولة العربية القطرية، بل من التناقض بين هدف وحدة الأمة وتحرير الإنسان العربي وعروبة قضية فلسطين من جهة، والمشروع الصهيوني 

من جهة أخرى.

ولن يسعف الموقف المتمسك بالحق والعدل لشعب فلسطين إلا الحاجة الشعبية والمجتمعية لخطاب سياسي عربي ديمقراطي مقاوم. وهذا ما لدى أصحاب هذا الموقف ليقدموه.

يجري حالياً توليد مشروع دولة فلسطينية هزيلة فاقدة السيادة، وهي فاقدة للشرعية التاريخية لأنها تقوم على مقايضة الدولة بحق العودة وبالقدس وبالانسحاب. وتشهد هذه الأعوام عملية تشكل شخصيتها. وقد التقى 

مشروع الدولة الفلسطينية مع “إسرائيل” قبل أن يولد، وذلك في أغرب تقاطع ممكن. التقيا على منع محاسبة دولة الاحتلال دولياً على جرائم ارتكبتها بحق شعب فلسطين.

ما بعد الحرب على غزة: 

قيل الكثير حول مجريات الحرب ذاتها ونوع المقاومة والصمود في قطاع غزة. وقد سجّل السياق السياسي لتلك الحرب سوابق خطيرة. ففي ظل الانقسام الفلسطيني الداخلي ثبت أن جزءاً من النخبة السياسية 

الفلسطينية جاهز للتنسيق مع المستعمِر في سياق حسم صراع سياسي داخلي. وبهذا المعنى اتخذ الانقسام الفلسطيني طابعاً جديداً لم تعرفه الانقسامات السابقة داخل حركة التحرر الوطني الفلسطينية. ويلقي هذا الطابع 

الجديد بظلال الشك حول ما إذا كان الانقسام هو فعلاً انقسام داخل حركة تحرر، بحيث يتم تفاديه بالدعوات للوحدة، وبالمناشدات الموجهة للإخوة بتجاوز خلافاتهم وتسخيرها في خدمة التناقض الرئيسي. وهو الخطاب 

القائم على مستوى التيار القومي وعلى مستوى الدول العربية في الوقت ذاته. وقد تجاوَزَتْه التطورات برأيي.

فموضوعياً التناقض الرئيسي هو مع “إسرائيل”، ولكن نشأت بنية اقتصادية سياسية لنخبة فلسطينية لا ترى فيه التناقض الرئيسي... وليس ذلك بسبب عدم وعيها لمصالحها، بل بسبب وعيها لها. فقد نمت مصالح 

جديدة في ظل التعاون مع “إسرائيل”، وفي ظل هيمنة الأخيرة.

لا يشبه الانشقاق الحالي انشقاقات فلسطينية سابقة حركتها ولاءاتٌ عربية متنازعة، أو أججتها صراعات على النفوذ، أو حتى خلافات سياسية داخلية فعلية. وطبعاً، يزيد تطابق الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة 

وقطاع غزة من حدة الانشقاق الحالي، كما يزيده وضع الخطاب الديني في مقابل العلماني حدة. ولكن مميزه الأساسي أنه لم يعد يجري في إطار حركة التحرر، بل بات شرخاً بين سلطة موالية للاحتلال وحركات مقاومة 

دينية الخطاب غالباً. وتُستَخدَم هذه الحقيقة الثانية، أي دينية الخطاب عند حركات المقاومة، من قبل مؤيدي التسوية أو أعداء المقاومة، وحتى من قبل فصائل ضعفت مكانتها، للتهرب من المسألة المركزية. وهي الفرق 

بين حركات مقاومة من جهة، ومن يتعاون مع الاحتلال في قمع المقاومة من جهة أخرى. هذه هي الحقيقة الأولى في سياق الاحتلال. لأنها تتعلق بالموقف من الاحتلال، وتميّز بين مقاومته والتعاون معه، وليس بين 

دينية أو علمانية من يقاوم أو يتعاون. وكانت ستتخذ مساراً مشابهاً لو كانت حركات المقاومة الفاعلة علمانية. وتتجلى هذه الحقيقة في:

أ استبعاد سلطة أوسلو علناً لأية أداة في “الصراع” مع “إسرائيل” فيما عدا التفاوض. وصار اسم الصراع أصلاً “خلافاً” مع “إسرائيل”. وتتردد في الخطاب الإعلامي العربي عبارات مثل “خلاف 

بين الطرفين”. والحقيقة أن التنازل عن العنف في حل “الخلافات العالقة” هو الموقف الذي يُعلَن عادة بعد توقيع اتفاق سلام. وهذا يعني أن العلاقة بين السلطة و”إسرائيل” هي علاقة سلام، أو هي علاقة 

تفاوُض في ظل “السلام والأمن” وليس من أجل “السلام والأمن”، وهذا حتى باللغة “الإسرائيلية”. ومن هنا ليس ثمة ما يضغط على “إسرائيل”.

ب تبنّي محمود عباس وطاقمه، الذي أصبح بعد مؤتمر فتح الأخير قيادةً رسمية للحركة، ما حاول ياسر عرفات التهرب منه طيلة فترة ترؤسه للسلطة الفلسطينية، وهو التنسيق الأمني (الجدي) مع “إسرائيل”. وقد 

كانت “إسرائيل” تشكو من هذا التملص العرفاتي، مؤكدة أن التنسيق الأمني بموجب أوسلو ثم خارطة الطريق، هو مهمة السلطة الأصلية، وهو كفيل بحل “مشكلة الإرهاب”. وقد أدى التنسيق الأمني المكثف مع “

إسرائيل” مؤخراً إلى: 

1- فقدان طابع وثقافة وأخلاقيات حركة التحرر الوطني، وما يفرزه ذلك من إسقاطات على الوعي الشعبي.

2- القمع المباشر للمقاومة بالقتل والسجن، وتعقيد ظروف المقاومة بشكل خاص في الضفة الغربية.

 3- قيام أجهزة أمنية فلسطينية جديدة مؤلفة من أجيال جديدة لم تكن منظمة في الكفاح المسلح الفلسطيني في الخارج، وتتلقى تدريباً أمريكياً - عربياً تتخلله تربية عقائدية تنمّي ولاءً للسلطة وأجهزتها، وليس لمنظمة 

التحرير، وشطب كامل لصورة العدو “الإسرائيلي” واستبدالها بصورة المقاوم الفلسطيني الذي يهدد الأمن والنظام والسلم الاجتماعي ويخرق الاتفاقيات الموقعة.

4- زوال أي رادع أمام أي دولة في العالم، بما فيها الدول العربية، من التنسيق أمنياً وليس فقط سياسياً مع “إسرائيل”. خاصة إزاء تأسيس سابق وانتشار لمقولة “الممثل الشرعي والوحيد”، و”أصحاب 

القضية”، و”أهل مكة أدرى بشعابها”.

ت - كما تتجلى حقيقة هذا التعاون مع الاحتلال في موقف “إسرائيلي” ودولي يعيد البناء في الضفة بعد الحرب على غزة، بدل أن يعيد البناء في غزة، وذلك لتعزيز منافع المواطن من تأييد سلطة في ظل الاحتلال 

مقارنة مع الحصار على غزة الذي “تسبب به” تأييد حركة مقاومة للاحتلال. 

وحتى في أوج التضامن العربي والدولي مع قطاع غزة لكسر الحصار كان الاعتبار الأساسي هو مساعدة السلطة في الضفة لتشكل بديلاً سياسياً عن حماس في أي انتخابات قادمة. وساد تنسيق كامل بين السلطة 

الفلسطينية وأطراف عربية بشأن إحكام الحصار على غزة، والقيام بخطوات تجهض التحركات الدولية لتخفيف الحصار، وتضع زمام المبادرة الدولية وحتى العربية الرسمية بيد سلطة أوسلو عندما يتعلق الأمر بالقضية 

الفلسطينية. ومن هنا تحول مؤتمر شرم الشيخ مثلاً من مؤتمر لإعادة البناء في غزة إلى استعراض التفاف دولي غربي حول أنظمة الاعتدال وحول سلطة أوسلو بعد أن تعرضوا جميعاً لعزلة شعبية ونقد عربي في 

مرحلة الحرب. وما زال الحصار على غزة يشتد. وتم إشغال الرأي العام الفلسطيني والعربي بالمصالحة في القاهرة، ثم بجولات ميتشل المكوكية، التي لا تعتبر غزة جزءاً من الاتصالات.

لقد شجع هذا الواقع سلطة أوسلو على عدم التعاون بشأن التوصل إلى تفاهم للوحدة الوطنية في حوار القاهرة. فما تريده وتعلن أنها تريده هو اتفاق ببند واحد. وهو موعد وطريقة إجراء الانتخابات لرئاسة السلطة 

ومجلسها التشريعي. وهي تطمح لإجرائها في الضفة الغربية وغزة، أو في الضفة الغربية وحدها في حالة عدم موافقة حماس على إجرائها في غزة، ثم الطعن بشرعية حكومة غزة مع ما يرافق هذا النوع من التحريض 

عادة باتهام الحركات الإسلامية بأنها تستخدم الانتخابات للوصول إلى الحكم، ثم تتخلى عن فكرة الانتخابات و”الديمقراطية”. وهي ادعاءات خارجة عن أي سياق.

لقد جرت انتخابات ديمقراطية لم يعترف “المجتمع الدولي بنتائجها”، بل حاربها وقوضها وحاصرها بالتعاون مع الخاسر المحلي في الانتخابات. وأقيمت حكومة بديلة بقيادة من خسر الانتخابات وبقيادة رئيس حكومة 

حصلت قائمته على ما لا يزيد عن 2% من أصوات فلسطيني الضفة والقطاع. إن إجراء الانتخابات الفلسطينية وهذا التحمس الديمقراطي لإجرائها على أنقاض الديمقراطية، وذلك كبندٍ وحيدٍ على الأجندة، لا يساهم فقط 

في تهميش ما لم يعد قضية مؤيدي التسوية الأساسية، ألا وهو الاحتلال، بل يُشَرعِنُ استخدامَ الحصار والضغط الجسدي والنفسي في عملية انتخابية. وإذا ما جرت الانتخابات في ظل الحصار، ودون إعادة بناء قطاع 

غزة، ودون تفاهم فلسطيني فلسطيني يتضمن الإفراج عن المعتقلين السياسيين عند الحركتين، فلن تعني هذه الانتخابات سوى عملية تزوير واسعة النطاق لإرادة الشعب الفلسطيني باستخدام القوة. فالناخب الفلسطيني فيها 

مخيّر بين اختيار سلطة وطريق ونهج أوسلو وجنيف ( اقصد جنيف غولدستون) و”منافع” دعم التسوية والتعامل مع الاحتلال، وبين استمرار الحصار. وهذا يعني إجراء انتخابات بمسدس موجه الى جبين 

الناخب.

يثبت هذا الواقع الذي وصلت إليه غزة أن حركة المقاومة لا يمكن أن تستخدم قواعد اللعبة التي يتحكم فيها الاحتلال دون أن تدفع الثمن. فالانتخابات هي لعبة على منصة الاحتلال وعلى حلبة العمل السياسي العلني في 

ظل الاحتلال، وتولّي السلطة هو لعبة تدور على حلبة اتفاقيات اوسلو وعلى حلبة النظام الدولي الذي يتبناها، وتعني تحمل مسؤولية القيام بأود الشعب تحت الاحتلال في ظروف تدعم فيها الدول العربية التسوية وشروط 

الرباعية رسمياً (الاعتراف ونبذ العنف والالتزام بالاتفاقيات الموقعة)، وترفض فيها دعم سلطة مقاومة. كما تتبنى الموقف الدولي القائل بتخيير حماس بين السلطة وتولي حاجات وهموم الناس اليومية وبين المقاومة 

ورفض التسوية.

هنالك بعض الثغرات في هذا الحصار “الإسرائيلي” - العربي الرسمي المضروب حول المقاومة (وحلقته الرئيسية هي السلطة الفلسطينية التي تتعاون مع “إسرائيل” ضد المقاومة باسم الممثل الشرعي 

والوحيد). ومنها خلافات عربية عربية تنافسية أو مملوكية الطابع، ومنها غضب عربي عن استغناء السلطة عن بعض الأنظمة في تنسيقها مع أمريكا و”إسرائيل”. (وبالعكس تحاول السلطة مؤخراً استخدام هذه 

العلاقات المتميزة مع أوروبا والولايات المتحدة لعرض خدماتها على دول عربية معزولة غربياً لتقريبها من وجهة نظرها ضد المقاومة). 

وتناور المقاومة حالياً بين هذه القوى مستغلة هذه الثغرات، ومن ضمنها إمكانية رفض مصري لإصرار محمود عباس على “إجراء الانتخابات في موعدها” (!!)، وتجنيد إصرار عربي على أن الانتخابات يجب أن 

تجري باتفاق وليس من دون اتفاق فلسطيني، وأن إعادة بناء الأجهزة يجب أن تجري في الضفة الغربية أيضا، وليس في غزة وحدها.. كما تناور مستغلة فشل مقولة تجميد الاستيطان الأمريكية وتراجع أوباما أمام 

الموقف “الإسرائيلي”، واستمرار التواصل الفلسطيني “الإسرائيلي” على أعلى مستوى رغم ذلك، وإحباط “إسرائيل” لمهمة ميتشل. ولكنها مناورات تهدف للبقاء والحفاظ على الذات بانتظار فرص أفضل.